إذا كانت معادلة الإبداع الإنساني تحتاج إلى طرفَين اثنين هما المرسِل والمستقبِل، فإنّ معادلة الشعر (على نقيض من الرواية مثلاً) تحتاج إلى ثلاثة أطراف: الشاعر، والقارئ، والمستمع. وفي العصور القديمة كان الشاعر هو قائل الشعر وقارئه في آن معاً، يتلوه على جمهور ينصت مباشرة أو عن طريق التداول السماعي، وظلّت حاله هكذا زمناً طويلاً قبل تدوين الكتابة واختراع الطباعة. اليوم انفكّ الشاعر عن وظيفة التلاوة ـ القراءة تلك، واكتفى بالعيش في دائرة الإبداع البعيدة عن قارئ أخذ يستولي تدريجياً على وظيفتَي القراءة والإنصات. وبسبب من هذا التحوّل الفاصل بات من واجب أيّ قارئ للقصيدة أن يمتلك معرفة الحدّ الأدنى حول كيفية قراءتها.
وكانت عمليات التجديد المتعاقبة قد تبلورت على نحو جذري منذ أواسط الخمسينيات، حين انعتق الشكل الشعري قليلاً، ثم انعتق كثيراً، ثمّ انعتق أكثر ممّا ينبغي في أيّامنا هذه. ولقد تبيّن سريعاً أنّ بهجة انقلاب النظم العربي إلى قصيدة اقترنت بطارئ آخر ذي شقّين، ليسا مدعاة بهجة، بل مدعاة كدّ واجتهاد وعرق وتعب وخيبة، ومدعاة فوز أو خسران في نهاية المطاف.
الشقّ الأوّل في ذلك الطارئ هو انقلاب ”القصيدة” إلى ”نَص”، وما يعنيه ذلك من موت المؤلف، حسب رولان بارت أو ميشيل فوكو أو جاك دريدا، أو حسب واقع الحال العملي ببساطة. المؤلّف كان منبع الإبداع والكتابة والتخييل، فأصبح ”جامع شذرات” لغوية مؤتلفة على هيئة شيفرات ثقافية أو نفسية أو أنثروبولوجية الخ… قابلة للكشف اليسير إذا ما انكشف منطق ”الكولاج” العسير الذي يجمعها ويحيلها إلى نصّ. الشقّ الثاني هو أنّ موت المؤلّف كان، في الآن ذاته، يدشّن ولادة القارئ! ذلك لأنّ انقلاب النظم إلى قصيدة كان قد تسبّب في تراجع المستمع ـ القارئ وتَقدم القارئ ـ القارئ، وأمّا انقلاب القصيدة إلى نصّ فقد تسبّب في انسحاب الشاعر من القصيدة وصعود القارئ ـ الشاعر الذي يستعمر النصّ بقوّة الذائقة المتجبّرة، أو بسلطة التأويل المفتوح على أربع رياح الكتابة. وبعض معضلة التعاقد، أو بالأحرى غياب التعاقد، بين الشاعر والقارئ هو أنّ الأوّل يكتب الشعر في صيغة ”قصيدة”، والثاني يستقبله في صيغة ”نصّ”؛ الأوّل يضمر سياسة البحث عن القارئ ـ القارئ، والثاني يضمر سياسة الاستيلاء على قناع القارئ ـ الشاعر؛ الأوّل يكتب القصيدة فيمنح القارئ حقّ استيلاد النصّ، والثاني يقرأ النصّ فيمنح نفسه حقّ قتل الشاعر! وفي نهاية الأمر، الفنّ ليس حقيقة مشخصة كالشجرة أو البحر أو الفأس، بل هو ما يتعاقد البشر على أنّه الفنّ. والشعر العربي يموت ببطء هذه الأيّام، ليس بسبب عجز الشاعر العربي عن كتابة قصيدة جديرة بالحياة والخلود، بل بسبب انهيار التعاقد بين الشاعر والقارئ حول تعريف الفنّ ضمن أسئلة من النوع التالي مثلاً:
ـ ما الذي تعنيه مفردة ”القصيدة”، في الحساب الأخير؟ وكيف نقنع القارئ بأنّ ما يقرأه هو ”الشعر” وحده، لا لشيء سوى أنّ الشاعر يقول عن كتابته إنها الشعر وحده؟
ـ كيف ينبغي أن يقرأ القارئ كما يريد له الشاعر أن يقرأ؟ أي: كيف وهل تزوّد القصيدة قارئها بعُدّة جمالية كافية لكي تُردم الهوّة بين عادات القارئ في القراءة، وعادات الشاعر في الكتابة؟
ـ وفي المقابل، كيف يكتب الشاعر كما يريد له القارئ أن يكتب؟ أي: كيف وهل يزوّد القارئ الشاعرَ بـ ”أدلّة” كافية تهدي إلى ذائقة القارئ، وتكفل ردم الهوّة بين عادات الشاعر في الكتابة وعادات القارئ في القراءة؟
ـ لماذا ينبغي أن تحتفظ ”القصيدة” بالكثير من عناصر الشعر حتى بعد أن يمسخها القارئ إلى ”نصّ”؟
ـ لماذا ينبغي على الشاعر أن يحفظ الكثير من عناصر الشعر، حتى وهو يمسخ ”القصيدة” إلى ”نصّ”؟
أين المشكلة، إذاً؟
إنها، أوّلاً، في حقيقة أنّ العالم يتغيّر بسرعة، وقصيدة النثر العربية المعاصرة لا تتغيّر إلا ببطء… إذا تغيّرت أصلاً! ومع رجاء أن لا يُصاب الكثيرون بمفاجأة مباغتة، يهمّ كاتب هذه السطور بتسجيل قناعته بأنّ شكل قصيدة النثر العربية لا يبدو اليوم محافظاً فحسب، بل هو آخذ في التخلّف حتى عن مكتسبات عصور التجديد التي يقتدي بها ويحالفها ويستلهمها، شرقاً وغرباً.
الصورة الشعرية (الفاتنة والخاطفة والبديعة والتركيبية والتشكيلية…) التي باتت تنهض عليها معظم كيمياء قصيدة النثر، لن تكون قادرة طويلاً على مواجهة المنافسة الشرسة مع ”الصورة” الأخرى (الفاتنة والخاطفة و…) التي تقدّمها مختلف أنواع الشاشات البصرية.
واللغة الشعرية الخاصة، التي تظلّ امتياز الشعر عن النثر، هبطت من علٍ بقرار إرادي من الشاعر نفسه، الحريص على ”الهامشي” و”المجّانيط و”اليومي”، ولكنها فشلت في أن تمسّ شغاف قارئ يعيش هذه اللغة كلّ يوم… لأنها ببساطة لغته الهامشية والمجّانية واليومية! المشكلة الثانية هي أنّ قصيدة النثر ”ديمقراطية” بطبيعة موضوعاتها وشكلها، حليفة الحياة أكثر من الموات. لكنّ الثقافة العربية المعاصرة تعيش في كنف الاستبداد والقمع والشمولية، والحياة العربية المعاصرة لا تعيش إلا في سياق الصراع ضد الموات المنظّم الذي تديره أنظمة الاستبداد. مفهوم، تالياً، أن تغترب قصيدة النثر عن عصرها وناسها (كما تفعل إجمالاً)، وحريّ بها أن تتعاقد مع عصرها وناسها (كما تفعل نادراً) دون أنّ تخسر زخم التبشير بالديمقراطية والانشقاق والتجدّد والتقاط هموم الإنسان الصغير، ولكن دون أن تنصّب الشاعر أرستقراطياً أوحد بالتزكية الجمالية!
المشكلة الثالثة هي العجز عن توطيد ”علم اجتماع” للشكل الشعري، والتنازل عن إدارة منطق تعبيري واضح المعالم بين الأشكال المتواجدة في آن معاً أمام القارئ وفي ساحة القراءة. الأمر، في عبارة أخرى، يتصل بعزوف قصيدة النثر العربية المعاصرة عن مواجهة جدل ولادتها، وإشكالية شكلها، ومصائر قراءاتها: إنها تستخدم النثر ولا تعترف بكامل الطاقات الهائلة في هذا الوسيط النبيل اليومي والإنساني والقاعدي؛ وتطالب بالحرية القصوى وهي تصمّ الآذان والأدوات التعبيرية عن حركة القيود الحريرية المتينة التي يرتّبها النثر في انقلاباته الشعرية؛ وتهاجم الطبول والصنوج في الوزن لكي تتمترس خلف خرافة ”الإيقاع الداخلي” كمن يهرب الى الأمام نحو ”وزن ما” ويجحف بحقوق المخزون الإيقاعي والموسيقي الثري في النثر بوصفه نثراً؛ وتراهن على زمن ميتافيزيقي يختزن قارئاً قياسياً مصنّعاً وقراءة ”راقية” وهمية، متناسية أن الزمن إنساني، وأنه زمن القارئ الذي لا يمكن أن يظل فأر تجارب إبداعية، ولكنه لا يمكن إلا أن يكون حاضنة صالحة لاستقبال توتّر القديم والجديد، السكون والحركة، والتنويعات داخل الحركة الواحدة قبل ذلك كله وبسببه.
المشكلة الرابعة هي أنّ بعض النقد الشعري العربي المعاصر لا يتهرّب من مجابهة استحقاقات قصيدة النثر فحسب، بل يميل إلى تكريس ما يشبه ”الأمّية النظرية” حول الشكل، في غمرة الغرق حتى الأذنين في أمّية تحليلية عند دراسة نماذجها. والنقد مطالَب بدراسة شعريات النثر بوصفه نثراً من سلالة النثر، والنثر وحده، الأمر الذي سيفضي الى برهنة ضرورية على ثراء الأبنية النثرية إذا قُدّر لها شاعر حقّ يخرجها الى العلن وينصف شعريتها (وليس شاعريتها فقط)، ويفجّر مكامنها الموسيقية حين يواصل اقتراح أنظمة وعمارات إيقاعية تذهب الى النوع ومنه، وتجتهد لكي لا تكرّر وتتكرر، ولكي تستحق ما تعلنه من امتلاك الحرية.
المشكلة الأخيرة هي ميل العديد من شعراء قصيدة النثر إلى تعليق الأزمة على مشجب واحد وحيد هو غياب النقد الشعري، وكأنّ هذا النشاط الأخير هو المطهر المكلّف بغسل أدران القارئ قبل قبوله في فردوس الشعر الطاهر. مضحكة تماماً، ولا نقول مثيرة للشفقة، تلك الأصوات التي تندب حظّ الشعر الجديد مع هذا ”النقد الغائب”.
من ورقة صبحي حديدي في ندوة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث حول قصيدة النثر (2008)
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني