إحدى الإغراءات الكبرى، بالنسبة إلى الكاتب، هو أن يقرأ أثناء إنهماكه في تأليف كتاب. معي يبدو أن اللحظة التي أباشر فيها تأليف كتاب جديد ينمو لدي شغف للقراءة أيضا. في الحقيقة، نظرا لوجود غريزة منحرفة، حالما أباشر تأليف كتاب جديد يلح علي أن أقوم بألف عمل مختلف – ليس، كما هو الحال دائما، رغبة في الهروب من مهمة الكتابة. ما أكتشفه هو أني أستطيع أن أكتب وأيضا أن أؤدي أعمالا أخرى. فعندما يتملك إلحاح الإبداع المرء – على الأقل حسب تجربتي – يصبح مبدعا في الإتجاهات كلها دفعة واحدة.
يجب أن أعترف أن القراءة كانت بالنسبة إلي، خلال الأيام التي سبقت انهماكي في الكتابة، شهوة عارمة ومهلكة أزجي بها وقتي. وعندما أعود بذاكرتي، يبدو لي أن قراءة الكتب لم تكن أكثر من مخدر، يحفز في أول الأمر ولكنه يسبب الاكتئاب بعد ذلك. ومنذ أن بدأت جديا الكتابة تغيرت لدي عادة القراءة، تسلل إليها عنصر جديد. يمكنني القول أنه عنصر مخصِب. عندما كنت شابا صغيرا، كثيرا ما اعتقدت بعد الإنتهاء من قراءة كتاب أنه كان في استطاعتي أن أنجز كتابا أفضل منه بكثير. كنت كلما قرأت أكثر أصبحت منتقدا أكثر. لم يكن هناك شيء جيد بالنسبة إلي. وبالتدريج بدأت أكره الكتب والكُتّاب أيضا. وغالبا ما أكنت انهال بالنقد القاسي بلا رحمة على الكُتّاب الذين عشقتهم. وأؤكد لك أنه كانت هناك مجموعة من المؤلفين حيرتني طاقاتهم السحرية وأضلتني. وعندما حان الوقت للتأكيد على طاقاتي الخاصة في التعبير بدأت أعيد قراءة هؤلاء “الخطباء الساحرين” بعين جديدة. صرت أقرأ ببرود، بكل ما أملك من طاقة على التحليل. وذلك، صدق أو لا تصدق، لكي أنتزع منهم سرهم. نعم، كنت حينئذ من السذاجة بحيث أصدق أنه في استطاعتي أن أكتشف ما يجعل الساعة تعمل بتفكيك أجزائها. وعلى الرغم من تفاهة سلوكي وحمقه إلا أن تلك الفترة تبرز كإحدى أشد فترات حياتي مع الكتب خصوبة. لقد تعلمت شيئا عن الأسلوب، عن فن الرواية، عن التأثيرات وعن كيف تولَّد.
وأفضل شيء، تعلمت أن هناك حقا لغزا يكتنف إبداع الكتب الجيدة. فمثلا، إن قول أن الأسلوب هو الإنسان لا يعني أي شيء. إن الطريقة التي يكتب بها الإنسان ويتكلم بها، ويسير بها، والتي يفعل بها كل شيء، فريدة من نوعها ومبهمة. الشيء الهام، والواضح أن الإنسان يتغاضى عنه، ليس التساؤل حول هذه المسائل بل الإصغاء إلى ما سيقوله الإنسان، إفساح المجال لكلماته كي تؤثر فيك، تغيرك، تجعلك ذاتك الحقيقية أكثر فأكثر.
إن العامل الأهم في استحسان أي فن هو ممارسته. هناك تعجب الطفل وافتتانه عندما يقابل للمرة الأولى عالم الكتب، وهناك نشوة الشاب وياسه في اكتشافه كتابه “الخاصين”؛ لكن الأعظم من ذلك كله، بسبب اقترانه بعناصر أخرى أكثر ديمومة وتنشيطا، تصورات وانطباعات كائن ناضج كرس حياته لمهنة الإبداع. وعندما يقرأ المرء رسائل فان غوخ إلى أخيه يفاجأ بكمية التأمل الهائلة، والتحليل، والمقارنة، والوله والنقد الذي انغمس فيه على أمتداد حياته المهنية القصيرة والمحمومة كرسام. وهذا ليس غريبا بين الرسامين، ولكن في حالة فان غوخ بلغ أبعاده البطولية. إذ لم يكن فان غوخ ينظر فقط إلى الطبيعة والناس والأشياء، بل إلى لوحات الرسامين الاخرين، يدرس مناهجهم وتقنياتهم، وأساليبهم وطرقهم. كان يتأمل طويلا وبرصانة ما يراقب، وهذه الأفكار والمراقبات نفذت إلى أعماله. كان مثل رامبو، “صوفيا في حالة جموح”.
عن كتاب “الكتب في حياتي” – ترجمة أسامة منزلجي
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا