ترجمة ادريس خالي /
‘لا ينبغي لدانيلو أن يذهب،’ قلت. ‘مثل تلك الطقوس لا تصلح لطفل. لا ينبغي للأطفال أن يذهبوا إلى هناك. إنهم لا يدركون ما يعنيه موت شخص ما. الموت !؟- إنه فقط كلمة تربكهم وتخيفهم. لماذا ينبغي علينا أن نشرحه بتلك الطريقة القاسية إذن؟’
‘أنت على حق، أجابت مارينا.’… يمكنه زيارة المقبرة يوم الأحد. ذاك كاف. لكن هل تصدق أنه في هذا الصباح كان يبحث عن قميص أسود.
” أمي، أود أن أرتدي قميصا أسود،” قال. لماذ؟ سألته. غدا ينبغي علي أن أبدو حزينا،’ قال.
‘سيعملون نصف نهار فقط في المدرسة هذا اليوم. لا أظن أنه ينبغي عليه الذهاب. سيشعر بالحزن كثيرا،’ قالت مارينا.
‘سنسأله ماذا يريد. هذا هو الشيء الجيد الذي ينبغي القيام به،’ أجبت.
‘دانيلو !’
‘نعم؟’
‘تعالى هنا للحظة.’
‘هل ترغب في عدم الذهاب إلى المدرسة اليوم؟’
‘لا أعرف.’
‘حسنا، فكر في الأمر. إذا لم تكن ترغب في الذهاب فلا بأس .’
‘إذا كان الأمر جيدا لك فهو ليس جيدا لي.’
‘لماذا تظن ذلك؟’
‘لا أعرف.’
‘بإمكاننا الذهاب إلى البحيرة إذا أردت. سنشوي أكواز الذرة ونصطاد السمك. وستهيئ لنا أمك غذاء…’
لم يسبق له أن رفض رحلة إلى البحيرة. نظر إلي بابتسامة عريضة وقال،
‘حسنا، هل يمكننا الذهاب توّا؟’
‘نعم. توا، أيها الرجل الصغير،’ أجبت.
جهزنا السيارة وغادرنا. طوال الأسبوع وهي تمطر وتصورت أن اليوم سيكون ممطر أيضا. غير أنني وعدته أن نصطاد السمك حتى ولو أنه في هكذا جو لا يوجد أي سمك. إذا كان الضباب قريبا من الماء فسيكون الذهاب أبعد من الشاطئ مجازفة. في الغالب سنبحر فقط حول الجزر ثم نشعل نارا على جزيرة. كان ذلك أفضل شيء نقوم به وكنت فرحا لأنه لن يذهب إلى المدرسة.
‘أبي، هل سبق لك أن ذهبت إلى مقبرة؟ ‘سألني ونحن ذاهبون.
‘طبعا،ذهبت.’
‘وماذا فعلت هناك؟’
ما بدا سؤالا سهلا استدعى جوابا مختارا.
‘تجولت في الجوار.’
‘لماذا هناك وليس في مكان آخر؟’
‘يمكنك القول إنني رغبت في قليل من السكينة والهدوء. أنت وأختك تثيران الضجيج حقا في بعض الأحيان.’
‘ذهبت إلى المقبرة بسببنا؟ ذهبت فقط لتحصل على بعض الهدوء؟’
‘نعم.’
‘ألم تكن خائفا؟ هناك الكثير من الناس يرقدون هناك ولا يتكلمون؟’
‘ماذا تعني ب’يرقدون هناك ولا يتكلمون.’
‘حسنا،عندما يموت شخص ما فإنه لا يتكلم.’
‘نعم، ذاك شيء من بين أشياء أخرى،’ قلت له، محاولا إنهاء الحديث.
كانت أفكاره عن الموت والاحتضار تتشكل بداخله. لم يسبق لنا أن تحدثنا معه في الأمر.وأظن أنه ربما كان علينا أن نفعل. لكن الوقت لم يكن مناسبا. قال لي إنهم طلبوا منه في المدرسة أن يحمل إكليل الزهور ويمشي صحبة ماريا وأنّا.
‘أبي، إنهما لن يحملا أي شيء. أنا رئيس القسم،’ قال وهو ينظر إلى القرية التي في الأمام، إلى السقوف وقد ازدادت احمرارا بينما نحن نقترب.
‘دانيلو، هل تعرف ماذا يحدث هناك؟’
‘أبي ، هل يمكن لنا زيارة بيتر أولا،’ قال متفاديا السؤال.
‘لا. سنذهب مباشرة إلى المنزل. سنتصل به عندما نصل إلى هناك.’
كان ذلك خطأ، ظننت. الكلمات الخطأ. إنه لأمر صعبٌ أن تتكلم عن الموت. والأصعب هو حين تحاول أن تفسر لطفل الطقوس والشعائر المصاحبة له في هذا البلد المتعفن. كنت ابن الست سنوات حين قتل أبي. مثله تماما كانت الكلمات تُلمّحُ للدموع كي تسيل…أتذكر ذلك تماما. كانت أختي تبكي، وجدتي تمسكني في حضنها وكان لدي من الشوكلاطة والأحضان ما يكفي لسنة. توفيت أمي سبع سنوات بعد ذلك. كان موتها أفظع. لثلاثة أشهر بقيت طريحة فراش المرض في المستشفى ثم في النهاية رحلت في صمت. أظن أنها لو توفيت كأبي في حادثة سير مفاجئة لكنت تعاملت مع الأمر بشكل أفضل. بينما كنا نصلي عليها في المنزل، نصلي على نعشها، في ذلك اليوم الأول ،جلست هناك بكفي اللاصقتين وفوق رأسها رأيت عمي بيتر قادما. كان الأخ الأكبر لأبي. بحق الجحيم لماذا تتصرف بهذا الشكل؟،قال غاضبا. لا ينبغي أن تبكي. اذهب إلى الحمام، سآخذ مكانك. نظف نفسك. لا أريد أن أرى دموعا أكثر. أنت رئيس المنزل الآن. لا ينبغي أن تبكي،صاح في وجهي.
كان الناس ينسابون أمامي كالنهر. وكنت حصىً صغيرة بيضاء ترفض أن تنساب معهم. مسكت دموعي طوال الوقت. بعد الجنازة ،كان الصمت هو ملاذي الوحيد.أظن أنني لا زلت أكره بيتر حتى اليوم. لم أتحدث إليه عن ذلك بكلمة قط. إنه الآن يسكن في القرية قريبا من منزلنا الأسبوعي ونادرا ما يأتي إلى المدينة.
‘بيتر ! ‘ ناديت عندما خرجت من السيارة. لم يجب. ربما كان في الغابة يجمع الحطب. كنت أود أن أطلب منه أن يعطينا حطبا.
‘بيتر !’
‘أبي، ربما هو لا يوجد في المنزل، أو إنه نائم.’
‘العجوز العنيد.’
‘لا تنعته هكذا، يا أبي. إنه بخير. قال لي إنه بلغ السبعين من عمره.’
إنه بخير وعجوز. قال له إن عمره سبعون بينما سنه ثلاثة وستون بالضبط. لا سنة واحدة أكثر. في سنواته العشر الأخيرة لم يكلمه أبونا بسبب مناقشة عائلية عقيمة حول الإرث. عندما كنت صغيرا كنت ألتقي به في منزل جدتي. كانت أمي تود أن أقضي أيام الآحاد هناك. كان بإمكان بيتر، جدتي وأنا تناول وجبة الغذاء جميعا. وكان كل شيء على ما يرام حتى لحظة جنازة أمي.
‘إنه أفضل صديق لي في القرية، ‘ قال دانيلو وهو ينظر إلى السقف الأحمر في شق التل.
هناك شيء مميز لدى العجوز.عندما نعود من رحلة اصطياد السمك سأسمح له بزيارته. إنه يحب الولد. وسأبعث له بسجائر. إنه يسمم نفسه بذلك التبغ المزروع في المنزل.
‘دانيلو، أحضر المجداف،’ قلت
‘أيها الرجل الصغير، يبدو كما لو أن كل شيء يوجد هنا: الطعام الخاص بالسمك، المنديل الذي سنفرشه على الأرض ، السندويتشات، علبة الوقيد…’
‘كل شيء موجود ومضبوط، أيها القبطان، قال فرحاً.’
كانت أواق أشجار القبقب منثورة على الماء، صقيلة مثل مرآة. وكانت قطعة من الضباب تنزل. عزمت على أن أبحر حول الجزر الصغيرة ثم أتوقف في واحدة لأشعل نارا.
بينما كنا ننزلق عبر الصمت، انحنى من المركب وحاول قطف ليلك الماء. كان كُمّا قميصه مطويين ويداه تبحثان في الماء. لم تكن هناك ريح وكان الجو دافئا وخط شاطئ الجزيرة واضحا.
‘سنرسو هنا ونشعل نارا.’
‘الضباب. لا أحب الضباب،’ قال.
‘من أين أتى ذلك: لا أحب الضباب؟ ليس مفروضا أن تحبه، أنت تعرف. ولكن لِم تتركه يزعجك؟’
‘لا يزعجني. أنا فقط لا أحبه. تماما مثل أن لا أأكل الفاصوليا، ‘قال.
‘حسنا، يا دانيلو، الأمير الغريب للظلام. لنجدف أبعد قليلا، أبعد من تلك الجزيرة الخالية.’
‘أنا لا أحب مسألة أن يموت الناس. وكل ذلك،’ قال.
أنالا أحب مسألة أن يموت الناس وكل ذلك: كان التعميم مقلقا. كل ذلك؟ ورغم ذلك فأنا أعرف ما كان يعنيه. على طرف لساني كانت هناك مئات الأسرار، مئات التخوفات، مئات الأحاسيس غير الواضحة مشدودة إلى إحساس واحد. إحساس واحد؟ شعرت بذلك أثناء جنازة أمي. بعينين ووجه جاف، كان اهتمامي موزعا بين النعش المخفي في الأرض والأشكال المرتعدة للمكلومين. على اليسار(اكتشفت ذلك لاحقا) كانت هناك العمة سارة، وعن يسارها، بالقرب من الشاهدة البيضاء للقبر، كان هناك رجل ذو أنف معقوف يشرب بقصبة، في الأمام كانت أشجار الصنوبر تخفي وجه امرأة، في اليمين يدان مجعدتان تحركان منديلا. وعلى صدر القس كان هنا صليب يتأرجح.
‘دانيلو، الحبل،’ قلت
لم يكن ضروريا ربط المركب. لم يكن للبحيرة تيار يمكنه جر الأشياء بعيدا. أقوم بذلك لأجله فقط. ادعاء المغامرة: محاولة غير مؤذية للهروب من الواقع، قلت في نفسي: تمرد سخي.
‘سنجلس هنا ونوقد نارا هناك.’
‘الجو غائم يا أبي، من الأفضل أن نشعل النار هنا ونجلس تحت الشجرة.’
وضعنا الأشياء على المنديل .
‘طعام السمك، ساندويشات، علبة الكبريت، ذرة. كل شيء موجود هنا،’ قال مؤكدا.
‘والآن دعنا نصطاد .’
أحضر صندوق دود بتؤدة كما لو أنه يحمل قطعة أثرية قديمة. وبدا الصندوق الأحمر أكبر بكثير من اليد الطفولية. ابتسم لنفسه وبنظرة مركزة بحث في الداخل كي يجد الدودة التي يشعر أنها الأفضل لسمك البحيرة.
صياد سمك محترف، كلب بحر عجوز.
‘ها هي،’ قال مفتخرا، دودة صغيرة لذيذة’
‘اختيار ربّاني، يا كلب البحر العجوز.’
رمينا صنارتينا وأوقدنا النار. وعلى وقع الصوت الهادئ للماء خلفنا انتظرنا كي يعلق السمك. كان الضباب أشد كثافة. والأضواء الآتية من القرية أصبحت خافتة. كان علينا إحضار مصباح غاز كي يروننا بشكل أوضح من الشاطئ إذا ما فقدنا حوض السفن، ولكن عادة ما يكون الجو ناصعا في المساء. ‘أبي، سأحمل الإكليل،’ قال بشكل مفاجئ.
‘جيد. و…؟’
‘لا شيء. أنا سأحمله فقط وستمشي أنّا وماريا خلفي.’
‘أهّا.’
سيحمل الإكليل، وتمشي أنّا وماريا خلفه. قال ذلك كما لو أن لا فكرة لديه عما كان ينبغي عليه أن يفعل. كما لو أنه سيحمل الإكليل على ظهره والسير حول المنزل. تلك قسوة. يبدو أن إزعاج الأطفال بتلك السخافات قاسي، سخافة تقديم الموت عبر طقوس كئيبة فاقدة لأي معنى.
‘وإلى أين ستحمل الإكليل؟’
‘حسنا. إلى هناك.’
‘من فضلك كن دقيقا قليلا. نحن لا نتكلم مع أبينا بهذا الشكل. تقبل مسألة أنك لا تعرف إلى أين ستحملها.أنا أريد أن أساعدك.’
‘ولكن أنا أعرف. وماريا وأنّا تعرفان ما سيقع هناك. ذات مرة ذهبتا إلى جنازة لتقدما التعازي.’
‘حسنا. ما كنت أود قوله هو: هل تعرف كيف يبدو لك الأمر؟ أعني عندما تذهب لتقديم التعازي. هل تعرف كيف تتم الأمور وأين ينبغي وضع الزهور؟’
وفجأة تحركت صنّارته. انتشرت دوائر مركز في الماء ثم اختفت في الضباب.
‘اِسحب إلى الداخل يا ولد. إنها لك.’
‘أبي، إنها كبيرة جدا ! انظر ! ولكن…’
طفا غصن شجرة متعفن على السطح. الينابيع التي في قاع البحيرة تجمع رواسب الوحل والنفايات. تقع هذه الاشياء حين تصطاد قرب الشاطئ . خائبا وضع الصنارة جانبا ورمى الغصن على النار ونظر إليه وهو يحترق. شبت النار فيه واشتدت ثم تحول الغصن إلى رماد. ثأره الصغير: تنفيذ عملية غش قاسية. ورمينا صنارتينا مجددا.
‘قالت ماريا إنه بإمكاننا رؤية أشياء غريبة. لكننا لا نريده أن يقلق لأن الأمر عادي. أعني إنه عادي بالنسبة للكبار أن يتصرفوا كذلك. هذا ما قالته. سألتها ماذا رأت هناك. رأت امرأة بلباس أسود ورأسا بغطاء أسود تقبل جثة ميتة وتصرخ باكية. وتبكي. ثم وقف الكل في دائرة وبكوا. ووضعوا إكليل الورد في الأسفل. كان هناك الكثير من الدموع. قالت إنه ينبغي علينا أن نلحق بالناس في الدائرة ونسلم عليهم ونحزن. لم تكن تعرف كيف تفعل ذلك ولكنها شاهدت الناس الآخرين.’
قال لي هذا بينما كنت أحدق في الغصن الثخين فوق البحيرة. شرعت زرقة السماء في الظهور. وزهاء نصف ساعة لن يكون هناك ضباب. بإمكانك الشعور بالجزيئات التافهة للضباب.
الحركة: يزحف الضباب كثعبان بعد عملية الهضم البطيئة لفريسته.
‘ماذا قلت يا أبي؟’
‘لاشيء. ينبغي أن نعود. سيحل الليل بعد قليل.’
‘هل سنذهب عند بيتر؟’
‘لا. اذهب أنت لرؤيته. سأنتظرك في المخبأ. سأشوي بعض الذرة.’
‘ممممممم’
‘دعنا نذهب، يا رجل. فُكّ المركب وارفع الصاري.هيئ الأشرعة.’
أطلق الشراع، قلت مديرا وجهي نحو التل الذي كان يبدو أطول من المعتاد.
تحول الغمام إلى ضباب. والضباب إلى كنيسة قديمة بجرس برج مكسر.
هناك توجد المقبرة، شظايا قطع قرميد مكسرة والظلال الحجرية للطقوس والممرات بين المقابر الفارغة. من فضلك تقبل تعازي، يجب على المرء أن يقول هذا بشكل ميكانيكي، ويسلم على الناس. ثم تمسك الأيادي النحيفة والمتعرقة يد الطفل. نحيب مبحوح كجواب. ومرة أخرى: تقبل تعازي.ومجددا. ومرة أخرى. تقبل تعازي، سيقولون.
‘بيتر !’
‘هل سأذهب؟’
‘انتظر للحظة.’
‘بيتر ! أنا متأكد من أنه لا يمكنه أن يسمع. أظن أنني أرى نورا.’
‘نعم. إنه المصباح. هل بإمكاني الذهاب؟’
‘انتظر. أقول. ‘خذ السجائر. وخذ ورقة وقلما.إذا لم يكن في المنزل اترك له خبرا.’
‘خبرا؟’
‘نعم. ‘
‘ماذا سأكتب؟’
‘بحق الجحيم ماذا تظن أنه ينبغي عليك أن تكتب؟’
بقي لوحده في المنزل يوم الخميس مساء. وفي يوم الخميس نزور ناتالي وسيمون ليوم الطبخ. نقضي جميعا ساعات قليلة في تهيئ طبق. درجنا على فعل هذا منذ شهور. وفي كل خميس يذهب دانيلو لحصص دروس الإنجليزية ويعود إلى المنزل في الساعة الثالثة ويغادر المنزل ثم يعود في الخامسة. ونعود إلى المنزل في السادسة ولا نجده هناك.
على مائدة غرفة الاكل كانت هناك ورقة مكتوب عليها بخط أنيق:
أبي وأمي. ماتت هَنَّا. تركت لي كتاب التاريخ الخاص بها. كان لها شعر أسود. عندما أعدته لها قلقت لأنني وضعت لصاق العنكبوت عليه.
أنا أحب أمي وأبي.
ابنكما دانيلو، يقول التوقيع.
عادة كان يكتب: عزيزاي أمي وأبي. خرجت. سأعود في السابعة. أشتاق لرؤيتكما.
أو: اليوم نحن نتعلم درسا جديدا. عنوانه ماري وأخوها مارفي. أراكما فيما بعد.
كانت مريضة باللوكيميا. ولكن حتى اليوم الأخير، جاءت إلى المدرسة على كرسي متحرك. عندما عاد لم نكن نريد أن نذكره بكل ذلك إلى أن قال، ‘أمي، ينبغي أن ألبس قميصا أسود’.
‘لماذا؟’
‘غدا علي أن أبدو حزينا، قال.’
‘هل ينبغي أن تبدو حزينا أو أن تكون حزينا حقا؟’
‘لا أعرف. أجاب وشرع في النحيب في صمت إلى أن نام.’
ولماذا تأخر عند بيتر؟ لقد مرت أربعون دقيقة على ذهابه.
‘بيتر ! دانيلو.’
‘بيتر!’
أياما بعد جنازة الأم وددت الذهاب إلى المقبرة والبكاء. البكاء غيظا فقط. لكن الحزن الذي كنت أشعر به لم يسمح لي بالدموع. لم أتمكن حتى من البكاء أمام المرآة. لاحقا شعرت بالخفة. كانت صور الجنازة تمر في ذهني كلما التقيت ببيتر أو ذهبت الى المقبرة.
‘بيتر؟ ‘ناديت وأنا أطرق على الباب. ‘دانيلو، ‘أقول ويدي على المقبض.
كانت رائحة السفرجل المطبوخ تملأ المكان. إنهما ليسا هناك. ثمة تمثال لسانت نيكولا بالقرب من النافذة. ثمة نافذة بالقرب من التمثال. وفي إطار النافذة كان ضوء مصباحين يشع في الظلام.
‘مرحبا، كيف الحال؟’ يسأل من مكانه في الباب.
‘أنا بخير. ‘أين هو دانيلو؟
‘إنه في الأمام. لقد أخذ المصباح. هل ستبقى؟’
لا. علينا أن نرجع،’ أقول متجها نحو الباب. شكرني لأجل السجائر وهو يملأ الفرن بالحطب.
‘الآن؟’
‘نعم، الآن.’
‘حسنا، لأراك إذن، قال واقترب من باب الفرن. خذ المصباح. الجو مظلم . اتركه تحت دلو الماء حين تذهب.’
كانت الممرات تتلوى صعودا حتى أعلى التل وأسفل البحيرة وبركة السمك، ثم رجوعا إلى القرية.
‘أبي؟ هل بإمكاننا المرور عبر المقبرة؟
لم يسبق لي أن ذهبت إلى هناك من دون سبب. كنت آخذ أزهارا لأجل حلول ميلاد يوم وفاة أمي وأبي. مرة أو مرتان كل سنة جئت إلى جنازات أولاد وبنات أعمامي وأعضاء أسرة بعيدين. التعازي، الجنازة، الصباح الثالث، أربعون يوما بعد الموت، الديكورات الكئيبة المصاحبة للموت. مقتطفات غير مرتبة من الإنجيل. المسيح؟ لأنه بعد ثلاثة أيام إذا أنت لم تعد ليلة يقظة فوق قبر أحد ما فأنت لا تفعل شيئا آخر غير انتظار القيامة.
‘هل بإمكاننا المرور عبر المقبرة؟’
‘لماذا يا دانيلو؟’
‘لا أعرف.’
‘انظر إلى نفسك. ما بك؟ أنت لا تعرف أي شيء اليوم.’
‘أظن انني سأعرف عندما نصل إلى هناك.’
‘من فضلك، لا تعقد الأمور. ماذا تظن أنه سيحدث إذا حصل وتمكنت من طرد خوفك وزرت بعض المقابر القديمة؟’
‘أنا لست خائفا. لقد أخذني بيتر إلى هناك الليلة. وجلسنا على حجر. و…
‘ماذا تقول؟ أخذك بيتر إلى المقبرة؟’
‘طلب مني أن أتخيل أنه مات. تمدد، وضع يديه على شكل صليب وأغلق عينيه. أخبرني بما ينبغي قوله وكيف ينبغي أن أحسن التصرف في الجنازة. إنه بخير.’
‘لنذهب. أطفئ المصباح،’ أقول.
ينبغي أن نقوم بشيء ما. في يوم الأحد سيذهب إلى المقبرة. وعندما نعود إلى المدينة سأقترح إعفاءه من اضطراره للقيام بهذه الاشياء البغيضة. لا ينبغي أن يذهب. سنأتي الى البحيرة مرة أخرى- سنصطاد سمكا، نشوي ذرة. ولن أدعه يزور بيتر.
‘قال إنه سيموت قريبا، يا أبي.’
‘أوه. لا تقلق عليه ! أقول ونحن عائدان إلى الطريق السيّار.’
تغرق البحيرة في الظلام ومن الطريق الواسع يصعد الضباب. الخطوط البيضاء تمَعْلِم الوسط. هذا واضح. مهدئ. لا بد أن مارينا تهيئ وجبة العشاء الآن: وجبة جيدة. يمكنني تخيل يديها مكسوتين بالطحين.
ونام دانيلو. سأسوق ببطء أكثر. وجهه يشع بأضواء السيارات التي تمر ويداه مضمومتان على شكل صليب فوق صدره. حاجباه يرفرفان. وتحت جفنيه يتحرك بؤبؤاه بشكل واسع. إنه يحلم. يحلم. يحلم؟
وفي طريقنا نحو المدينة أرى الصليب المعلق تحت المرآة الخلفية المظلمة للسيارة يرقص بشكل صامت.
*ولد Ognjen Spahic اوجنين سباهيتش في 1977 ببودغوريكا، مونطينيغرو. يعتبر العضو الابرز للجيل الشاب من كتاب مونطينيغرو الذين برزوا بعد سقوط يوغسلافيا السابقة. نشر مجموعتين قصصيتين:
Sveto : All of That ;2001
Zomska potraga : Winter Search,2007
ترجمت قصصه القصيرة الى التشيكية، اليونانية، التركية، الرومانية، البلغارية، الانجليزية، الالبانية والالمانية… يعيش في بودغوريكا.
المترجم إلى الأنجليزية
S.D.Curtis روائية بريطانية، محررة ومترجمة في بعض الاحيان للأدب البوسني والكرواتي والمونطيغامري الى الانجليزية. بعد ان نالت شهادتها في الادب الانجليزي والفن من جامعة سوري كانت فاعلة في العمل الاجتماعي والتربوي لسنوات عديدة وعاشت لفترات طويلة في سلوفينيا، ايطاليا وكرواتيا. ربما هي معروفة كمديرة مؤسسة ل Istros Books دار نشر صغيرة للأدب المعاصر من البلقان الذتي يوجد مقرها في لندن.
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا