ملف عن الروائي الأمريكي فيليب روث
عن لوموند الفرنسية: عبد الغني بومعزة
خاص ب “لغو”
في 6 جويلية 2011، في المنزل الخشبي الذي يقيم فيه في منطقة(وارن)، في أعماق غابة كونيتيكت وفي منطقة نائية عن العالم، فيليب روث واقف،مسلح بابتسامة حزينة،يستقبل بحفاوة الصحفي الذّي قدم ليحاوره،سيتحدّث معه قليلا عن روايته (Le rabaissement / إذلال ) ،عن الاكتئاب، عن الله، اوباما، التّحليل النّفسي، العلاقة بين المتخيل والواقع ..
عبّر فيليب روث عن سروره لأنّه أصبح”حرّا”!،على ما يبدو فهو مرتاح لقرار إنهاء مسيرته كأحد أكثر الكتّاب الأمريكيين شهرة في العالم،وبعد شهر ونصف من إعلانه هذا والذّي فاجأ الجّميع بأنّه سيهجر الكتابة،أبدى ارتياحه الكامل وقناعته بقراره،بأنّه لم يعد ملتزما،بعد53 سنة من مهنة صنعت شهرته،لم يعد يشعر كما قال بالطاقة لإدارة الإحباط المرافق للحالة الإبداعيّة،<< ليس لديّ الطاقة على تحمل الإحباط،أن تكتب يعني معايشة حالة إحباط يومي،دون أن أتكلّم عن الاهانة!>>،قال لصحيفة نيويورك تايمز في ما وصفه بأنّها آخر حديث صحافيّ،<<لا أستطيع قضاء أيّام لكتابة خمس صفحات ثمّ أقوم بعد ذلك بإلقائها>>،في السّنة المنصرمة،كان مرّشحا بقوّة لنوبل الآداب رغم انه في ذلك الوقت كان قد أكّدّ انه لا يرى نفسه بعيدا عن الكتابة:<<تبقيني بعيدا عن الاكتئاب>>،لكن مع بداية أكتوبر 2012،أعلن فجأة للأسبوعيّة الفرنسيّة(Inrocks Les)انه لم يعد يرغب في الكتابة،<<حتى أصارحكم بالحقيقة،لقد انتهيت من هذا>>،مشيرا انه بعدما كتب سلسلة طويلة من الأعمال الرّوائيّة(31 رواية)في ظرف 53 سنة وبأنّه منذ ثلاثة سنوات لم يكتب شيئا،بدا وهو يجلس برفقة موفد جريدة النّيويورك تايمز مسترخيّا،لمدّة ثلاث ساعات في شقّته في حيّ ـ d’Upper West Sideـالرّاقي في الجانب الغربي من نيويورك،صاحب رواية(الرّاعي الأمريكي/ La Pastorale américaine)الحاصلة على بوليتزر سنة 1998،(وداعا كولومبوس/Goodbye Columbus)،سنة 1959،رواية(شكوى بورتنوي/ Portnoy et son complexe)،سنة 1969،رواية( مؤامرة ضدّ أمريكا/ Complot contre l’Amérique )،سنة 2005،أوضح بأنّ القرار لم يكن سهلا في بداية الأمر لأنّه تطلب إقناع نفسه إيجاد الأسباب المقنعة التّي تجعل من الكتابة حالة إحباط قصوى وكما وصف”جعلت من حياته حرمانا مستديما”،على جهاز الكومبيوتر خاصته كان قد الصق(post-it )كتب عليها<<النّضال من أجل الكتابة انتهى>>،يضيف:<<أشاهدها كلّ صباح فتعطيني قوّة لا تصدّق>>،عهد روث في آخر مقابلاته الصّحفيّة،اشترى منذ فترة”آيفون” و راح يتعلم طريقة استعماله ولما سال لماذا،أجاب:<<قلتم لماذا؟،لأنّني حرّ>>،قال شارحا،أضاف بأنّه لم يقرأ كتابا منذ شهرين،على الأقل في النّهار،<< في المساء أقرأ لمدّة ساعتين،تاريخ القرن العشرين والسّير الذّاتيّة>>،نادرين هم الكتّاب الذّين يتوقفون عن الكتابة طواعيّة، وفي الحقيقة احدث قراراه هذا مفاجأة كبيرة في الأوساط الأدبيّة،وبعد حياة مكرّسة كليّا للكتابة والتي تكللت السنة السابقة بجائزة(أمير آستورياس) للآداب المعادلة للبوكر البريطانيّة والبوليتزر الأمريكيّة والغونكور الفرنسيّة،كان لدى روث شعور قويّ بأنه كتب ما كان يريد أن يقوله،<< تقريبا منذ شهر أو شهرين،حاولت التّفكير في شيء آخر،اعتقدت أن الأمر ربّما انتهى ربّما أن الأمر انتهى حقيقة، لا اخفي عليكم إنني أعطيت لنفسي جرعة من” عصير الرّومانسيّة” بقراءة لكتّاب لم اقرأ لهم من قبل وهذا منذ 50 سنة وكانوا مهمّين في نظري>>،ذاكرا دوستوفسكي،جوزيف كونراد،تورغنييف،فولكنر وهمنغواي،<<ثمّ قرّرت أن اقرأ كتبي من جديد، وكانت البداية بكتابي الأخير>>،لكن الكاتب يفقد الاهتمام عندما يصل لرواية ـ شكوى بورتنوي ـ ،<<بعدما قرأت كلّ هذا،كنت أعرف أنه لم يكن لديّ فكرة أخرى جيّدة أو حتى إن كان لديّ واحدة سأجد نفسي مجبرا على الاشتغال عليها>>،حتى في هذه السنّ المتقدمة من العمر(روث من مواليد 1933)، هو الذّي لم تبطأ وتيرة اجتهاده قط،فرح لأنه من الآن فصاعدا أصبح لديه الوقت لاستقبال أصدقاءه في منزله بولاية ـ كونيتيكت (شمال شرق) ،حيث قضى فيه أيّاما عديدة وحيدا، واقفا في كثير من الأحيان كعادته في صقل كتاباته،لكن وبعد 52 سنة من الكتابة كما يتنفس الآخرين،لم تترك الكتابة تماما حياة حفيد احد العائلات اليهوديّة المهاجرة من غاليسيا البولونيّة،منذ فترة يعمل مع كاتب سيرته الخاص ـ بلاك بايلي،وقد ملأ له صندوقا من الملاحظات والمذكّرات ويعتقد هذا الأخير انه يلزمه سنوات.
.. بمجرد جلوسه على الأريكة في قاعة الضّيوف الواسعة وشديدة الإضاءة في شقته حتّى رنّ الهاتف،من المستحيل تحديد مكان الهاتف الثّابت، يتحرّك الجّميع، يبحثون عنه، يضحكون،أخيرا عثروا عليه تحت الأريكة،فات الأوان:<<سنرى لاحقا، لا تقولوا لي انكم قدمتم للحصول على هاتفي >>، انه فيليب روث الذّي يحبّه الجّميع،الظّريف،خفيف الظّلّ،يقول وهو يرفع أمامنا صورة:<< انظروا لهذه الصّورة،لقد تلقيتها للتّوّ من زميل سابق ، هنا، كان لديّ شعر!>>،سخريّة، مزاح،هو الذّي يستطيع أن يقول لك فجأة:<< كفى حديثا،دعونا نقوم بجولة في برودواي>>،أو المخاطرة بإلقاء نكتة سيّئة من قبيل:<<حسنا،كنت أتوقّع قدومكم غدّا>>،رغم اننا قضينا ساعتين في السّيّارة للوصول إلى منزله الجّميل الرّمادي في ولاية كونيتيكت ،هتف قبل أن يضحك وهو يلمح تعابير الخيبة على وجوهنا:<<نكتة سيّئة،نكتة سيّئة للغاية>>،هذه المرّة،انه الوقت المناسب للتوقف عن الضّحك و إلقاء النّكات،لأنه من المفترض الحديث عن كتاب ليس ظريفا بالمقارنة مع رواياته الأخرى،رواية(Némésis)الصّادرة سنة 2010،تدور الأحداث سنة1944 في(نيو آرك)بنيوجيرسي عندما انتشر وباء شلل الأطفال وسيصاب به بطل الرّواية الشّاب(بوكي كانتور)،23 سنة،مدرّس رياضة،يقول فيليب روث عن روايته:<<انه كتاب عن الخوف والمسؤوليّة،لأنّ بوكي يشعر بأنّه مسؤول عن كلّ شيء،بل يعتقد انه ناقل صحّي لشلل الأطفال وبأنه جلب المرض للمخيّم حيث لحق برفيقته،لكن ليس كتابي الوحيد عن الخوف،خذوا على سبيل المثال،رواية مؤامرة ضدّ أمريكا،سنة 2004>>،يقف محضرا الرواية ويبدأ في قراءتها:<< الخوف هو المتحكّم الرّئيس في الذّكريات،خوف أبديّ،بالتأكيد،لا وجود لطفولة بدون رعب،ولكن على أيّّ حال، هل كنت خائفا إذا لم يكن لدينا ليندبيرغ رئيسا،أو إنني لم أولد في عائلة يهودية؟>>،ويستأنف الحديث،يحكي،لم يكن هناك وباء شلل الأطفال في نيو آرك في عام 1944،لكنه من خلال هذه الحكاية يريد استرجاع حيّ طفولته ( Weequahic)،في نيو آرك، حيث ولد ونشأ، من مواليد 19 مارس 1933، في عائلة يهوديّة من الطّبقة المتوسطة، نودّ أن يتحدّث عن الكتاب الذّين يكرههم، أما هو فيفضل الاستشهاد بالكتاب الذين يحبهم، مكانتهم كبيرة في حياته،الملهمين،يذكر،كافكا،سيلين،تشيخوف،هنري جيمس،”كثيرا”وآخرين،مثل،جويس،بروست،يقول:<<لم أتمكّن من دخول” Finnegans Wake ” دون أن أنسى بروست،ما لم يفهمه أصدقائي بعد،ماذا عن الكتاب الشّباب المعاصرين؟،لم اعد اقرأ الكثير من الرّوايات،فقط القصص وكتب التّاريخ>>،هل هذا صحيح؟،ألا يهتمّ بما يكتبه هؤلاء الشّباب المنافسين؟،يقول:<< أعدت قراءة كتب طفولتي،في الغالب عن لعبة البيسبول أو الحياة البحريّة، هي كتب كتبت من قبل مؤلّفين كتبوا تجاربهم الخاصة بهم، تجارب زمنهم،من الممكن انها غير ملائمة للأجيال المقبلة، لكنّها ليست سيّئة على الإطلاق،وقد وجدت متعتي في قراءتها، حقيقة أبهجتني،ثمّ،لقد فعلت ما لم أكن راغبا في القيام به>>، في الواقع،قبل بضع سنوات،قال بصوت عال و واضح انه ليس راضيا على كتبه الأولى،<< أعدت قراءتهم انطلاقا من الأخيرة، أقصد، ـ Némésis ـ وختمتها بوداعا كولومبوس،وقلت لنفسي بأنه يمكنني أن أكون راضيا ولو على مضض،ويمكن أن اعتبر نفسي كاتبا>>،نستمع إليه باهتمام كبير، وكالعادة،نسال أنفسنا ،ليس”من هو”؟، لكن،”كم هم؟”، اقصد، كم يوجد من فيليب روث في فيليب روث الواحد؟،بين بين المؤلّف الشّاب صاحب الستّ والعشرين سنة،والفائز بأرقى جائزة أدبيّة في أمريكا إلا وهي البوكر عن وداعا كولومبوس، والرجل صاحب التسعة والسبعين سنة، طويل القامة والنّحيل،النجم اللاّمع في سماء الأدب العالمي،صاحب الجّوائز الكثيرة والعديدة،فيليب روث هو الكاتب الوحيد الذي مازال على قيد الحياة والذّي أصدرت المكتبة الوطنيّة الأمريكيّة مجلداً لأعماله الكاملة تكريما له في حياته،مرّة أخرى يطرح السّؤال،كم يوجد من فيليب روث؟،<< بطريقة أو بأخرى، يوجد واحد >>،يجيب كلّ من وكيل أعماله(اندرو ويلي) وصديقه الكاتب(بنيامين تايلور) لأنّ:<<لو قرانا صفحة عشوائية لروث،سنتعرّف عليه فورا>>،و يضيف تايلور:<< لكنّه أيضا كاتب يغيّر مظهره بصورة دائمة ومتكرّرة ويغيّر شكل كتابته حسب الموضوع>>، لا احد ينكر أن فيليب روث يمتلك هذه الميزة دون غيره،بل، هي نادرة عند الأمريكيين،لأنّه كتب أهم كتبه وأكثرها شهرة في الجّزء الثّاني من حياته المهنيّة >>،أمّا(ديفيد ريف) و الذّي كان في وقت سابق ناشره في دار النّشر المرموقة ( Farrar, Straus & Giroux ) يقول:<<المدهش هي الفجوة بين كتبه، اقصد فجوة من منظور ايجابي وليس سلبي، فجوة بين جنون شخصياته وأسلوبه المنضبط في الكتابة،أمّا في رواياته الأخيرة فكلما كان المحتوى قاس ومظلم، كان أسلوبه أكثر مرونة >> ..
يتبع: شكوى برتنوي
ترجم الملف عن لوموند الفرنسية: عبد الغني بومعزة
*فيليب ميلتون روث أمريكي من أصل يهودي ولد عام 1933 قي نيو آرك بولاية نيوجرسي وتلقى تعليمه في مدارسها العامة وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة باكنيل وعلى الماجستير من جامعة شيكاغو ولم يكمل درجة الدكتوراه وعمل بتدريس اللغة الإنكليزية في وقت لاحق بتدريس الكتابة الإبداعية في جامعة آيوا وبرنستون وتقاعد من مهنة التدريس في عام 1992 ليتفرغ نهائيا للكتابة ،تزوّج عام 1990 من الممثلة كلير بلوم التي تخصّصت في أداء الأدوار الشكسبيرية،يعد روث الرّوائي الأمريكي الذّي حصد أكبر قدر من الجوائز والتّكريم والتّقدير في تاريخ الأدب الأمريكي الحديث إبتداءا من جائزة اغا خان عام 1958 ومرورا بزمالة جوجنهايم في 1960 وجائزة كارل كابيك في 1994 وجائزة بوليزر لأعمال القصّ في 1997 وليس انتهاء بجائزة كافكا في 2001 وجائزة مديتشي الفرنسية في 2002 وميدالية مؤسسة الكتاب الوطنية في العام نفسه وجائزة سايروايز في 2005 ، كان مرشحا لنوبل لكنه لم يفز بها لحد الآن، تأثّر بالتّيار الواقعي للقرن التاسع عشر خاصة مؤلفات هنري جيمس والكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير إضافة إلى مؤلفات كلا من سول بيلو و برنار مالامود و فرانز كافكا الذّي استقرت آراؤه على حياة ومبادئ الأخير ، نشر أولى مؤلفاته عام 1959 بعنوان”وداعا كولومبوس”وبعد عشرة سنوات حقق نجاحا كبيرا عند نشر رواية”بورتوني وعقدته”التّي تناول فيها قصّة محامي يهودي شاب يعاني من سيطرة والدته وهي صورة لا تبتعد عن معاناة كافكا مع أسرته،تنوعت كتابات فيليب روث ما بين السّخريّة السّياسيّة،المحاكاة السّاخرة ، و الخرافة قبل أن يعود إلى كتابة السّيرة الذّاتيّة وشيء من الرّومانسيّة،أمّا الرّواية التّي جعلته من أفضل الرّوائيين المعاصرين بتناوله الجوانب الشّخصيّة وتحليلها فهي رواية”مؤامرة ضدّ أمريكا” عام 2004 ، وقد حاول في رواياته الأخيرة التّركيز على مسلمات تتعلق بالقضايا الذكورية ، و التّاريخ،التّراث،الحياة والموت،ووضع اليهود،الأدب في الحضارة الغربية، لو وضعنا ميزانا لأعماله الأخيرة منذ صدور روايته”حياة معاكسة”عام 1986 لوجدنا انها تميل لصالح خط سوداوي يختلف في أفقه عما أصدره من روايات كرواية”وداعا كولومبوس”عام 1969 التّي بيعت منها 400000 نسخة ووضعته في قفص معاداة السّاميّة ووصفه بالخائن لأبناء جلدته،يقول”وليام جيه ” عن روث في حديثه الذّي تناول تأثير كافكا على مجمل أعماله الأخيرة ان رحلة خياله الجّنسي قد تشكل له إخفاقات محرجة خاصة في عمله الأخير”الإذلال”غير انه يحمل من المفاجآت ما لا تستطيع ان تحكم عليه ذلك الحكم القاسي، إلا أن الناقد البريطاني”اليسون فلوود”له رأي آخر يقول ان روايته الجّديدة تلقت بالفعل استعراضا لاذعا من قبل المراقبين فوليام سكينلسكي وصفه بأنه قطعة من ملابس رخيصة فاضحة وهناك نوع من التشاؤم حول مستقبل الرّواية الأمريكية مع أن لروث كتابات جميلة ولديه الكثير مما يدخره للمستقبل وتلك هي إحدى نقاط قوته .
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا