كثيرا ما ينسب إلى عظماء الرجال قول وجيز نطقوا به قبيل وفاتهم، قول بليغ عميق، يصير رمزا لحياتهم، وخلاصة لأدبهم وحكمتهم، فما هي يا ترى كلمة أبي العلاء الأخيرة؟. نعرف أنه أوصى بأن يكتب على قبره :
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
ولكن وصيته هذه – رغم ما فيها من قوة تؤهلها لكي تكون كلمة الختام – صدرت منه على الأرجح وهو صحيح معافى، يتوقع موتا وشيكا، فلا يمكن اعتبارها والحالة هذه قولا نهائيا فاصلا.
والظاهر أن كلمته الأخيرة سلبت منه سلبا. فيبدو أنه، قبل أن يسلم الروح مباشرة، أملى كتابا يبلغنا، بسبب رقابة الأقرباء. ذلك ما نستشفه من خبر أورده القفطي :
“وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات اليوم الرابع، يكن عنده غير بني عمه، فقال لهم اليوم الثالث : أكتبوا. فتناولوا الدوي والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب. فقال القاضي أبو محمد : أحسن الله عزاءكم الشيخ فإنه ميت. فمات غداة غده”.
أملى أبو العلاء وهو طريح الفراش كتابا نعرف عنه شيئا سوى أن ما فيه مناف للصواب، فرأى بنو عمه أن من واجبهم إتلافه أصلا. في الوقت الذي استرخى فيه وحل عقدة الرقابة الشديدة التي مارسها طيلة حياته على هواجسه ووساوسه، حيث كانت الكتابة عنده صراعا عنيفا مع ما لا تجوز كتابته وما لا ينبغي قوله، ومجهودا شاقا متواصلا لصد ما يتعارض مع الصواب وإقامة سد منيع دونه، إذا بذويه يقومون بكبت أقواله الأخيرة وطمسها، معتبرين إياها هذيانا لا يجوز بحال من الأحوال صيانته ونشره بين الناس. والملفت أن رقابتهم تتزامن مع الموت، وأنها بدورها تخنق وتبيد.
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو