تلك البقعة على الجدار
يقول جاري
إن أرملة الناطور تبرعت بثلثي روحها
لأجل أن تؤمّن مستقبل طفلين.
الطبيب أكد لها
أن المرء بإمكانه العيش بثلث روح
بشرط عدم الإفراط في الملح والبكاء،
جرامان من الملح يوميًّا
ونوبة بكاءٍ واحدة قبل النوم بحدٍّ أقصى.
لكن ليقُل الطبيب ما يشاء
هو لا يوزع رطلًا من الأرز
بالتساوي على يومين
أطفاله لا يبكون إذا داعبهم الغرباء
وحين تمطر
تدمع عيناه لأسباب رومانسية
ليقُل ما يشاء إذن
يبقى الحزن تلك البقعةَ على الجدار
كلما أعدنا الطلاء تنبُت مرة أخرى.
سيرةٌ ذاتيةٌ لكهلٍ يحب الجرّافات
الطفل الذي حدَّثك والداهُ بزهوٍ ذات مرةٍ
عن فشله في قراءة لوحات السيارات
لأنها بالعربية،
سيكون هو المراهقَ الذي يتمنى
لو بدا للآخرين كأمريكيٍّ متبجح،
والفتى الذي يظن
أن المُزارعين هم في الأصل
عازفو نايٍ يزرعون في أوقات فراغهم،
والرجلَ الذي يطوف المدينة
صباح عيد الأضحى
ملقيًا بأكياس اللحم من سيارته
للنسوة المتقاتلات على أسبقية الحضور،
والكهلَ الذي يحب الجرّافات بشدة
-بعد قطّه الشيرازي بالطبع-
لأنها أمّنت له مدنًا بِلا مزارعين،
أو نسوةٍ يقتتلن
على كيسٍ من اللحم المجاني.
جريمة كاملة
لماذا تسللا عبر فتحةٍ في السور؟ لا أحد يدري.
بالطبع عند البوابة كانا سيوَقّفان
لكن كان بوسعهما اختلاقُ قصةٍ ما.
لمثل هذا اختُرع الكذب.
*****
سُمعا قبل يومين وهما يُقسمان
أن بداخل المدينة المسيّجة أناسًا يشبهوننا
وأن ساعيَ البريد رأى سيدةً تتثاءب
من خلف زجاج نافذة.
*****
حين حُملت الجثتانِ
كانت الثقوب قد اختفت من اللحمِ
والرصاصات لم تكُن ليُعثر عليها.
كان موظف الحراسة الذي أرداهما
يفكر كم هو رائع
أن تؤديَ عملك على أكمل وجهٍ
دون انتظار مكافأة!
وهما أيضًا كانا مبتسمين
كأنما فازا أخيرًا بيقينهما.
*****
لم يفكر أحدٌ في استدعاء الشرطة.
لم تكن هناك جريمة.
لأنكم مبتذلون جدًّا
يريدون شراء حلوى العرس من بروكسيل.
جدتي التي لم تعبر حدود قريتها سوى مرتين
آخرهما
حين حملوا 56 كيلوجرامًا
من الألم الخالص للمقابر
ربما كانت ستظن “بروكسيل”
اسم دواءٍ للسُّعال
أو تتعجب لماذا يشتري الناس الحلوى
وهي أفضل مَن يصنع كعكًا بشهادة جاراتها
أنا كذلك لا أعرف تحديدًا أين هي بروكسيل
دون الرجوع لخارطة أوروبا
ولست متأكدًا
إن كان هناك شيءٌ في هذا العالم
أطيب من كوب شايِ بالنعناع
لكنني هنأتهم بالعرس على أية حال
واقترحت سويسرا
كبديلٍ أكثر رومانسية لبروكسيل
وفي المساء انتصرتُ لجدتي
حين ذكَّرت نفسي بأننا -يومًا ما-
قد يكون بوسعنا أن نقول لهم
وبنبرةٍ حازمةٍ تمامًا:
كم كنا قبيحين
لأنكم مبتذلون جدًّا!
الخبازون دائمًا
في نهاية اليوم
الخبّازون دائمًا مطمئنون.
بأسوأ الأحوال
سيخبزون أنفسهم أرغفةً
لسدِّ أفواه عيالهم.
- خالد أبو بكر : شاعر مصري ولد في مدينة المنصورة في 1 يناير عام 1967
- صدر ديوانه الثالث “ومخالب إذا لزم الأمر” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2017
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
“في المبغى” / محمد الماغوط