أقوالُ العرب كلُّها صائبة، وأعمالُهم كلّها صالحة.
كلُّهم حكماء ـ رجالاً ونساءً، شيوخاً وشبّاناً، أطفالاً وأجنّةً في أرحام أمهاتهم.
كلُّهم قادة ـ لا على المستوى القوميّ وحده، بل على المستوى العالميّ أيضاً.
كلّهم متفوّقون في العلم، في الفنّ، في الفلسفة، في الصناعة، في الصعود إلى عوالم الفضاء، وفي افتتاح دروب المستقبل.
كلّهم أبطالٌ، محاربين، أو مسالمين.
كلهم ناطقون بالحقّ وحرّاسٌ للحقيقة.
كلُّهم كاملون.
أوه، سئمتُ شخصيّاً من هذا الكمال. أتلهّف إلى أن أرى نقصاً أو ضعفاً في مكانٍ، في جانبٍ، في عملٍ، في فكرٍ. أتلهّف إلى أن أسمع مَن يقول لا أعرف. مَن يقول قصّرْت. مَن يقول أخطأت.
أتلهّف إلى الخطأ.
أرجوكم أيّها الكاملون أن تضعفوا. أرجوكم أن تُخطِئوا.
* * *
هل صحيحٌ أنّ لكلّ عصرٍ معتقداته الخاصّة، كما يقول علماء « الغرْب»؟
سؤالٌ يجيب عنه بعضُهم، من علماء «العرب» قائلاً هذه حالةٌ قد تصحّ في جميع « الأمم» إلاّ في «الأمّة العربية».
لهذه «الأمّة» معتقداتٌ خاصّة واحدة هي التي تغيّر العصر، وتغيّر جميع العصور.
أهناك علماء آخرون نطرح عليهم هذه المسألة لكي يشاركوا في الكشف عن السرّ في هذا الاستثناء؟
* * *
مرّةً سمعت الوهم يقول للواقع، ضاحكاً:
«غداً ستنتمي إليّ. أنتظرك بشغف. وسوف تجد لديّ مكاناً آمناً وأبديّاً».
* * *
ماذا ستفعل برأسك، أنتَ المُصيبُ دائماً، عندما يصرخ إليك شاكياً منتحِباً:
أشعرُ أنّني مُصابٌ بتخمةٍ قاتلةٍ هي تخمة الصّواب. تكاد عيناي
وأذناي أن تفرّ هرباً منّي.
أكاد أن أختنق.
وها هي القدرة على التنفّس، تكاد أن تخونني.
أكرّر: ماذا ستفعل آنذاك؟
* * *
الذين يتتلمذون على الواقع يعيشون كمثل نباتات تعرّش على الجدران.
الذين يتتلمذون على المخيِّلة يعيشون كما لو أنّهم نذروا حياتهم لكي يبتكروا للواقع جسماً آخر، وصورةً جديدة ولباساً آخر.
* * *
نعم، لا تكفي حياةُ الإنسان مهما طالت لكي يعرف معرفةً حقيقيّة جزءاً بسيطاً صغيراً من سرِّ الوجود.
من أين له، إذاً، هذه الجرأة على القول إنّ في رأسه مفاتيحَ لمعرفة الكون كلّه، من ألفه إلى يائه؟
* * *
صعد إلى القمر لكي يضيفَ معرفةً جديدة إلى معرفته.
صعد بعده صديقُه مقتدياً به،
ولم يعُد حتى الآن.
* * *
لا أريد أن أختبرَ قوّتي،
أريد أن أختبرَ ضعفي.
* * *
كيف يكون نفسَه شخصٌ سمح لكلّ نجّارٍ أن يضعَ أبواباً ونوافذَ في عقله،
ولكلّ حدّادٍ أن يضعَ في عظمه ولحمه أقفالاً ومفاتيح،
ولكلّ صيّادٍ أن يحوّلَ قلبَه إلى جُعْبةٍ،
ولكلّ منجِّمٍ أن يحوِّل رأسَه إلى نجمة؟
* * *
نادراً ما نجد عند بني البشر عقلاً يُشبه البعوضة.
شخصيّاً، وجدت عند بعضهم مثل هذا العقل.
* * *
حمل سكّيناً، وأخذ يطوف بحثاً عن عنقٍ يشتهيه.
كان في طوافه يردّد في ذات نفسه:
« ماذا تُجدي سكّينٌ إذا لم تقطعْ رأساً؟»
* * *
للسقوط هو أيضاً درجاتُه ومستوياتُه:
أن يسقطَ الإنسانُ كمثل شهابٍ، أو كمثل شجرةٍ ناضجة، شيءٌ،
وأن يسقط كمثل ذبابةٍ على مائدة شيءٌ آخر.
* * *
يرئس الجمعَ ويقودُه حكَمٌ واحد.
لهذا الحكَم حكمةٌ واحدة:
«لا تَعِش مفرَداً. لا تفكِّرْ مفرَداً.
لا مفرَدَ إلا الشيطان».
* * *
الخيالُ يحتضِنُ الواقعَ مُوَسِّعاً حدودَه.
الواقعُ مليءٌ بهمٍّ وحيد :
كلّما نبت للخيال رأسٌ قطَعَه.
* * *
جميع الكلمات في جميع اللغات «تخدم» الأشياء أو «تستخدمها».
الكلمات في اللغة العربيّة السائدة، خطابةً وكتابة، لا تخدم ولا تستخدم إلا الكلمات.
* * *
الصّليب الذي حمله عيسى بنُ مريمَ لم يكن مجرّد خشبٍ.
كان أبواباً ونوافذَ وأشجاراً.
* * *
الجدرانُ غيرُ المرئيّة مُطوَّقَةٌ بأسوارٍ وراءها أسوارٌ وراءها أسوار.
الجدرانُ المرئيّةُ مطوّقَةٌ بالورق.
* * *
يعزفون موسيقاهم بالسلاسل،
يقرأون كتبَهم بالسيوف.
* * *
الذين يعرفون أن يكتبوا حقّاً،
كيف يجعلون من كلماتهم سلاسلَ وسجوناً؟
* * *
نعم يعيش على هذه الأرض بشرٌ كثيرون ليسوا في نظر كثيرٍ من ساسة
الغرب والعالم، أكثر من طينٍ مَشويّ.
* * *
للأيّام في هذه الآونة، هذا التاريخ:
«خذوا حياتَكم من شفاه الموتى
وسِّعوا المقابرَ التي تقيمُ في أعماقكم».
* * *
هبَّت ريحُ الصباح. مرّت.
تركَت على كتفيَّ آثاراً كانت تحملها.
غابت. فاتَني أن أسألها:
ما هذه الآثار أيّتها الصديقةُ الرّيح؟
* * *
مجهولٌ يقترب من مخيّلتي،
عاقِداً يديه وراء ظهره.
مع ذلك، أهلاً بالزّائر أيّاً كان.
* * *
كلُّ تحديدٍ حصارٌ،
واللاتحديدُ انطلاقٌ وانفتاح.
لكن عبثاً أُقنِع جاريَ القريب أنّ الحقيقةَ
ليـست الواقعَ بــعيــنه، وأنّها مجرّد تأويلٍ له.
عبثاً أقول له:
الحقيقةُ علاقة، والحياة لانهاية من العلاقات.
* * *
من أيّة جهةٍ يجيء هذا الكوكبُ الذي تتخاصمُ الغيومُ في مصدره
وتحارُ في أمره الأرض؟
* * *
تعلّمْ أيضاً أن تشكّ في شكّك.
هل عليّ إذاً أن أعترفَ بأنّني أخطأت في طلبي إلى العرب أن يتواضَعوا وأن يعترفوا بأنّهم يخطئون؟
* * *
يحدث نادراً أن تنحني الريحُ أمام الضوء. تتحوّل الريحُ إلى ثوبٍ من الحرير.
مشهدٌ مدهش: (م د ه ش : مشهـد، مـدهش)
* * *
كلاّ لا يسيل الزمنُ العربيّ بين عقارب السّاعة.
إنّه يسيل في دموع الأطفال.
* * *
رسمْتُ على الأفق وجهاً لتاريخ طفولتي. لكن سرعان ما ذاب في حبر الشمس.
* * *
لماذا لم تبتكر الظُّلمَةُ السلاح الذي يقضي على النور؟
لماذا لم يبتكر النورُ السلاحَ الذي يقضي على الظُّلمة؟
* * *
مرّ زمنٌ طويلٌ على هذه الوردة، ولم تذبل. والعجَب أنها تخرجُ ليلاً من إنائها ثمّ تعودُ إليه صباحاً. أين تنام إذاً؟ ولماذا تعود؟ ألهذا لا تعرف الذّبول؟ في كلِّ حالٍ أرجوكِ لا تموتي أيّتها الوردة، عندما أموت.
* * *
الأبجديّةُ العربيّة تنضح دماً.
عن الحياة اللندنية 2-10-2014
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو