أشرف الزغل /
‘أريد أن أشكر بوب ديلان. يا له من عرض. لم يسبق لنا أن أقمنا حفلة موسيقيّة مع فائز بنوبل. بوب هو والت ويتمان خاصّتنا.’
بهذا الكلام اختتم ميغ جاغر، مغنّي فرقة الرولنغ ستونز، فقرته الموسيقيّة يوم الجمعة الماضي، بعد أن غنّت فرقته مباشرة إثر فقرة صاحب جائزة نوبل للآداب لهذا العام. ديلان، الذي لم يردّ بعد على مكالمات جائزة نوبل، هو ذاته الذي استنكف عن حضور أكثر من حفل لتكريمه. من ضمن ذلك جائزة أوسكار، والميداليّة الوطنيّة الأمريكيّة للفنون، وميداليّة الأمير أستورياس. الإشارات كافّة تدلّ على أن ديلان هو ديلان، الرافض، والنزق، والفنّان.
لا يبدو أنّ هناك اختلاف على أهمّيّة عمله الغنائيّ المجدّد والثريّ، ولا جدال على حضوره الإبداعيّ الخاصّ، لكن فيما يتعلّق بالرابط الدلاليّ بين أغنية ديلان وجائزة نوبل للآداب (أو الأدب بعامّة)، ثمّة حنق هنا ورفض هناك وارتباك معلن بين هنا وهناك.
قبائل كاملة العدّة والعتاد أقامت معسكراتها النقديّة على أطراف ستوكهولم. في الصحافة العالمية، ثمّة من وصل به الغضب إلى أن يقترح بسخرية أنّ فوز ديلان هذا العام يمهّد لفوز أَديل العام القادم. بعض النقّاد والمحلّلين اتّهموا لجنة الجائزة بالوقوع في فخّ النوستالجيا، لا سيّما أنّ أعمار أعضاء اللجنة تقترح أنّهم من الجيل الذي عاصر ديلان الشابّ وثورة الهيبيّين في الستّينات من القرن الماضي؛ ‘جيل السمّيعة والراقصين’، كما نعتهم أحد المحلّلين.
المدافعون عن ديلان ليسوا أقلّ شراسة، وفي مقدّمتهم لجنة الجائزة التي أعلنت على تويتر أنّه:
‘من الممكن قراءته ومن الواجب قراءته. إنّه شاعر عظيم في التقليد الإنجليزيّ.’
لا يمكن تجاوز القول السابق دون التعثّر بذيله. تحيل لجنة الجائزة هنا إلى ‘التقليد الإنجليزيّ’ كدليل ما لحلّ الأحجية، وكدليل للقرّاء والمحلّلين الذين يجهلون أو يتجاهلون خصوصيّة سياق المنتج الأدبيّ/ الإبداعيّ عندما يقرؤون نصًّا ما (أو يستمعون ويقرؤون في حالة ديلان). ثمّة عالم خارجيّ محدود وخاصّ لدرجة ما أنتج ديلان، كما أنتج والكوت ونيرودا ومحفوظ وماركيز وغيرهم. العالم الذي أنتج ‘الواقعيّة السحريّة’ في حالة ماركيز ليس ذات العالم الذي أنتج ‘أدب ما بعد الاستعمار’ في حالة والكوت، وليس ذات العالم الذي أنتج ‘التعابير الجديدة’ في أعمال بوب ديلان.
ثمّة خصوصيّات في الخيار الاعتباريّ للأدب أيضًا، منها الخصوصيّة الزمنيّة؛ فزمن ديلان (الستّينات والسبعينات) عاصر جيلًا ثار على كلّ شيء، من القنبلة النوويّة حتّى طريقة استعمال الرجل ‘للتواليت’، عبورًا إلى الزمن الحاليّ، حيث أنا وهو وهي وأنت ننتج المعرفة كما ننتج العرق والبول (في سياق الطفرة المعلوماتيّة وسطوة وسائل الاتّصال الاجتماعيّ). زمن ديلان، على سبيل المثال لا الحصر، هو غير الزمن الذي جعل من طاغور شاعرًا/ نبيًّا عام 1913. خصوصيّة أخرى هي الخصوصيّة العضويّة للأدب كحقل جماليّ أخلاقيّ اجتماعيّ سيكولوجيّ من الصعب تحديده، وذلك ما أشار له بالذات سلمان رشدي في تعقيبه على فوز ديلان:
‘حدود الأدب لا تزال تتّسع، ومن المثير أن نرى أنّ جائزة نوبل تدرك ذلك.’
متعجّلون كثيرون لا يدركون أنّ أغنيات/ شعر بوب ديلان هي/ هو مادّة دراسيّة منذ أكثر من عقدين في المدارس والجامعات الأمريكيّة والكنديّة (The Norton Introduction to Literature). آخرون لا يدركون أنّ ثقافة البوب الشعبيّة ‘Pop Culture’ هي مادّة أكاديميّة راسخة في التقليد الأكاديميّ الغربيّ، وتكتب فيها أوراق البحث الكثيرة وتخصّص لها جورنالات أدبيّة رصينة.
الساخرون والمتفذلكون ستجدهم في الغرب والشرق، مع ميزة خاصّة في العالم العربيّ لسبب لا أعرفه بشكل دقيق، لكنّ أعراضه جليّة في ‘الزفّة’ السنويّة التي تتزامن مع موعد إعلان جائزة نوبل. هذه ‘الزفّة’ (وهو توصيف منسوب لمحمود درويش) تحلّل توقّعات ونتائج الجائزة بِنَفَس ينتظر، أوّلًا، من العالم أن ينصفه ويعلن أحقيّته بالجائزة، ويعتبر، ثانيًا أنّ كلّ محاولة جماليّة على هذه الأرض هي بالأساس مؤامرة سياسيّة حيكت بليل. جمهور الزفّة يجهل أو يتجاهل أنّ بإمكان الأدب العربيّ أن ينافس وبقوّة لو كانت الأدوات؛ أدوات التحليل والتنظير والترجمة والتبادل الحضاريّ والمعرفيّ، صاحبة رؤية ومنهج، لكنّنا ‘تحت محلّلون ‘Under Analyzed كما قال أدونيس يومًا.
بوب ديلان لن يكترث كثيرًا لهذا الجدل، سيخرج بملابسه الداخليّة على شرفة ما يوم حفل نوبل، وسيحمل دفّه بيد وباليد الأخرى سيلوّح لحجر متدحرج اسمه الشعر.
عن فسحة
“وداعاً للغة” – حفريات غودار بين الصفر والمالانهاية
فوز الشاعرة الكندية آن كارسون بجائزة غريفين لعام 2014
فيسبوك .. الأنا-الآخر وسؤال المعنى