لم يستبد بالأدب في يوم مفهوم إسلامي للأدب. للقرآن رأي في الخيال الشعري لم يُسلّط على الشعراء وهو على كل حال رأي يبرئ الشعر والشعراء الذين هم «في كل واد يهيمون، يقولون ما لا يفعلون». لم يطل الوقت حتى عاد شعر الخمر وعلا الغزل على الجهاد. وإذا كان تبع انتصار المسيحية فن ديني فإن انتصار الإسلام لم يتبعه فن عقائدي. يجد نقاد أن روح الإسلام وعقله التوحيدي في الزخرفة لكن هذا، إذا صح، تم بقدر من التحويل ولا نستطيع أن نعتبر الزخرفة فناً دينياً وإذا اعتبر إسلامياً فلسبب تاريخي، في الشعر غرض ديني لكن هذا من جملة أغراضه ولا يطبعه بكليته. الزخرفة ليست فناً دينياً حتى إذا تشبعت برؤيا دينية. المعمار شأنه شأنها. هناك بالطبع حضارة إسلامية لكنها مع ذلك ليست دينية. لا يجد الدعاة الإسلامويون في التراث تلك الوحدة الدينية التي يتوخونها لحاضرهم في الأغلب. ليس هناك من هذه الناحية مثال يبنون عليه. لا يشكل الماضي نموذجاً للإعادة لا في العصر الراشدي ولا في العصر الأموي، أقرب الأزمنة إليه. بناء نموذج من شتات معالم قد يحتاج إلى قدر من التركيب بل والتلفيق فصدر الإسلام لم يعمر بهذا النموذج ولم تتح السرعة التي عاد بها الأدب إلى أغراضه الجاهلية فرصة لبناء نموذج مماثل. كما أن الجديد الذي أسفر عنه الانتقال التاريخي كان أبعد ما يكون عن هذا النموذج، فالشعر الغرامي العذري وغير العذري كان إعلاناً عن لون أرستقراطي من الحياة ليس بأي حال ذو التزام ديني بل أشبه أن يكون معارضة له. ليس في التراث هذا النموذج لتكون الدعوة إليه استعادة لمثال كامل. لم يملك التاريخ الإسلامي في يوم وحدة الحياة هذه التي يتخيلها الإسلامويون، ويبنون عليها، فبين السياسة والتطور الاجتماعي والثقافة والفن خروق وملابسات وانقطاعات ومفارقات وتفاوتات لا تنجح في بناء نموذج موحد ولا نمط واحد.
لا يبدو أن الدعوة إلى أدب إسلامي ترجع إلى نموذج سابق. مثلها في ذلك مثل الدعوة إلى علم نفس إسلامي وأنتروبولوجيا إسلامية وسوسيولوجيا إسلامية وطب إسلامي. مثلها مثل هذه لا تفعل سوى أن تنسب إلى الإسلام ما ليس أكثر من اجتهاد خاص. هذه النسبة حين تتحول إلى دوغما لا تنجح إلا في قراءة دوغمائية للإسلام نفسه، وتحويل له إلى عقيدة جامدة وإضافة استخلاصات شخصية إليه وبناء قفص عقائدي له ومنه. لا نعرف مدى حاجة الإسلام إلى علم نفس خاص وانتروبولوجيا خاصة ورياضيات خاصة وعلم فلك خاص وكيمياء خاصة.. إلخ. بل إلى أدب وفن خاصين. لا نعرف ماذا يربح الإسلام من هذا الطموح التوتاليتاري وما هي حاجته إليه. بل لا نعرف كيف تمكن خدمة هذا الإسلام بتعليق كل ما يخطر عليه وبإضافة اجتهادات ذات شخصية أغلبها تلفيق محض إليه.
إذا كان لنا أن نقارن فإن ما أصاب الماركسية من متشيعيها ودوغمائييها خير مثال. تحولت الماركسية وهي التي تزعم إنها علم أو هي في الأقل بنت العلم، تحولت إلى معارضة للعلم حين عنّ لبعض متشيعها أن يضيفوا إليها علماً ما لبث أن اكتشف خطله. لقد قولوا الماركسية وأنطقوها بعلم لم يطل الوقت حتى ظهرت لا علميته. ثم ان تحويل الماركسية إلى دين والقراءة الشعائرية لها وتبسيطها المدرسي وتعقيدها الدوغمائي. كل هذا جنى على الماركسية أي جناية. أبعدها في البدء عن عصرها وأخّرها إلى زمن سابق، بل أخرجها من السجال كله وجعلها أقرب إلى خزعبلات فبدا علمها غير العلم، وبدت راهنيتها غير الراهن. وبدا فكرها نفسه وديالكتيكها خشبيين وصارت عقيدة ضاغطة على أنفاس الناس تحاصرهم وتحبسهم هي التي كانت في حينها مستقبلية ومحررة. نسوق الماركسية مثلاً قريباً، لنقول إن تحجر الماركسية وطموح أهلها التوتاليتاري ونسبة أي شيء إليها وتقويلها ما يخطر لمتشيعيها وزعمائها وتحويلها إلى قفص عقائدي لم يخدمها ولم يخدمها بالطبع، ما حسب متشيعوها وزعماؤها انه يحفظها ويصونها وينصرها. لم يفعل هؤلاء سوى أنهم حولوها إلى حجر وإلى خشب، حولوها إلى آلة معطلة وإلى غول عقائدي. بالطبع انفض عنها الناس وهجرتها الأجيال وتركت لمصيرها، حتى إذا آذن الوقت بدمارها وسقوطها انهارت كآلة خربة وكعرش خاو. لا نعلم ماذا انتفع هؤلاء الذين حولوها إلى قفص وماذا انتفعت هي من تحويلها إلى ذلك. لقد تحولت إلى فزاعة ليس أكثر، وأعيقت بكل معنى الكلمة، أعيق تطورها وأعيق تفتحها وازدهارها، وخنقت في مهدها وأفلست أي إفلاس وخسرت بالطبع قوتها وعزمها. لو رأى من جنوا عليها هذه الجناية أي مستقبل ينتظر عملهم لما أمعنوا فيه ولتراجعوا عنه قبل أن يبدأوا فيه. لكن شيئا من هذا لا يتحقق لإنسان، لذا استمروا واعين أو غير واعين، في جنايتهم حتى كان ما كان منها ومنهم.
نسوق مثل الماركسية على سبيل العظة وعلى سبيل الإنذار، لا يربح الإسلام شيئاً ممن يقوِّلونه في العلم والسياسة والأدب ما يعنّ لهم وما ليس سوى اجتهادهم، أما ما يقوّلونه له من العلم فظاهر التلفيق ولا يحتاج المرء إلى كثير دراية ليعلم أن من ينسبونه للإسلام من علم النفس ليس منه في شيء، وخير لهم وللإسلام أن لا يلصقوا به شيئاً كهذا، بل ينبغي أن يتدارك حكماء الإسلام الأمر ويكفونهم عن ذلك وينددون به وبهم. لكن ما يقوّلونه للإسلام عن الأدب والفن ليس له بالأدب والفن من قبل. الأدب والفن غير الدين. إن لهما خطابين ومسارين خاصين بهما. للدين ما للدين وللفن ما للفن. ربما يتعظ هؤلاء من أن ما سموه أدباً إسلامياً لم ينتج علماً أدبياً بارزاً. ربما يتعظون حين يجدون أن ما ينسب للإسلام من الأدب لا يزيد في الإسلام خردلة ولا يضيف شيئاً إليه. وإذا استمروا في نسبته إلى الإسلام لا يربح الإسلام من ذلك شيئاً ولا ينتفع به أي انتفاع. بل لربما فهموا أن في ذلك جناية على الإسلام، وانهم لو أمعنوا النظر في ما تم للماركسية وللنازية والفاشية من هيمنة كليانية انتهت بانتكاس لم يتداركه أحد ولم يأسف له أحد. لو أمعنوا النظر في ذلك كله لاحترسوا من أن ينسبوا إلى الإسلام هيمنة مماثلة. ولما أضافوا إليه اجتهاداتهم واستخلاصاتهم ولما نسبوا إليه تلك القراءة الدغمائية ولما حولوه إلى نموذج كلياني.
جنى ستالين والشيوعيون الروس على الماركسية فهل يعف الإسلامويون عن الجناية على الإسلام. وهل يحترسون من أن ينسبوا إليه ما يخطر لهم وما يجتهدون به ويتركون له بالتالي نموذجه الأصلي.
عن السفير
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري
رهائن في عقل زوكربرغ / زادي سميث
الكاتب والمحَرَّم – مع راجي بطحيش