“إن الجنون يفتن الإنسان في كل مكان: إن الصور العجائبية التي يولدها ليست مظاهر عابرة تختفي سريعا من على وجه الأشياء. فما يولد من أغرب أشكال الهذيان هو شيء كان مختفيا كالسر من خلال مفارقة عجيبة، إنه يشبه حقيقة لا يمكن الوصول إليها في قلب الأرض. فعندما ينشر الإنسان جنونه الاعتباطي سيكون وجها لوجه مع الضرورة الغامضة للعالم” ميشيل فوكو –
تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي
يملك إدغار الان بو حضورا مهما في الأدب االأمريكي. فالإسم يحمل شحنات موسيقية مثيرة تشبه الكود السحري، أما الصورة فتملك خطابها الميمي memetic (الرمزي) الخاص في الثقافة الشعبية الأمريكية، فلقد تم اعتماد وجه بو المونوكرومي الموحش كعلامة من علامات إحتفالية الهالوين منذ زمن ليس بالقصير، ويلاحظ إستخدام السينما والكوميكس لصورته ودلالاتها في أحيان كثيرة. حضور بو المشاغب بالصورة والنص كوحدة فكرية وثقافية تنتقل وتتكاثر عبر الإرث الفكري الأمريكي ووسائل التواصل الإجتماعي الأمريكي جعل سيرة الشاعر والروائي والناقد الكبير من أكثر السير تناولا وإحتفالا في الثقافة المضادة Counter Culture.
كانت حياة إدغار الان بو القصيرة (1809 – 1849) غير تقليدية. أصدر بو خمسين نسخة من كتابه الأول حين كان في الثامنة عشر من عمره، لم يقم الناشر بتوزيعها أبدا. إلتحق بعد ذلك في اكاديمية عسكرية، لكنه فشل في التحصيل الأكاديمي كما فشل في صناعة أصدقاء أو معجبين. وظيفته كمحرر في مجلة أدبية في ولاية فيرجينيا لم توفر له شبكة من الأصدقاء هي الأخرى، لكنها أعطته الفرصة للسخرية من الكتاب الآخرين، حتى أن رئيس التحرير كان يقول “يقرأ بو الكتب حتى يسخر من مؤلفيها”. عرف إدغار ألان بو بنقده اللاذع والعنيف، في كتاباته النقدية “بالإمكان التمييز بين بو الحقيقي وبو المتخيل/الغامض” كما يقول الروائي الأمريكي جون استن كوك الذي عاصره في أواخر أيامه. كان بو “يبحث عن مناطق الضعف في كل عمل أدبي يقوم بمراجعته”. إضافة إلى حسه النقدي الأدبي كان إدغار الان بو مولعا بالعمل البوليسي لدرجة أنه كان ينتقد المحققين ورجال الشرطة الذين لا يلتفتون إلى تفاصيل صغيرة مهمة في البحث عن قاتل ما، وعند الكشف عن جريمة ما كان يعدل في تفاصيل بعض قصصه، حبكاتها أو نهاياتها.
بعد نشره لقصيدة “الغراب” وقصص قصيرة مثل “جرائم شارع مورغ” و”القلب الواشي”، اللتان تعدان من النماذج الأولى عالميا للأدب البوليسي، تم الاحتفاء به في أمريكا وأوروبا. ففي فرنسا قام بودلير بترجمة أعماله بعد أن أعجب بها كثيرا، وفي بريطانيا، قال عنه الشاعر البريطاني ألفريد لورد تينيسون أنه “أعظم الكتاب الأمريكيين وأكثرهم أصالة”.
في محاضرة له عن “المبدأ الشعري” يذكر جون استن كوك كيف إحتفل بو بقصيدته المعروفة “الغراب”، وقرأها “بصوت موسيقي ساحر وحضور رشيق”:
وَهَكَذَا بَقَيْتُ مُسْتَغْرِقًا بِالتَّخْمِين، لَكِنْ مِنْ دُونِ نَبْسٍ بِكَلِمَةٍ
لِلطَّيْرِ الَّذِي كَانَتْ عَيْنَاهُ الْمُتَوَهِّجَتَانِ تَضْطَرِمَانِ فِي أَعْمَاقِ صَدْرِي؛
وَهَكَذَا أَيْصًا بَقَيْتُ أُحَدِّسُ وَرَأْسِي تَسْتَنِدُ فِي اِسْتِرْخَاء
عَلَى بِطَانَةِ الْفَرْوِ وَضَوْءُ الْمِصْبَاحِ يُبْهِجُهَا مِنْ فَوْق،
لَكِنَّ الَّتِي عَلَى بِطَانَةِ الْفَرْوِ الْبَنَفْسَجِيِّ وَضَوْءُ الْمِصْبَاحِ يُبْهِجُهَا مِنْ فَوْق،
هِيَ مَنْ وَجَبَ أَنْ تَسْتَنِد، وَاهٍ، “هَيْهَاتَ!” *
من قصائد إدغار الان بو المهمة قصيدة “الأعراف” المبنية على القصص القرآني في سورة الاعراف. “الأعراف” قصيدة طويلة كتبها بو عندما كان في الخامسة عشر من عمره وكان يقرأها أحيانا في الأمسيات الشعرية كي يربك شعراء بوسطن “لأنهم لم يستحقوا سماع قصائده الجديدة”. فكرة الأعراف فتنت بو حيث أنه أعتقد أن أهل الأعراف أكثر الناس سعادة لأنهم “لا ينالون أي عقاب وفي الوقت ذاته لا ينعمون بالسعادة السهلة”.
لم تلق كتابات إدغار الان بو الفكرية والفلسفية ذات الإهتمام الذي حظيت به قصائده وقصصه. فمقالته الفريدة “فلسفة الأثاث”، على سبيل المثال لا الحصر، تعد من أفضل أعماله النظرية، حيث يطرح فيها أفكاره وتوصيفاته عن جماليات المنزل وديكوره الداخلي. نظريات بو في تأثيث الغرفة والجماليات المتعلقة بالبيت سبقت مقولات مشابهة للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار صاحب “شعرية المكان”، والتي جاءت بعد موت إدغار الان بو بعشرات السنين. كما أنها تشبه مقولات حداثية في ثقافة الاستهلاك جاءت فيما بعد في سياق فكر مدرسة فرانكفورت. يقترح بو في مقالته أن الإنجليز هم الأفضل بين الأوروبيين والأمريكيين في ترتيب منازلهم، ويهزأ بالذائقة الأمريكية القائمة على “أرستقراطية الدولار” التي تتحايل على الجمالي عن طريق خلق إنطباع جمالي زائف. وفي ذلك يقول “لا يوجد ما هو أكثر إزعاجا لنظر الفنان من ديكور بيت أمريكي”. من الملفت في مقالة “فلسفة الأثاث” أنه لا يمكن للقارئ الحذر للمقالة إلا أن يلاحظ نزق إدغار الان بو وغرائبيته فهو يحدد شكل الغرفة المثالي وأبعادها المثالية بالمترات، وعدد أبوابها ونوافذها، وارائكها. ومما يحدده أيضا كمية الكتب المرصوفة في رفوف المكتبة، فعددها يجب أن يكون من 200 إلى 300 كتاب من القطع الكبير.
يعد بو من أوائل النقاد الذين أسسوا لما يعرف اليوم بالكتابة الإبداعية. في مقالة بعنوان “فلسفة التأليف”، يناقش إدغار الان بو نظرياته في الكتابة بحيث يحلل بشكل منطقي مدروس كيف تتم كتابة نص جيد ومحكم ويقترح قصيدته “الغراب” كمثال على معايير محددة مثل طول النص، الطريقة والتسلسل المنطقي، ووحدة الأثر. في شأن وحدة الأثر (Unity of Effect) ، يعمد بو إلى تحفيز الكاتب على التفكير برد الفعل العاطفي الذي يبحث عنه. وفي هذا السياق يقول أن “أفضل النهايات وأكثرها شاعرية هي موت امرأة جميلة”.
وفي شأن النهايات فلقد كانت نهاية حياة إدغار الان بو تشبه كثيرا نهاية قصصه: اسرار كثيرة وأشباح في الجدران. أما في نصوصه، فنحن وجها لوجه مع “الضرورة الغامضة للعالم”.
حقا ! ـ إنني عصبي ـ عصبي جدا جدا بصورة مخيفة ، هكذا كنت ومازلت ! سوف تقولون إنني مجنون ولكن لماذا ؟
(القلب الواشي)
*الْغُرَاب – ترجمة : سليمان ميهوبي
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو