“إنّ ‘المُصادرة’ التي نقرّرها بكثير من الاطمئنان أنّ هذا المصطلح ‘الأدب الإسلامي’، مصطلح فضفاض؛ولا مُسوّغ لذلك سوى أنّ الأدب يُنسب إلى اللغة وليس إلى الدين. والإسلام ديانة عالميّة يعتنقها ملايين البشر في كلّ القارّات، وأكثرهم لا يتكلّم العربيّة”
كتب سعد الدين ابراهيم، منذ شهرين أو ثلاثة، عن ظاهرة لافتة في تاريخ الإخوان في مصر، وهي أنّ هذه الحركة التي مضى على نشوئها أكثر من ثمانين سنة، لم تعرف شاعرا واحدا أو كاتبا واحدا أو فنّانا واحدا، مقارنة بالحركات السياسيّة الأخرى من ليبراليّة وماركسيّة وقوميّة.
وأظنّ أنّ في هذا مقدارا كبيرا من الصواب. بل إنّ هذه الظاهرة ليست وقفا على إخوان مصر وهم الآباء المؤسّسون، فهي تشمل الإخوان كلّهم في سائر البلاد العربيّة. ومثل هذا الأمر جدير حقّا بوقفة متأنّية، برغم أنّه لا يقضّ مضجع الإخوان. بل هم يستغربون أن تُطرح قضيّة كهذه. أمّا مسوّغات هذه الوقفة، فمردّها إلى هذا المفهوم الرجراج ‘أدب إسلامي’ الذي ظهر مع سيّد قطب، والذي لا نعرف له أصلا في مدوّنة الأدب العربي القديم.
بيْد أنّه في عربيّة القرآن ، ما يعزّز دعوة بعض الإسلاميّين الأصوليين، إلى بعث ‘أدب إسلاميّ’. وهم الذين يعرفون أنّ الإسلام استعان بالشعر منذ عصر النبوّة، رغم موقفه المناوئ للشعر، وإن استثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والحقّ أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فالشاعر ليس مطالبا بالمناسبة بين قوله وفعله، وإنّما هو مطالب بفعل القول أي عمل الشعر؛والأدب يُنسبُ إلى اللغة وليس إلى الدين.
ولعلّ مقدّمة القرشي لكتابه ‘جمهرة أشعار العرب ‘ أن تبرزمكانة الشّعر وما اشترك فيه والقرآن. والقرشيّ ينصّ على أنّ الشّعر جمع استشهادا’ للنصّ’ أي القرآن واحتجاجا. يقول: ‘هذا كتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهليّة والإسلام الذين نزل القرآن بألسنتهم واشتقّت العربيّة من ألفاظهم، واتّخذت الشّواهد في معاني القرآن وغريب الحديث من أشعارهم وأسندت الحكمة والآداب إليهم’. ذلك أنّ في القرآن مثل ما في الشّعر من اللّفظ المختلف ومجاز المعاني والزّيادة والالتفات والكناية والأضداد وما إليها من الظّواهر الفنّية والأسلوبيّة. والقرآن ـ إذا نحن تجرّدنا من لَبوس الدين، واحتكمنا إلى العلم وحده، سليل هذه اللغة العليا التي تعهّدها الشعر منذ غابر
الجاهليّة. ومهما يكن من أمر فإنّ القرآن يصعب أن يُكتنه لغة وأسلوبا ومخيالا بمعزل عن هذا الشّعر القديم، وهما اللذان تلازما في شتّى دراسات اللّغة والنّحو والبيان، و نشآ واستحكما في بيئة واحدة، ثمّ هاجرا إلى بيئات أخرى غريبة شاع فيها ما شاع من ظواهر اللّحن والعجمة واختلاط الفصيح بالعاميّ.
كان حسن البنّا هو أوّل من انتبه إلى خطورة الأدب في الدعوة إلى ‘مذهبه’، وقد كتب في العدد الثاني من جريدة ‘الإخوان المسلمون’ التي أصدرها في القاهرة عام 1932 مقاله ‘التجديد في الأدب العربي’ ولكن دون أن يستعمل هذا المصطلح’أدب إسلامي’، فقد كانت غايته أن يكون الأدب أداة لا غير، ولم يكن مقصده يعدو المشاركة في السجال الخصب حول التجديد الذي كان يشغل في تلك الفنرة أكثر أدباء العربيّة. أمّا الدعوة المبكّرة فتبدأ مع سيّد قطب عام 1954عندما سمحت الدولة للإخوان بإعادة إصدار جريدتهم الأسبوعيّة ‘الإخوان المسلمون’، فنشر مقاله’ منهج الأدب’ وفيه يحدّ الأدب من حيث هو’ تعبير مُوحٍ عن قيم حيّة ينفعل بها ضمير الفنّان. . . ومن العبث محاولة فصل تلك القيم عن التصوّر الكلّي للحياة’ويقرّر أنّ الإسلام’تصوّر معيّن للحياة تنبثق منه قيم خاصّة لها؛فمن الطبيعيّ إذاً أن يكون التعبير عن هذه القيم، أو عن وقعها في نفس الفنّان، ذا لون خاصّ. . . ‘ وهذا أساس رؤيته التي توضّحت في مقال آخر حيث يقطع بأنّ ‘الأدب أو الفنّ الإسلامي أدب أو فنّ موجّه’. وترسّم أثره في ذلك شقيقه الأصغر محمّد قطب. ثمّ ذاع المصطلح في السبعينات مع أبي الحسن الندوي، ثمّ في ندوة’العلماء’ التي انعقدت عام 1981 برئاسة الندوي، وقد أوصت ببعث منظمة علميّة’تهدف إلى إنتاج الأدب الإسلامي القوي الجديد الذي يعيد الشباب المثقّف إلى الإسلام من جديد’. وكان لذلك صداه إذ تكوّنت ‘ رابطة الأدب الإسلامي العالميّة’ في السعوديّة، وأصدرت مجلّتها’مجلّة الأدب الإسلامي’. والحقّ أنّه لم يبرز أديب’إسلاميّ’ واحد. وربّما كان المصري نجيب الكيلاني صاحب موهبة لا تُنكر، ولكنّه كثيرا ما يفسد حبكة رواياته بتحيّزه ووعظه وإرشاده.
‘الأدب الإسلامي’ مصطلح فضفاض
إنّ ‘المُصادرة’ التي نقرّرها بكثير من الاطمئنان أنّ هذا المصطلح ‘الأدب الإسلامي’، مصطلح فضفاض؛ولا مُسوّغ لذلك سوى أنّ الأدب يُنسب إلى اللغة وليس إلى الدين. والإسلام ديانة عالميّة يعتنقها ملايين البشر في كلّ القارّات، وأكثرهم لا يتكلّم العربيّة، ولا يحفظ من القرآن إلاّ سورا قليلة. فإذا كان هناك ‘أدب إسلاميّ’ فهو يُكتب بلغات شتّى، وليس بالعربيّة وحدها. وهذا يقتضي علميّا أن ينظر صاحب المصطلح أو الذي يأخذ به أو يسعى إلى تأصيله، في نماذج من آداب هذه اللغات، سواء في فترة واحدة أو في فترات متقاربة، وأن يوقفنا على أوجه التشابه او الائتلاف بينها، أو ما يسوّغ المصطلح ويؤصّله. ولكنّنا نرجّح أنّه قد لا يظفر إلاّ بسمات أو ملامح أو مظاهر من علم الأدب المقارن، فهي لا شكّ مادّة لغويّة أدبيّة طائلة لا يستطيع أن يستثمرها كلّها، وإنّما هو يتخيّر منها ما يناسب بحثه ويعزّز طروحاته أو افتراضاته. فلكلّ أدب أصوله الإنشائيّة الفنّية الخاصّة التي قد لا يشاركه فيها غيره، إلاّ تأثّرا أو تأثيرا. والأمر من هذا الجانب أشبه، ب’الأدب العالمي’ الذي كان يحلم به الشاعر الألماني جوته؛فالغايات الانسانيّة لا تصنع أدبا، شأنها شأن الغايات الدينيّة، وإنّما هي تصنع رؤية من رؤى العالم.
إنّ المصطلح مادّة لغوية بالأساس، ليس بالميسور الوقوف على نموّها وتطّورها لا في معاجم مثل معاجمنا العربيّة فحسب؛ قلّما عُنيت بمثل هذا الوافد المصطلحي، وإنّما في شتّى الدراسات والمقالات التي سعى أصحابها إلى تأصيل هذا المصطلح الذي يبدو أنّ سيّد قطب هو أوّل من أطلقه، في الخمسينات من القرن الماضي.
ثمّة إذن غموض غير يسير يحفّ هذا التركيب بالنعت، بطرفيه معا. فكلمة أدب التي نديرها اليوم على ألسنتنا بكثير من اليسر، لم يكن لها دائما هذا المعنى الاصطلاحي الإنشائي المبذول الذي يختصّ به صنف من الكتابة: الأدب الجميل أو الكتابة الرفيعة. إنّما كانت الكلمة تعني السلوك والأخلاق والتأديب، على نحوما نجد في شعر ما قبل الإسلام مثل قول الأعشى ‘جَرَوا على أدبٍ منّي بلا نَزَق’، أو في الحديث النبوي’ أدّبني ربّي فأحسن تأديبي’ أو ما يُروى عن عمربن الخطّاب ‘ طفِق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار’ أو قول الحجّاج متوعّدا أهل الكوفة ‘والله لأؤدّبنّكم غير هذا الأدب’، وحتّى رسالة ابن المقفّع ‘الأدب الصغير’ والتي يشكّ جب هاملتون في نسبتها إليه؛فربّما كانت من نتاج عصر متأخّر بعض الشيء عن عصر ابن المقفّع، أو رسالته الأخرى ‘الأدب الكبير’، فلم يشذّ أيّ منهما عن معنى التعليم أو ما يُكتسب من التعليم أو التهذيب أو حسن السلوك. ولا غرابة في ذلك، فالعرب كثيرا ما وصلوا كلامهم منظوما كان أومنثورا ، بوظيفة الحسن النافع أو الممتع المفيد. ولعلّ ابن خلدون، هو الذين حدّ هذا المصطلح’علم الأدب’ بشيء من الدقّة، بعد أن تأصّلت ملامح هذا الأدب خلال القرون السبعة السابقة عليه. يقول: ‘هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنّما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته؛وهي الإجادة في فنّي المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم. . . ‘ وعلى ما في تعريف ابن خلدون، من وجه صواب ، فعلم الأدب أو فنّ الأدب ‘لا موضوع له’ مادام كلّ موضوع يصلح أن يكون مادّة للأدب فهو لا يخلو من تعميم ومعياريّة يطمسان الحدود الفاصلة بين مراحل الأدب العربي القديم، وينمّ عنهما باقي كلامه ‘ والمقصود بذلك كلّه أن لا يخفى على الناظر فيه[الأدب] شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفّحه. ‘ فهذا إنّما مردّه، على الأرجح، إلى مبدأ المحاكاة أو الاحتذاء أو النسج على المنوال، وما إلى ذلك ممّا تأصّل منذ انقلاب المتوكّل على المعتزلة عام 232 هـ، وتحديدا مع ابن قتيبة الدينوري داعية مذهب السنّة والجماعة المحافظ، على الصعيدين الأدبي والمعرفي، في هذا القرن الثالث(التاسع ميلادي). وفيه يقول ابن تيميّة(القرن 8هـ/14م):’كلّ بيت ليس فيه شيء من تصنيفه[ابن قتيبة] لا خير فيه. ‘وليس أدلّ من هذا على سلطانه المعرفي المبسوط على كثير ممّن جاؤوا بعده بقرون. ولعلّ خير شاهد لتشدّد ابن قتيبة، مطاعنه على الجاحظ المفكّر الساخر الذي يشبّهه ميتز بفولتير، والذي كان أدبه امتدادا لابن المقفّع، وتفاعلا خصبا مع ثقافة الآخر أي العالم القديم:الهند وفارس واليونان. وممّا جاء في كتاب تأويل مختلف الحديث، قول ابن قتيبة:’ ثمّ نصير إلى الجاحظ وهو آخر المتكلّمين. . . ونجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشرّاب النبيذ. ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنّه كان أبيض فسوّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيّضه المسلمون. ويذكر الصحيفة التي كان فيها المُنْزَل في الرضاع تحت سرير عائشة، فأكلته الشاة. وأشياء من أحاديث أهل الكتاب، في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمَّه في رأسه، وتسبيح الضفدع. . . وهو مع هذا من أكذب الأمّة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل. . . ‘
إنّ إطلاق المصطلحات ليس بالأمر اليسير، ذلك أنّ المصطلح لا يمتلك حياته ولا سلطته المرجعيّة إلاّ إذا أدّى عن ‘المفهوم’ الذي وضع له، بدقّة من جهة واتصل بأفهام القرّاء من جهة أخرى. فعلى أساس من هذه الوظيفة المنوطة به، نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة. أمّا إذا أخلّ بها أو قصّر دونها، فمن حقّنا أن نعيد تأصيله أو نعيد تأسيسه إن لزم الأمر. ومصطلح’الأدب الإسلامي’ قد لا يعدو ظاهرة ما يُسمّى’القول المشروع’ أو ‘التقليد أربحُ لك’ بعبارة ابن قتيبة. والحق أنّ اختبار مصطلح مثل هذا، أو رصْد كفايته، لا يتسنّى إلاّ على ضوء الأعمال الأدبيّة التي تنضوي إليه؛برغم أنّنا لا ندري ما إذا كان أصحابها يقبلون مصطلحا كهذا. بيْد أنّ المصري الإخواني نجيب الكيلاني(1931ـ1995) الذي نعرض في ما يأتي، وإنْ في خطْف، إلى روايته’قضيّة أبوالفتوح الشرقاوي’؛هو واحد من منظّري ‘الأدب الإسلامي’، فضلا عن أنّه’شاعر’ وروائيّ معروف غزير الإنتاج. والحقّ أنّ شعره ذو نبرة رومانسيّة عفـّى عليها الزمن، وبعضه صدى باهت لتجربة أبي القاسم الشابي.
ولا نحبّ هاهنا أن نخوض في سيرة هذا الكاتب، فقد اتصل بالإخوان وهو طالب بالثانويّة، ونشر بواكير شعره في مجلّتهم، ثمّ انضمّ إليهم بعد اغتيال حسن البنّا. حُكم عليه بالسجن عشر سنوات عام 1955، وهو لا يزال طالبا بكلّية الطب. ولكنّ روايته ‘الطريق الطويل’ التي كتبها في سجنه بأسيوط، ونشرتها مكتبة مصر عام1957، كانت سببا في شهرته والإفراج عنه ـ لأسباب صحّية ـ عام 1958، بعد أن تعهّد بقطع صلته بالإخوان. وقد سُمح له بمواصلة دراسته الجامعيّة في الطب، وتخرّج طبيبا عام 1961، فباشر العمل بالجيزة ثم بقريته شبشابة، في محافظة الغربيّة، ثمّ بالقاهرة. ولكن أعيد اعتقاله عام 1965 ، في جملة الذين أمر عبدالناصر بإعادة اعتقالهم، من الإخوان والمشتبه فيهم بالانتماء إليهم. ثمّ أُطلق سراحه عام1966، فهاجربأسرته إلى الكويت والإمارات. ثمّ عاد إلى مصر حيث وافته المنيّة، بعد صراع مرير مع المرض.
قضيّة أبوالفتوح الشرقاوي: حقّنا في الكذب
صدرت راواية نجيب الكيلاني’قضيّة أبوالفتوح الشرقاوي’عام 1992. تدور أحداثها في مصر، بعيْد أشهر من نشوب الحرب العالميّة الثانية. وموضوعها ‘المخاتل’ الكذب، ولكنّه في الحقيقة الانتصار لحركة الإخوان، دون سند من داخل الرواية أو من خارجها، كما سنبيّن؛باعتبار أنّ الرواية تجنح بما هي إيهام بالواقع، إلى استلهام
هذا الخارج النصّي. فأبوالفتوح الشرقاوي، وهوالشخصيّة المحوريّة، بائع خضار وفواكه، يعيش في قرية من قرى دلتا مصر. وهو يعمد، لتزجية أوقات الفراغ، وجلب الزبائن، إلى ما يُسمّى صناعة’النفج'[من نفج أي افتخر بما ليس عنده]، فيكذب ويختلق حكايات عجيبة، على نحو ما كان يفعل البارون منشهاوزن في الأدب الألماني. وإذْ تجنح سيّارة، وتسقط في فرع النيل القريب من القرية؛يبادر أبوالفتوح باختلاق سبب للحادث الذي سمع به مثل غيره. فالحادث كما أخذ يحدّث زبائنه، كان بسبب علاقة خنائيّة بين زوجة أحد الباشوات ورجل ينتمي إلى هذه الطبقة الأروستوقراطيّة التي كان لها شأن في مصر ما قبل 52. ولم يكن ليخطر ببال هذا’النفـّاج'[والتسمية من عندنا[ أنّ البوليس كان في تلك الفترة، يبحث في سرّ اختفاء نعمات هانم البحيري زوجة اللواء الشريحي باشا. فهناك إذن حدثان موازيان يجريان جنبا إلى جنب، أي دون أن يلتقيا. وهذا اختيار ذكيّ من الكاتب، إلاّ أنّه لم يحسن استثمارالاحتمالات السرديّة الكامنة فيه؛ كأنْ يفتتح فيها وبها سبيلا غير مطروقة. يصل إلى مسامع البوليس ما كان يتحدّث به أبوالفتوح أو يروّجه عن حادث السيارة الخاصّة التي وقعت في النيل، فيتمّ جلبه للتحقيق معه. وهكذا يجد المسكين نفسه يواجه جريمة لم يرتكبها، فالكذب يمكن أن يسفر عن حقيقة. وإذْ يُسأل عن الجثة، يذهل وهو يردّد أنّ ما كان يقوله لزبائنه عن حادث السيّارة كلام فارغ ليس إلاّ. ولكنّ البوليس لا يصدّقه، ويذهب في ظنّهم أنّه يكذب فيما هو يقول الحقيقة هذه المرّة. وتبدأ رحلة التعذيب القاسية، عسى أن يعترف ويقرّ بالجريمة. ولا يجد بدّا من اختلاق قصّة جديدة، حتى يتخلّص من التعذيب، فيسوق أسماء آخرين شاركوه هذه الجريمة التي لم يرتكبها أحد. ثمّ تثبت للبوليس براءة هؤلاء الذين زجّ بهم أبوالفتوح، في متاهته الفاغرة. ويقع في ظنهم أنّ هناك جريمة يتستّر عليها أبوالفتوح. وهكذا تُوجّه إليه تهمة القتل. ودون خوض في تفاصيل هذه الرواية نلاحظ أنّها ـ وقد عمد الكاتب إلى الوعظ والإرشاد واستحضار شخوص من الإخوان لا مسوّغ لاستحضارهم خاصّة بعد أن ثبت أنّ نعمات البحيري على قيد الحياة ـ تتمثّل أكثر صورة الكاتب المتماهي بخطابه الإخواني أو الذي لم يتحرّر من سطوة الإيديولوجيا. بل إنّ الرواية تنتهي بالإفراج عن البطل، بتدخّل من الإخوان الذين يفتتحون شعبة لهم في القرية، ويكون ابوالفتوح من أعضائها. وكان بإمكان الكاتب أن يقدّم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله في مصر الأربعينات، ويجعلنا نقف على المضحك والغريب وكل ما هو متنافر في تجسيد بعض الشخصيّات، بدل هذا الاستحضار الديني السياسي الباهت.
فإذا سلّمنا بأنّ السارد يحكي كلام الشخصيّات أوهو يخبرعن قولها، فقد لا يكون لذلك من معنى سوى أنّ السارد يترجم كلام الشخصيّة أو لعلّ هذا السارد هو الذي يوضّحه أو يفسّره بلسانه أو ينقله أو يصفه.
ولا أملك، في السياق الذي أنا به، سوى أن أشاطرعبد السلام حيدر الرأي، في دراسته المتميّزة ‘الأصولي في الرواية’ وقد كتبها بالألمانيّة وترجمها بنفسه إلى العربيّة، عندما يبيّن أنّه لا ينبغي أن نستأنس بالأصل التاريخي، للحكم على جودة الصورة الفنّية أو عدم جودتها . والمعاصرون يرون ـ وفي كلامهم مقدار كبير من الصواب ـ أنّ الشخصيّة الروائيّة ليست سوى مجموع كلمات أو هي براعة أدبيّة أو هي وسيط. ولكنّ لها من القوّة ما لا يخفى وبخاصّة عند الكتاب القديرين المتمكّنين من أدوات فنّهم. ولعلّ هذا ما يجعلهم يبدون لنا وكأنّهم شخوص من لحم ودم. ومردّ ذلك ليس إلى أنّهم يمكن أن يشبهوا أيّا منّا وإنّما لأنّهم مقنعون. إنّ الشخصيّات الروائيّة هي أبدا شخصيّات روائيّة أو هي من ورق بعبارة رولان بارت، ولكنّها تحيل على شيء آخر، وتتيح لنا نحن القرّاء أن نتعرّف إلى أصناف من الناس الذين وُجدوا ويوجدون أو أن نفهمهم ونفهم سلوكهم ومشاعرهم وعاداتهم وما يتعلّق بملامحهم الجسديّة أو طاقاتهم الانسانيّة. ولذلك فإنّ شخصيّة عبدالوهّاب اسماعيل في مرايا نجيب محفوظ مثلا وهي باعتراف محفوظ نفسه، صورة سيّد قطب؛ليست أكثر من صورة الأصولي الذي لا يزال في كثير منّا، وبخاصّة في هؤلاء الذين لا يزالون رغم التطوّر الحاصل في كلّ مجالات المعرفة والعلم والسياسة، يردّدون ما كان يقوله سيّد قطب رحمه الله من أنّ ‘الجاهليّة ليست فترة من الزمن، وإنّما هي حالة من الحالات التي تتكرّر كلّما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام’ وأنّ المجتمعات المسلمة المعاصرة لا تطبّق شرع الله، وإنّما شرع البشر، فهي تعيش من ثمّة جاهليّة جديدة، وتحتاج إلى ‘جيل قرآني’ يأخذ بالقرآن المكّي، ولا يتعدّاه إلى تطبيق الشريعة؛لأنّ الشريعة لا تطبّق في مجتمع جاهليّ في نظره. والمشكل ليس في هذه الدعوة، وإنّما في فهم ناقص مبتسر لل’جاهليّة’ التي لولاها ، لما كانت هذه العربيّة الفصحى التي تأدّى . بها القرآن.
لقد كان بإمكان الكيلاني أن يُخرج لنا شخصيّات نابضة بالحياة. ولكنّه لم يفلح في ذلك ، فهذه شخصيّات تقوم على وقائع منتخلة ينسّقها الكاتب ـ وليس السارد ـ تنسيقا خاصّا، وهو يوزّع ظلاّ هنا وضوءا هناك، عسى أن يحفظ لها نوعا من الاتّساق ويظهر لنا بذلك سير التّفاعل بين الشّخصيّة وأثرها أو كيف تأثّرت ببيئتها وعصرها. فهذه وغيرها أقرب ما تكون إلى نمط من السّيرة الذاتيّة المتخيّلة يديرها الكاتب على موضوع الكذب.
اغير أنّه وقد حصر نفسه في إيديولوجيته الخاصّة، لم يعرف كيف ينأى بالكذب عن الأخلاقيّة: فقد كان أبوالفتوح مضطرّا إلى الكذب أو ربّما كان من حقّه أن يكذب. والحق في الكذب موضوع لا يخلو من طرافة. من ذلك مقاربة الفيلسوف الألماني ‘كانت’، وفيها إدانة صريحة للكذب. وحجّته لذلك أنّه إذا وعد أحدنا شخصا ما وهو يضمرأن يخلف هذا الوعد، أفيكونُ هذا الوعد الكاذب مصدر خير أم شرّ؟ويحلّل ‘كانت’ ما يمكن أن يترتّب عن ذلك، كأنْ نطالب بالحقّ في عدم الإيفاء بالوعد. .
إنّ مجال’العيش معا’ قائم على جملة مبادئ هي عهود ومواثيق، وفي عدم الإيفاء بها، يتصرّم النسيج الاجتماعي لا شكّ. وأخلاقيّة شيء ما أو سلوك أي انساجمه مع المثل الأخلاقيّة العليا، لا يمكن أن يجعل من ‘الحقّ في الكذب’ حقيقة عامّة. ذلك أنّنا لو رضينا بهذا لكان لزاما علينا أن نقرّ بأنّنا لن نجد أيّة وسيلة لحماية أنفسنا من كذب الآخرين، بل سنكون من جملة ضحايا الكذب نحن أيضا. والغريب هنا أنّ البطل كان ضحيّة كذبه، وليس ضحيّة السلطة.
لكن إذا كان أبوالفتوح يكذب، فهذا لايسوق ضرورة إلى القول إنّ الناس يكذبون طوال الوقت. والانسان ليس آلة، فقد يكذب مرّة أو مرّات قليلة، ولكنّه يفي بوعده طوال حياته. وقد نكذب أحيانا أو نحن نضطرّ إلى الكذب، بسبب الخوف أو تحت وطأة التعذيب كما يفعل بطل هذه الرواية، أو ربّما لكي لا نسبّب ألما للآخر. . .
ويسوق الفرنسي كونستان بينجمان مثالا أكثر دقّة يفسّر هذا ‘الحقّ في الكذب’. فماذا لو اقتحم رهط من قطّاع الطريق منزل أيّ منّا، وسألوه ما إذا كنت يخفي أحد الفارّين، منهم، وأدرك أنهم عقدوا النيّة على قتله. فلو صدع بالحقيقة، لكان مخالفا لمبدإ حرمة حياة الآخرين. ما العمل إذن؟ يجيب كونستان بأنّ علينا في هذه الحال أن نتذكّر أنّ المبدأ لا ينطبق إلاّ على الذين يحترمون القانون والحقّ. وبما أنّ هؤلاء القطّاع مارقون على القانون، فلا شيء يجعل منّا متّهمين بالكذب إزاءهم. . أو يلزمنا أن نكون صادقين معهم.
ولكن يمكن الاعتراض عليه أيضا. فهؤلاء القطّاع هم بشر في نهاية الأمر، وهذا لا يعني أن نسلبهم حقهم في كلّ احترام، حتى لو كانوا خارجين على القانون. ثم أليس بالإمكان أن نعترض سبيلهم، بطريقة أخرى غير الكذب. بل كيف نقبل أن نحميَ فارّا لا نعرف سبب فراره؟
بَيْدَ أنّ الكاتب لم يستطع أن يعالج موضوع الكذب، من هذا المنظور، وإنّما صرف همّه إلى الأخلاقي والدّيني. وهذا لا يسوق إلى القول ب’أدبيّة’ خالصة؛ فخلف كلّ نظام أدبي يختفي نظام ثقافي، والأدبيّة نفسها كثيرا ما تتحدّد من خلال اللاأدبيّة. أي أنّ من حقّ الكاتب أن ينحاز إلى إيديولوجيا أو يأخذ برؤية خاصّة به؛ فالقصّ يمتح من تلك المصادر الثلاثة التي يمتح منها أيّ قصّ: المؤلّف صاحب السيرة أو الترجمة، والمؤلّف ـ الكاتب، والسارد.
ولكنّ الأوّل ليس بموضوع للسرديّات، وربّما كان من المفيد الاستئناس بيوميّاته أو رسائله، أو معرفة مواقفه.
وتشدّد السرديّات الحديثة على أنّه من البداهة أن لا يلتبس مقصده بأفكارالمؤلّف ‘البيوغرافي’ أوآرائه، أو بأيّ حكم كان يمكن أن يقطع به السارد. نقول هذا برغم أنّ هذه الرواية تكاد تشي بصاحبها، وهو يتستّر خلف بعض شخصيّاته. من ذلك تصريح الراوي في الخاتمة:’ لم يكن ذلك المسكين[أبوالفتوح] يعلم أنّ هذا التحوّل الكبير في حياته سوف يكون في المستقبل بابا لمتاعب من نوع جديد لا تخطر له على بال’ . في إشارة لا تخفى إلى صراع الإخوان مع السلطة في مصر عبدالناصر.
عن القدس العربي
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو