أستطيع أن أقص عليكم قصة مريعة عن الحرب الفرنسية – الروسية
السيد (دندولي) قالها لبعض الأصدقاء الذين اجتمعوا في قاعة التدخين بقصر بارون (راغوت) تعرفون داري في (فاو برج دي كورميل)، كنت أعيش هناك عندما جاء الروس وكانت لي جارة هي امرأة مجنونة، فقدت أحاسيسها في سلسلة متتابعة من سوء الحظ. في سن السابعة والعشرين فقدت والدها وزوجها وطفلها الوليد، كلهم في غضون شهر واحد.
عندما يقتحم الموت الدار مرة، فمن الصعب غالبا أن يرتد راجعا في الحال كما لو أنه قد عرف الطريق، وغرقت المرأة الشابة في الحزن حتي النخاع، رقدت في فراشها وأصابها الهذيان لستة أسابيع. ثم نماذج من الاعياء الهاديء خلفت تلك الأزمة العنيفة، وظلت هي بلا انفعال، تأبي الطعام.. فقط تحرك عينيها!. في كل مرة يحاول ايقاظها، تصرخ كما لو كانوا يهمون بقتلها، ومن ثم انتهي بهم الأمر الي تركها تكمل رقادها المستمر في الفراش، إلا في مرات قليلة يأخذونها للاستحمام، وتبديل الكتان أو تغيير حشية الفراش.
خادمة عجوز ظلت معها، لتعطيها شيئا تشربه أو قطعة من اللحم البارد من وقت لآخر ماذا حدث في هذا العقل التعس؟ لم يعرف أحد أبدا، فهي لم تتكلم علي الاطلاق حتي الآن. هل كانت تفكر في الموت؟ هل كانت تحلم أحلاما حزينة، بدون وعي كامل عن أي شيء حدث؟ أو هل أن ذاكرتها قد ركدت كماء لا يعبره تيار؟ ولكن، علي أية حال، فعلي مدي خمسة عشر عاما ظلت فاترة الهمة في عزلة تامة.
انتهت الحرب، وعند بداية (ديسمبر) عاد الألمان الي (كورميل). أتذكر هذا كما لو أنه قد حدث بالأمس. كان صلبا قاسيا كافيا لشق الصخور. أنا نفسي رقدت مجمدا علي مقعد وثير ذي مساند يدوية. غير قادر علي الحركة. هذا بالاضافة الي اصابتي بـ(النقرس). عندما كنت أسمعهم بخطواتهم الثقيلة المنظمة وأراهم يعبرون الطريق من نافذتي.
لقد عكروا الماضي بشكل لا يطاق، بتلك الحركة الخاصة بهم الشبيهة بدمية تسير علي سلك. ثم أمر الضباط رجالهم بأن يعسكروا في المساكن. وكان لدي سبعة عشر منهم. جارتي – المرأة المجنونة – كان لديها دستة. واحد منهم كان القائد. هاديء الانفعالات نوعا. منظم العنف الي حد ما.
خلال الأيام القليلة الأولي، كل شيء أصبح معتادا. الضباط في النزل المقابل قالوا إن السيدة مريضة، ولم يرغبوا في خوض مأزق بخصوص هذا، ولكن سرعان ما كانت المرأة التي لم يروها أبدا تثير أعصابهم، سألوا عن نوع مرضها، وعرفوا أنها راقدة في الفراش منذ خمسة عشر عاما، علي اثر صدمة مخيفة، لاشك أنهم لم يصدقوا هذا، واعتقدوا أن المخلوق المجنون المسكين لا يغادر الفراش كنوع من الكبرياء! لهذا لم تأت قريبا من (البروسيين) أو تتحدث اليهم أوحت لتراهم.
أصر القائد علي أن تستضيفه، وعندما كان في الحجرة خاطبها بخشونة:
”لابد أن أتوسل اليك لتستيقظي، مدام، ولكي تهبطي مع الدرج حيث يمكننا جميعا رؤيتك”
لكنها – فقط – أدارت عينيها الغامضتين اليه دون رد، ولذلك استطرد:
“أنا لم أخطط لاحتمال أي تجاهل، ولو أنك رفضت مغادرة الفراش بمحض ارادتك، فيمكنني بسهولة العثور علي وسيلة تجعلك تسيرين دون أي مساعدة!”
لكنها لم تبد أي اشارة تدل علي أنها حتي سمعته، وظلت هادئة دون أن تحرك ساكنا.
عندها اهتاج غضبا، واعتبر هذا الصمت الهاديء نوعا من التعالي المتغطرس؛ لذلك أضاف: »لو أنك لم تهبطي الي الطابق الأرضي غدا،…«.
ثم غادر الحجرة.
في اليوم التالي تمنت الخادمة العجوز أن تستطيع اقناعها بارتداء ملابسها، لكن المرأة المجنونة بدأت تصرخ في عنف، وعاندت بكل قواها. ركض الضابط لأعلي بسرعة. وركعت الخادمة عند قدميه، وبكت: »إنهالن تهبط يا سيدي، لن تفعل، اغفر لها، أنها.. كم هي بائسة«.
شعر الضابط بالحرج، وبالرغم من غضبه، لم يجرؤ علي أمر جنوده بسحبها الي الخارج.
لكنه فجأة بدأ يضحك، وأعطي بعض الأوامر بالألمانية. وفي الحال كانت مجموعة من الجنود خرجت حاملة حشية فراش كما لو كانوا يحملون رجلا جريحا. وعلي ذلك الفراش، الذي لم يتغير حاله، ظلت المرأة المجنونة صامتة، راقدة في هدوء تام، لم تفعل أي شيء مختلف طوال المرة التي تركوها فيها راقدة. خلفها كان هناك جندي يحمل لفافة بها أغراض نسائية. وقال الضابط وهو يفرك كفيه: »نحن فقط سنري اذا ما كنت تستطيعين ارتداء ثيابك بنفسك، وتذهبين في تمشية قصيرة«.
ثم ذهب الموكب في اتجاه غابة (أيموفيل)؛ وفي خلال ساعتين عاد الجنود وحدهم. ولا شيء يخص المرأة المجنونة يمكن رؤيته. ماذا فعلوا بها؟ الي أين أخذوها؟ لم يعرف أحد.
الثلج كان يسقط نهارا وليلا. وغلف السهول والأشجار بغطاء من الزبد المتجمد. وجاءت الذئاب ورابضت عند أعتاب بيوتنا.
التفكير في هذه المرأة المسكينة المفقودة اجتاحني، وأرسلت عدة طلبات الي المسئولين البروسيين طالبا بعض المعلومات. واقتربت كثيرا من الحصول عليها، عندما جاء الربيع، وغادر جيش الأعداء، ولكن ظل منزل الجارة مغلقا ونما العشب بكثافة في ممشي الحديقة. وماتت الخادمة العجوز في الشتاء. ولم يشغل أحد باله كثيرا بما حدث؛ أنا وحدي فقط فكرت في هذا بمنتهي الجد والتركيز. ماذا فعلوا مع المرأة؟ هل هربت في الغابة؟ هل عثر عليها أحدهم؟ وأخذها الي المستشفي دون أن يحصل علي أية معلومات منها؟ لا شيء حدث يؤكد شكوكي. ولكن بالتدريج، خفف الزمن من مخاوفي.
حسنا، في الخريف التالي، وكانت أخشاب المدفأ في حالة رديئة جدا. ولأن (النقرس) قد غادرني لبعض الوقت فقد استطعت الذهاب بعيدا الي الغابة. قتلت أربعة أو خمسة من الطيور طويلة المنقار، وعندما ذهبت لجلب احدها، والذي سقط في حفرة امتلأت بالفروع، واضطررت لأدخل هذه الحفرة لألتقط الطائر، واكتشفت أنه قد سقط قريبا جدا من جثة آدمية ميتة. فورا اكتسحتني ذكري المرأة المجنونة في صدري. عديد من الناس ماتوا في هذه الغابة خلال تلك الحرب الدموية اللعينة، ولكني – بالرغم من أني لا أعرف لماذا – كنت متأكدا، متأكدا كما أخبرك أنني أري رأس هذا الكيان المحطم.
وفجأة فهمت. خمنت كل شيء. لقد هجروها علي تلك الحشية في البرد، والغابة العارية، وتركوها لرأيها الخاص مؤمنين باختيار عاقل محكم. وهي تركت نفسها تهلك تلك الطبقات الكثيفة من الجليد دون تحريك ذراع أو قدم.
ثم افترستها الذئاب، وبنت الطيور أعشاشها من صوف فراشها الممزق، وحملت أنا مسئولية عظامها..
فقط صليت لأجل ألا يري أبناؤنا أي حرب أخري.
عن أخبار الأدب / ترجمة: هانى حجاج
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا