أين ولدت؟
إيكو: ولدت في مدينة إليساندريا المعروفة بصنعها لقبعات البورسالينو
من أيّ نوع من العوائل تنحدر؟
إيكو: كان والدي محاسبا، وأبوه عامل طباعة. يعد والدي كبير إخوانه الثلاثة عشر، وأنا الطفل الأول لأبوي، وإبني كذلك أول طفل لي، وأول طفل لإبني ولد أيضا؛ ولذا إن قام أحدهم وعن طريق الصدفة بإكتشاف أن عائلة إيكو متحدرة أصلا من إمبراطور بيزنطة فإن حفيدي هو دلفن.
كان لجدي من والدي تأثير إستثنائي على حياتي ومع هذا فزياراتي له كانت محدودة، فقد عاش بعيدا، حوالي ثلاثة أميال خارج المدينة وتوفي وأنا في السادسة.
لقد كان وعلى نحو ملفت يتمتع بفضول كبير تجاه العالم، قام بقراءة الكثيرمن الكتب، المدهش في الأمر أنه بعد تقاعده بدء بإستئجار الكتب، ولذلك فهو يمتلك العديد منها، ترقد هنا وهناك في شقته-طبعات قديمة،جميلة ومصورة لروايات القرن التاسع العشر المعروفة لكل من غوتييه و الكساندر دوما وكانت هذه من أوائل الكتب التي رأيتها في حياتي.
عندما توفى في عام 1938 الكثير من مالكي الكتب لم يطالبوا بإسترجاع كتبهم فتم وضعها، من قبل العائلة، في صندوق كبير. وعن طريق الصدفة المحضة إنتقل هذا الصندوق إلى قبو منزل عائلتي وقد كنت أنزل إلى القبو من وقت لآخر لإحضار علبة كولا أو قنينة نبيذ. في إحدى المرات فتحت الصندوق فإكتشتفت كنز الكتب الدفين.
ومنذ ذلك الوقت واظبت على النزول إلى القبو، وقد تبين حينها أن جدي قام بجمع العديد من المجلات الرائعة أيضا؛ مثلا مجلة السفر ومغامرات البحر واليابسة المصورة giornale illustrato dei viaggi e delle avventure di terra e di mar-المنكبة على قصص وحشية وغرائبية واقعة في بلدان غريبة، وقد كانت هذه غارتي الأولى على عالم القصص. ولكن وللأسف الشديد فقدت جميع هذه الكتب والمجلات. وتدريجيا خلال العقود اللاحقة قمت بإسترجاع نسخ منها من محالّ الكتب والمتاجر الصغيرة.
أخبرتنا أن أول كتاب رأيتَه كان من ممتلكات جدك. فهل هذا يعني أن أبويّك لم يمتلكا أيّ كتب؟
إيكو: سيبدو هذا غريبا، إلا إن والدي كان قارئا نَهِماً في شبابه. وبما أن جدايّ حَظِيا بعائلة كبيرة من ثلاثة عشر طفلا فقد كانا يكافحان من أجل تغطية نفقات الأسرة، فلم يتمكن والدي من شراء الكتب. ولذلك فقد كان يلتجئ إلى أكشاك الكتب؛ ليقرأ وقوفا، وحين يبدأ صاحب الكشك بإظهار انزعاجه من والدي الذي يتردد كثيرا دون شراء شيء يضطر أبي للبحث عن كشك جديد، ربما لاكمال بقية الكتاب الذي لم يستطع إكماله. ولكم قدّرتُ هذه الصورة: مطاردة الكتب بعناد وإصرار.
وكراشد لم يمتلك والدي الكثير من وقت الفراغ ولذا كان غالبا ما يقرأ المجالات والجرائد، ولم أر في منزلنا إلا القليل من الروايات التي لم توضع على رفوف بل في الخزانات . كنت أرى والدي في بعض الأحيان يقرأ روايات إستعارها من أصدقائه.
ترى ما كانت ردة فعله حين شاهدك تصبح باحثا وفي عمر صغير؟
إيكو: حسنا، لقد توفي ابي في بدايات العام 1962، وكان هذا قبل أن أقوم بنشر بعض الكتب الأكاديمية الأمر الذي يدفعني للإعتقاد إنها كانت محيرة بعض الشيء بالنسبة له، وقد إكتشفت أنه وفي وقتٍ متأخر من الليل حاول قراءة بعض من إعمالي، تم نشر كتاب the open work * قبل وفاته بثلاثة أشهر وقد كتب الشاعر الإيطالي العظيم يوجينيو مونتال مراجعة عنه في جريدة corriere della sera. لقد كانت مراجعة مربكة كخليط من الفضول والود والبذاءة ومع هذا فقد كانت مراجعة كتبت بواسطة يوجينيو مونتال وهذا أمر بإعتقادي يفوق تصورات والدي حينها.
بحسب إدراكي أشعر بأنني قد وفيت حقه، ففي النهاية شعرت بأنني لبيت كلّ أمانييه، ولذلك أتصور لو أنه قرأ أيّ من رواياتي لقرأها بسعادة بالغة. أما والدتي فقد عاشت لقرابة عشر سنين بعد وفاة والدي ولذلك فقد شهدت نشري للعديد من الكتب وكذلك الدعوات التي حصلت عليها لإلقاء محاضرات في جامعات أجنبية، ومع إنها كانت مريضة للغاية إلا أن سعادتها واضحة، لكنني لا أعتقد إدراكها التام لما كان يحدث فعلا، إلا أنني أعي جيدا أن الام ستحب ولدها حتى وإن كان غبيا.
في الوقت الذي إنبثقت فيه الفاشية في ايطاليا وبدأت الحرب كنت أنت لا تزال طفلا صغيرا، كيف شعرت تجاه هذا الأمرحينها؟
إيكو: لقد كان وقتا عصيبا، فموسوليني كان شخصا ملهما، وككل طلاب المدارس الإيطاليين في ذلك الوقت كنت عضوا في الحركة الطلابية الفاشية. كنا جميعا مجبرين على إرتداء الزي العسكري وحضور تجمعات يوم السبت، وكنا نشعر بالسعادة لقيامنا بذلك. في هذه الأيام سيشبه الامر أن يَلبسُ فتىً أميريكي زي المارينز*، سيشعر وبطبيعة الحال أنه أمر رائع ومسل.
الحركة باكملها كانت تبدو لنا ونحن صغار طبيعية كثلج الشتاء وحرارة الصيف. فلم يكن بمقدورنا تخيل طريقة أخرى للعيش. تعتريني غصة حينما اتذكر تلك الفترة مثل الجميع، كغصة ذكريات التفجيرات الناجمة عن القنابل والليالي التي قضيناها في الملاجئ. إكتشفت، عندما أنتهى كلّ شيء في عام 1943 ومع أول إنهيار للفاشية وبواسطة الصحف الديمقراطية، التعددية الهائلة لوجهات النظر والأحزاب السياسية.
وللفرار من التفجيرات التي وقعت في الفترة الممتدة من أيلول عام 1943 إلى نيسان 1945-والتي تعد أصعب فترة في تاريخ امتنا- لجأنا؛ أنا وأمي وأختي إلى الريف، في شمال مونفيراتو في قرية بييمونتي التي تعد بؤرة المقاومة.
هل شهدت ايّا من الإشتباكات؟
إيكو: أتذكر مراقبتي لتبادل الإطلاقات النارية بين الفاشيين والمقاومة، ورغبة المشاركة في الإشتباك، كما أتذكر تفاديي لطلقة وسقوطي على الارض.
ثم كان بإستطاعتي، من القرية التي نقطن فيها، مشاهدة التفجيرات التي تطول اليساندريا كل أسبوع حيث كان والدي ما زال يعمل. إنفلقت السماء كبرتقالة وخطوط الهاتف كانت مقطوعة لذلك لم يكن بمقدورنا غير إنتظار عطلة نهاية الأسبوع حينما كان والدي يعود إلى المنزل لنعرف أنه ما زال على قيد الحياة.
خلال تلك الفترة؛ المعيشة في الريف أجبرت الطفل على تعلم كيفية النجاة.
هل كان للحرب أثر على قرارك في الكتابة؟
إيكو: كلا، لم يكن هناك علاقة مباشرة فقد بدأت بالكتابة قبل الحرب، وبصورة مستقلة عنها.
كيافع بدأت بكتابة القصص الهزلية بسبب قراءتي للكثير من هذه الكتب وكذلك قراءتي للروايات الفانتازية الماليزية وأفريقيا الوسطى. وبوصفي ساعيا نحو الكمال وراغبا بأن تبدو قصصي وكأنها قد طبعت فعلا كنت أكتبهم بالحروف الكبيرة، وأضع عناوينا للصفحات، أكتب الملخصات وأرسم الرسومات، وقد كان من المضني عليّ ألا أنهي ايّ واحدة منهن، فقد كنت وفي ذلك الوقت كاتبا عظيما لتحف غير مكتملة. ومع ذلك لعبت ذكريات الحرب، حينما شَرَعتُ بكتابة الروايات، دورا محتوما وهذا أمر مفروغ منه، فكلّ رجل مأخوذ بذكريات نشأته.
صحيفة باريس ريفيو
من سلسلة الأدب التخيلي 197
المحاورة: ليلى عزام زنجانة
العدد 185 صيف 2008
ترجمة: مريم حسين
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا
رامَ الله / باي داو