يتحجج ناشرو الشعر بأنهم لا يبيعون كتب الشعر بمجملها، شعراً ونقداً ودراسة، وأن الشعر سوقه «واقفة»، أو أن الشعر هذا ليس زمانه، وأنّ القراء الآن يبحثون عن السهل، والممتع في القراءة والأكثر مبيعاً، متناسين أن الشعر هو عدو الانتشار والتداول العام، لكونه يحتوي على عناصر فنية كثيرة، على رؤى دلالية، وحزم من الاستعارات والمجازات والتعابير الكنائية الكثيرة، ولكونه فناً خاصّاً، فهو يحنو على الغنوصي والهرمسي لمخاطبة الجوّانيات، والقاع السفلي والمعتم والعميق للإنسان الذي تطارده السرعة والقضايا اليومية الحديثة، والضجيج الدائر في كل زاوية وبقعة قصوى من هذا العالم .
لذا الشعر هو شقيق للصمت، هو يعيش في اللامرئي، في الحلم والخيال المتحلق، والرغبة الجانحة والمستطيرة لدى الكائن، هو العطر الخافق الذي لا يُرى، هو الوهم والحقيقة والسرّ المتواري عن الأعين والمرئيات. إنه من سكان الجوانح والأفئدة والمخفيات، إنه تستُّريٌّ، ملمومٌ على نفسه، غامضٌ كماسٍ وشفَّافٌ كبلور، إنه خبز من نوع آخر، لا يُشبع حين تأكله، بل تجوع إليه مرة تلو المرة.
أما الذين يتحدّثون عن موت سوق الشعر فهم الجشعون، الناشرون الطمّاعون، الذين يريدون من الشعر أن يكون على الأرصفة، مثل كتب الطبخ وكراريس الدين والسحر والشعوذة والروايات الجنسية التي تحقِّق الرغبة السريعة لمن يسعى اليها .أجل الشعر لدى الناشر العربي هو بضاعة كاسدة، هذا صحيح لأنه لا يبيع مثل الكتب الإيروتيكية التي ينشرونها، أو مثل كتب المذكرات، والسير الذاتية السياسية للزعماء والساسة والحكام، ولهذا يطلبون من الشاعر دفع تكلفة ديوانه. ‘نه فعل مشين هذا، حدث وانتشر وصار معمولاً به لدى الناشرين كقانون، أستثني طبعاً الناشر المثقف والاستثنائي، غير الجشع والمستميت على المال القادم من المبدع العربي الفقير، هذا ناهيك عن المستوى الدراسي والتعليمي للشعوب العربية التي تدنَّى مستواها العلمي والأكاديمي لأسباب لا تحصى، أبرزها الحروب المجانية التي حصلت في المنطقة، بدءاً من حربي الخليج الأولى والثانية، ثم حروب المنطقة الحالية، في كل من العراق المنهار، على جميع الصعد، ولبنان المنهار اقتصادياً وسياسياً، وحرب اليمن والسودان وليبيا وسوريا الجريحة التي تذبح يومياً، حيث تشرَّد شعبها بالملايين، وهُدمتْ بيوتها ومدارسها، وتدنَّى تعليمها إلى الصفر، ولا ننسى كذلك التنظيمات الإسلامية التي روَّعت الآمنين، وحطتْ من قدر ومستوى التعليم في المنطقة، وهدَّدتْ أمنها وعرّضتها للتخلف والتراجع لحقب طويلة، ناهيك عن حروبها الطائفية والإثنية والعنصرية، كل ذلك في اعتقادي أدى إلى تراجع بيع الكتاب، على نحو عام، وجاء هذا الأمر على حساب التعليم ونهوضه، وعلى حساب تطوير مؤسسات البحث العلمي، ونشر الفكر التنويري، ذلك الطامح إلى إلغاء كل الغايات والمطامح الضيقة للجماعات الظلامية التي تحاول زرع العتمة، بدلاً من إنبات النور وانتشاره، النور يساعد الكتاب على نشره وإضاءته، بينما الظلام، يساعد على نشر السلاح وتعميمه على الفئات المتقاتلة، والمتخلفة، من أجل تهديم حياتنا وتخريب تاريخنا وحضارتنا وأصولنا، ونهب ثرواتنا، عوضاً عن بناء الجمال، وترسيخ الفن والعلم والغايات المشرقة والمعبِّرة والمفيدة للمجتمعات العربية وللإنسانية جمعاء.
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو