رشيد بوطيب – دويتشه فيله
قضايا عديدة وملحة يتناولها كتاب المفكر اللبناني ناصيف نصار “الإشارات والمسالك”، منها النظرة إلى التراث النقدي للثقافة العربية ـ الإسلامية، مسألة التواصل الفلسفي، حقوق الإنسان، سلطة الدولة، والعلمانية
يبدأ ناصيف نصار كتابه بتفكيك العلاقة شبه البكائية مع فيلسوف عربي قديم اسمه ابن رشد، ونحن نتحدث هنا عن علاقة المفكر العربي المعاصر مع ابن رشد. وقد كانت المستشرقة الألمانية آنكه فون كيكلغن قد درست حضور ابن رشد والرؤى المختلفة إلى فلسفته داخل الفكر العربي المعاصر في القرن العشرين دراسة نقدية مستفيضة وسلطت الضوء أيضا على البعد الأيديولوجي لهذه العلاقة أو بالأحرى لهذه العلاقات القائمة مع فلسفة ابن رشد، والتي كان يهدف أغلبها إلى استثمارها من أجل خلق حداثة عربية و مجابهة قوى المحافظة والتقليد.
لكن موقف ناصيف نصار هنا يختلف جذريا عن تلك المواقف التي يمكن أن ننعتها وفي لا حرج بـ “التأرخخ”، فتجاوز التراث لا يمكن أن يمر بالعودة إليه بل بالقطيعة معه، وأعني التراث الميت الذي لم يعد يربطنا به شيء وأضحى نسيا منسيا، والذي قد يكون موضوعا للدراسة في مجال تاريخ الأفكار كما ندرس الإلياذة والأوديسا ولكن لا يمكننا البتة التفكير به ومن خلاله في قضايا عصرنا.
ما التراث بالنسبة لي اليوم؟
أليست الثورة الفرنسية وتراثها الفكري الذي أسس للحداثة أحق بالعودة إليه والإصغاء له والاستفادة منه من تراث ابن رشد أو ابن خلدون؟ من حق ناصيف نصار أن يحذرنا من القراءات المدائحية، وأفضل في هذا السياق، استعمال تعبير أكثر دقة: “القراءة البكائية للتراث”، لأن الأمر بلغ حالة العصاب، وفعلا يصيب حين يبين بأن دفاع ابن رشد لم يكن عن الفلسفة عموما، بل عن فلسفة هدفها النظر في الموجودات وفي علاقاتها بالصانع، وبلغة أخرى معرفة الله. فالفلاسفة هنا ليسوا أكثر من ورثة للأنبياء، والفلسفة محصورة في البعد الديني، لا ممارسة حرة للعقل، بل ممارسة مقننة بالشرع لا تتجاوز أفقه أو نفقه، هدفها الإثبات لا الاختلاف والتبرير لا التفكيك، تستمد شرعيتها من الشرع لا من العقل، وتنادي “بقتل الزنادقة”، أي بقتل الخارجين عن الحقيقة الشرعية.
فأي فلسفة رشدية يريد عابد التراث بعثها من الموت؟ لا عجب إذن أن يعنون ابن رشد أحد كتبه بـ “بداية المجتهد”، إذ الأمر يتعلق بمجتهد لا بمفكر، والاجتهاد “مصطلحا” و”ممارسة” و”وجهة نظر” في السياق الثقافي الإسلامي، تفكير مقيد، وليس بتفكير حر، قد يلجأ إلى القياس لكنه يرفض حتى اعتبار الإجماع كمبدأ مستقل، “لأن ذلك يعني إضافة قانون بشري خالص إلى الشرع المنزل”، كما أوضح نصار منتقدا ابن رشد. فهل يحق لنا أن نقول مع محمد عابد الجابري في “نحن والتراث”: “ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلا رشديا”؟ قطعا لا، فلم يتبق شيء من تراثنا الفلسفي يمكننا أن نستعين به لحل مشاكل عصرنا.
ضرورة فهم الدين من خلال سياقه
ليس المجتهد من نحتاجه اليوم ولكن الفيلسوف، هذا الفيلسوف الذي يجب أن ننجزه في علاقتنا بالآخر، واستعدادنا للتعلم منه، في ممارستنا للنقد المزدوج. علينا أن نركن قليلا إلى التواضع ونعترف بأننا لا نملك في التراث شيئا يساعدنا على مواجهة أسئلة عصرنا، وحين أقول بالقطيعة مع التراث، لا أعني قتله ونسيانه ولكن أعني التعامل معه في سياقه التاريخي وعدم إخراجه من هذا السياق ومحاولة فرضه على سياق آخر، له شروطه وأسئلته المختلفة، فإذا أخذنا قضية الدين مثلا، باعتباره جزءا من التراث ومن راهننا أيضا، فأن نفهمه في سياقه اليوم، يعني ضرورة أن نفهمه بشكل مختلف، وإلا تحول إلى عقبة حقيقية، وأعني بشكل مختلف أن نفهمه كما يفهمه اليوم الإنسان الغربي كعلاقة شخصية مع الله، وليس كمشروع للانقضاض على السلطة، وقس على ذلك من قضايا مشابهة وملحة، كشكل الدولة والعلاقة بين الجنسين والتربية إلخ..
ولكن حتى نعود إلى ابن رشد مرة أخرى، أريد أن أشير إلى قضيتين أساسيتين، تتعلقان إلى حد ما بموقف ناصيف نصار من فيلسوف قرطبة. فأولا ورغم تأكيده وتوضيحه القاطع على ارتباط الفلسفة بالشرع لدى ابن رشد وانحصارها خلف جدرانه، إلا أنه يرى في آخر ما كتبه عن هذا الفيلسوف في كتابه بأن هناك ما يستحق الأخذ به لدى ابن رشد وهو دفاعه عن مبدأ كونية الفلسفة وبأنه لا قومية لها، وهو كلام مردود لسبب واضح وهو أن حصر دور الفلسفة في مجال النظر في الموجودات وعلاقتها بالصانع أفرغ الفلسفة من كل بعد كوني، وعطل فعل التفلسف الحر من قبل الشروع فيه، فشرط الكونية هو الاستقلال العقلي وحرية ممارسة النظر في الصانع وغير الصانع، ودفاع ابن رشد عن العودة إلى كتب القدماء، وإن تميز بنوع من التسامح مقارنة بأهل عصره، إلا أنه لا يؤسس لاستقلال فلسفي حقيقي، فالنظر في كتب القدماء واجب شرعا، وفي ربطنا للنظر بالشرع نعمل من حيث لا ندري على اعتقال النظر داخل الشرع، أو نحن نمارسه انطلاقا من مسلماتنا الشرعية وأحكامنا الدينية المسبقة بشكل لا يسمح لهذا النظر أن يؤسس لحقيقة مختلفة، فالأمر أشبه بعوليس الذي كان بعد كل مغامراته يعود دائما إلى إيتاكا، وهذا شأن المجتهد، قد يشطح في كل اتجاه لكنه يعود خاضعا ليقبل يد الشرع.
القضية الثانية، التي نختلف فيها مع نصار ونتفق فيها جزئيا مع ابن رشد، وهي تأكيده أن”ّالعقل عاجز عن إدراك بعض الحقائق في الشرع المنزل، وأنه يجب قبول الشرع وتقبله، بمبادئه الميتافيزيقية.. “، أقول جزئيا، لأني أريد الاحتفاظ هنا فقط بمسألة عجز العقل عن معرفة كل شيء، وليس بالمعنى الرشدي الضيق، الذي يوصم العقل بالعجز حتى يحرمه من الشك.
وبلغة أخرى، قد نتحدث انطلاقا من ابن رشد وضده عن “عقل ضعيف”، أي عقل واع بقصوره وأخطاءه ونسبية حقائقه، لكنه في الآن نفسه منفتح على الشك ليس فقط بالشرع ولكن بنفسه أيضا وقدرته على إدراك كل شيء. طبعا لم يكن ابن رشد ليؤسس لهذا “العقل الضعيف”، بالمعنى الابستمولجي والأخلاقي للكلمة.
ولم يتوقف ناصبف نصار عند ابن رشد وسؤال راهنيته، بل عرج أيضا على رمز من رموز الفكر العربي الكلاسيكي، اهتم به عديد من المفكرين العرب في القرن العشرين. ويرى نصار أن ما يثير إعجاب العرب اليوم بفكر ابن خلدون، إنما هو “استمرار الماضب الي فسره في حاضر العرب اليوم” وهي استمرارية لها علاقة باستمرارية “ثنائية العمران البدوي والعمران الحضري وظاهرة العصبية المنتجة للملك والاستبداد فاعلتين عبر التراث الحي في تورايخ شعوبهم”.
لكن نصار يعتقد أنه من الخطأ اعتبار الخلدونية كافية لوحدها لتفسير حاضر التخلف العربي، وهو يتفق في ذلك مع عبد الله العروي وما كتبه في “ثقافتنا في ضوء التاريخ”: “جاء ابن خلدون في نهاية حقبة من التاريخ الإسلامي وفحصها بعد أن صارت قطعة هامدة لم يعد في إمكان أي أحد أن يعير فيها شيئا. لا عجب إذا وجدها خاضعة تمام الخضوع لأحكام الطبيعة، ورأى فيها نهاية محتومة لقوة طبيعية تظهر، فتنمو، ثم تنقرض. استخرج من هذا التشريح مقاييس لتمحيص الأخبار المروية عن تلك الحقبة ولم يهدف إلى أي نفع آخر”.
مفهوم التواصل وإشكالياته
يتحدث نصار عن أهمية الصراع والتواصل في كل ثقافة، وحتى وإن كان يتبنى مفهوما تقليديا عن الاختلاف كمقوم للتواصل “يستلزم وجود حد من الاشتراك أو من التماثل بين الأطراف الداخلة فيه”، لأن الاختلاف المطلق في رأيي هو شرط التواصل، ودينامية التواصل يضمنها الصراع، لا الإجماع.
كما أن التواصل الدينامي لا يبغي إقناع الآخر وربطه بنظام الأنا، فالاحترام المتبادل بين أطراف التواصل، أهم من التقاءها عند حقيقة واحدة. ونصار يقول ذلك، وإن لم يكن يدرك أبعاده وهو يتحدث عن الاعتراف المتبادل بين طرفي التواصل، فالاعتراف أخلاق وليس معرفة، إنه لقاء بالآخر لا اتفاق معه، علاقة وليس بوعي.
وبالفعل، فإن فعل التواصل القائم على الاعتراف يتضمن تجاوزا للأنوية وللمركزية الذاتوية. يؤكد نصار ارتباط فعل التفكير بفعل التواصل، فلا تفكير بدون تواصل أو كما يقول “لأن الحق يقتضي، في جملة شروطه، شرط التواصل”.
لكن ألا يخطئ ناصيف نصار حين يتحدث عن “طريق للاستقلال الفلسفي” داخل الثقافة العربية إزاء الفلسفة الغربية؟ أي حين يحذرنا من التبعية؟ ألا يحق لنا أن نميز بين تبعية إيجابية وأخرى سلبية؟ أي بين تبعية مستلهمة ومنتجة وأخرى مستهلكة ومريضة؟ وألا يحق لنا أن نتساءل إن لم تكن تبعيتي، أنا العربي المتخلف حضاريا، لغرب منتج للحضارة أصلح لي وللأجيال المقبلة من انغلاق على الذات وقبول بالمكتوب؟ ثم من قال بأن الفلسفة الغربية تهدف إلى السيطرة علي وهي في واقع الأمر لا تأبه بوجودي؟ ثم أليست سيطرة التخلف والقمع والتعصب الديني والطائفي أسوء من سيطرة الثقافة الغربية المطالبة بحرية الإنسان؟
إن الحديث عن الهيمنة الثقافية يخفي الهيمنة الحقيقية، هيمنة التخلف، وهو حديث يلغي كلام نصار عن التواصل من أساسه. فأي تواصل نقدي بين “الفلسفة العربية” والفلسفة الغربية، لا يجب أن يقوم على “مبدأ الشراكة” كما يريده نصار ولكن على مبدأ التعلم من الآخر والانفتاح غير المشروط عليه.
البحث عن تأسيس فلسفة عربية وهم
لكن لننتقل الآن إلى الانتقادات الثاقبة التي وجهها ناصيف نصار لطه عبد الرحمن وما طرحه في كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” و فكرته عن “قومية الفلسفة”، وهي فكرة أقل ما يمكن القول عنها أنها بعيدة عن مفهوم نقدي وحر للفلسفة، لفلسفة لا ارتباط دينيا أو عرقيا لها.
إن الباحث عن تأسيس فلسفة عربية، هو باحث واهم، والوهم أقصر الطرق إلى التخلف، فهو واهم أولا، لأنه يطلب تأسيس فلسفة عربية عبر فك الارتباط مع الفلسفة الغربية، وثانيا لأنه يعتقد أن كل فلسفة ترتبط بهوية قومية محددة، في حين أن الفلاسفة عبر التاريخ كانوا أكبر المفككين لهوياتهم وثقافاتهم من سقراط، مرورا بكانط ونيتشه وانتهاء عند فوكو ودريدا وجيل دولوز. إن ما يدافع عنه طه عبد الرحمن ليس حقا في الاختلاف ولكنه حق التقوقع على الذات والتمترس خلف أقانيمها الواهية، إنه يدافع عن الحقد لا عن الحق وعن الانغلاق لا عن الانفتاح وعن البداوة لا عن المدنية، وهو بعيد أشد البعد في ذلك من رموز الفكر المغربي الذين كانوا رموزا للاختلاف داخل الفكر العربي المعاصر كمحمد عزيز لحبابي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد أركون.
محق نصار وهو يبين أن التواصل عند طه عبد الرحمن محكوم من “خارج الفلسفة”، لكن الفلسفة تخاطب الإنسان، وهنا تكمن كونيتها، فأسئلتها تتمحور حول الإنسان ووجوده، أصله ومآله، علاقته بالزمان وبقية البشر، إلخ.. وهي أسئلة تهيمن، حتى لو كان من يطرحها فيلسوف مسيحي ككيركغارد أو ما بعد ميتافيزيقي كهايدغر أو وجودي كسارتر أو يهودي كليفيناس، لأنها فلسفات أو أسئلة لا ترتبط بقومية معينة. وحجاج طه عبد الرحمن بأن كل تفلسف مرتبط بسياق تاريخي واجتماعي معين، لا ينفي البتة كما بين نصار كونية الفلسفة، كما أنه لا يؤكد قوميتها، فالكونية لا تعني البتة الثبات ولا تتعارض مع التاريخية، بل تمنح منها أسئلتها، كما أن ارتباط الفلسفة بلغة معينة، لا ينفي أهميتها بالنسبة لثقافات أخرى، وأذكر هنا مثلا بتأثير فلسفة التنوير الغربية على ثقافات عالمية مختلفة، منها العربية، وعلاوة على ذلك فإن اللغة تموت وتنقرض حين تتحول إلى سلاح أيديولوجي بيد القوميين، أي حين تفقد صلتها بالآخر/العالم.
“العلمانية انتصارا للعدل”
يؤكد ناصيف نصار بأن العلمانية مرتبطة بالتطور البشري، وأن النظرة الدينية نفسها تتأثر بهذا التطور وبالتغييرات التي ترافقه. كما يرى أنه إذا كان الصراع، الذي اتخذ أحيانا طابعا دمويا، هو المنهاج الذي اتبع في مواجهة الدين و”تسلطه” في الماضي، فإن العلمانية، جاءت لتتجاوز أخطاء المعسكرين: الديني والسياسي وترسم حدودهما، بشكل يضمن تعايش مختلف وجهات النظر إلى العالم، ويضمن من خلال ذلك التنوع الثقافي والتعدد الاجتماعي.
لكن قبل أن أستمر في عرض أفكار ناصيف نصار بشأن هذه المسألة، لا مندوحة من الإشارة إلى سوء فهم وشطط كبير يعود في جزء منه إلى تعامل بعض وجوه الفكر العربي المعاصر، تعاملا لا نقديا ولا تاريخيا مع فلسفة التنوير ومفاهيمها، وهو ما نلمسه مثلا في اللغة العنيفة التي يستعملها وينتجها هؤلاء المفكرون، فحين يتحدث نصار، وغيره كثير، عن “تسلط للدين”، يعتقد القارئ بأن الدين غول كبير جاء لابتلاع البشرية، وهو أمر قد يصدق على الحروب الدينية في أوروبا ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمه على مناطق وتواريخ أخرى، والأصوب رغم ذلك هو الحديث عن استغلال سياسي أو دنيوي للدين. فالدين، ولنأخذ الإسلام مثلا، نص متعدد يتجاوز النص القرآني، بل القرآن نفسه لا يمكن الحديث عنه كنص مغلق، أي كنص منتج للعنف ونهائي، لأنه لا ينحصر في تأويل أو ترجمة محددة، بل وحتى قبل بحث مضمون القرآن، فإن شكله ذاته، متعدد ومفتوح وملتبس.
وتكفي في هذا السياق الإشارة الى القراءات القرآنية المختلفة. إذن، لنقل بأن المواجهة لم تكن بين الحداثة والدين ولكن بين مجتمع بورجوازي أنتج قيما جديدة، ضد مجتمع فيودالي كان يحتكم إلى الدين بشكل متضخم أو بالأحرى يستغله للمحافظة وتبرير وضعه وسلطته، كما نختلف مع نصار، الذي يربط التقدم نحو العلمانية، بتعزيز “العقلانية المنتجة للعلم والفلسفة والصناعات..” لأن العلمانية ليست رؤية إلى العالم، بل نظاما إجرائيا لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة والمجتمع، وبشكل مرن ومفتوح ويقوم على ما أسميه بـ “مبدأ التعلم من الآخر”.
العلمانية لا تلغي الدين
حين نؤكد على إجرائية مفهوم العلمانية، فإن ذلك يعني أنه غير مرتبط بـ “العلم” والتقدم العلمي بالضرورة، ولا بـ “العقل”، بما هما وجهتا نظر إلى العالم، بل هو “مفهوم “غير مفهومي”، أي حر من كل مضمون معرفي، أخلاقي، أو أيديولوجي. لهذا يتوجب رفض النظرة الثقافوية إلى العلمانية، فالتطور نحو العلمانية لا يمر جبرا، كما يعتقد نصار وآخرون “بنزع الصفة الدينية عن الدولة ونظامها” بل بالانتقال من مجتمع تقليدي، متخلف، تضخم فيه دور الدين وأقحم فيه الله في كل مكان وفي كل قضية، من مجتمع يحمل الدين ما لا يتحمل، ويستغله كـ “إله للثقوب”، وصكوك غفران وصلاة استسقاء وقدر ومكتوب، إلى مجتمع متعدد، ولا أقول إلى مجتمع حديث، لأن الحداثة ليست أقل عنفا من التقليد، ومن شأن مجتمع التعدد، أي مجتمع تحكمه رؤى ضعيفة إلى العالم، أن يعيد إلى الدين “دينيته” المغتصبة.
حتما إن العلمانية لا تلغي الدين، كما يقول نصار، لكن مجرد وضع الدين في مواجهة الحداثة، والحديث عن العلمانية كتطور أفرزته الحداثة، ولهذا يظل مرتبطا ومحكوما بها وبأفقها، يفرع العلمانية من كل حياد، ويحولها إلى حقيقة، وبلغة أخرى إلى سلطة ضد الدين. ولهذا لا يخطئ الإسلامويون اليوم حين يماهون بين العلمانية وبين العداء للدين، لأن العلمانية كما مارسها النظام العربي الرسمي وكما نظر لها المفكر العربي القومي أو الماركسي أو الليبرالي، كانت محكومة بنوع من الحقد المرضي على الذات وتراثها الديني.
بقي أن نشير إلى قضية أساسية، لقد تحدث المفكر العربي الحداثوي وغير الحداثوي في جرعات كبيرة عن الدين، لكنه لم يعمد مرة إلى تحديد مفهومه، وهو ما تسبب ومازال بسوء فهم كبير. وقد نقول في شكل متسرع بأن الدين علاقة مزدوجة، فهو من جهة علاقة الإنسان بخالقه وهو من جهة ثانية علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإذا كانت العلاقة الأولى محصورة في المجال الديني البحث، يحدد تفاصيلها وطقوسها وأبعادها الرمزية ، فإن العلاقة الثانية لا يعمل الدين أكثر من رسم عناوينها الأخلاقية الكبرى، فاتحا الباب، في لغة دينية، للاجتهاد بل و لـ “النسخ”، أي للتجاوز. والعلاقتان مرتبطتان بالفرد لا بالجماعة “فالله يخلقنا أفرادا ويحاسبنا أفرادا”، تقول إحدى شخصيات نجيب محفوظ، وترتبط العلاقة الثانية بمجموعة من الأوامر والنواهي الأخلاقية، التي تتميز بطابع كوني ونصادفها في أغلب الأديان، بل وفي أغلب الشرائع الوضعية.
إن تحديد مفهوم واضح للدين، والاعتراف به كجزء لا يتجزأ من المصير الإنساني، أمر لا مندوحة عنه في طريق رسم معالم مجتمع متعدد، بل ومن أجل تحقيق فهم أفضل للعلمانية. إن نصار يقدم تعريفا تقليديا للدين، فالله الذي يطالبه بالطاعة، يطالبني بالعمل، وفي عملنا فقط نكون مؤمنين، والعمل هو العلاقة بامتياز، لأنه يشترط الآخر، وبلغة أخرى المجتمع والأخلاق. كما أن الله ليس سلطة مطلقة، وأًنى له أن يكون كذلك وأنا قادر على الإلحاد به وضرب أوامره ونواهيه بعرض الحائط. إن الإنسان مشارك للخالق في فعل الخلق، كما كتب لحبابي في “الشخصانية الإسلامية”، ولأنه خالق، فهو حر في تقرير مصيره. الأصل في الدين الحرية، وإلا بطل شرط قيامه.
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني