كي لا تموت قهرا في هذه الحياة عليك أن تعامل أحزانك كما تعامل أحزان الغرباء: قليل من المواساة الجاهزة و الكثير الكثير من الخفة. إن الكوميديا ما هي إلا مأساة وقعت لشخص غيرك، و مأساتنا الأزلية هي الألفة و الإخلاص. لهذا، على منصة الحياة يجب أن تتعلم الحزن بأناقة و خفة ظل، لا تهرب من أحزانك بل على العكس! اختر أجمل ثيابك و تعطر بأعنف عطورك أريجا حتى ينافس عطر الذكريات في قوتها؛ ذلك أن للحزن رائحة كرائحة المستشفيات… و راقصه!
اعتبر حزنك أنثى جاءت تتفقد هل ما زلت على قيد الحياة بعد آخر هجوم منها أم أنك قد دُمِّرت، لا تقابل أنثاك بعدائية أبداً، قابلها بكياسة و أحط خصرها في تحرش مبطَّن لكل ما كان بينكما، و لا تدع كعبها العالي يخيفك أو يخدعك، يحتاج الحزن إلى كعب عال حين يراقصك على خشبة حياتك. و أنتِ! اعتبري حزنك رجلاً و اتبعي مذهب المكابرة دائماً و إن بدت مكابرة حبيب خبِرَ منحدراتك و منعرجاتك كما خبر باطن يديه أمراً بائسا و يائساً، إلاَّ أنها السبيل الوحيد لخلاصك. دعي رائحة جسدك تذكره بالحرائق التي أشعلتماها معا و أطفأتماها معا، إلكزي ذاكرته بلطف و تنقلي بين أرجاء عقله بخفة ريشة ما خبرت ثقل القلق و البكاء يوماً، و باغتيه باقتراب ملَغَّم راقص ثم انسحبي.
إن كلّاً منّا يخلق و في حوزته مسرحه الخاص، نظل نغزل ثياب شخصياتنا منذ لحظة ولادتنا الأولى، و نلملم كرسيا من هنا و شعرا مستعارا من هناك حتى نبلغ اللحظة الحاسمة… سيداتي سادتي، إن لكل منا لحظته الحاسمة، أتتخيلون إنسانا يمضي سنوات عمره بأكملها من أجل دقيقة واحدة؟ حبة رمل واحدة تعادل رمال بحار العالم بأسره إن لم تكن أغلى! يحدث لنا كثيراً أن ننسى خشبتنا و مشروع حياتنا و نتطفل على خشبات الآخرين فتختلط الأمور علينا و نجلس أرضا و نحزن… نحزن و ننكسر و نتعب… و لا ندري من بطل ماذا و من الشخصية الهامشية و نتوه و يمل دماغنا هراءنا و يخيل لنا أحيانا – دون أن ندري أو أكثر تعبا من أن ندري- أننا قد تخلينا عن دور البطولة فوق خشبتنا الخاصة و حولنا نفسنا و وجوديتنا إلى “كومبارس” يرضى بجملة أو جملتين، ثم تصفعنا حقيقة مرَّة: ظلمنا أنفسنا كثيراً و عميقاً.
طوال حياتي لم أملك سلاحاً سوى الكتابة و الرقص، و لطالما آمنت بأن حياة كل واحد منا تصلح مشروعَ مسرحيّة؛ كل قبلة هي نص سيناريو كتبناه و لعبنا أدوارنا فيه، كل صوت، كل ضحكة، كل دمعة، كل انحناءة، كل صرخة… أوليس من الصادم اكتشافنا لمقدار السلطة التي نملكها على سراج حياتنا المتوحش و مع ذلك لا يسعنا التحرر من الشعور غير القابل للانقطاع بفقدان السيطرة الكاملة على كل ما يحيطنا؟.
لقد طلبتم مني موضوع choreography مدعماً بأغاني و أزياء تليق به، و ها أنا ذا أقدم لكم أصدق ما يمكن لأي شخص تقديمه لمتفرجيه: نفسه!. لقد اخترت فصل الرقص التعبيري لسبب وجيه و هو أن امرأة مثلي تحتاج مشاعرها إلى “إعادة تدوير ” بشكل مستمر و منتظم، إنه نفس منطق غسل الكلى للمصابين بفشل كلوي، تحتاج دمائي للمخض و تحتاج إلى التنقية من كل ما يعلق و نحن نصافح ماضينا المريض. لا تعلمون ما الذي يعنيه منطق “عقارب الساعة ” بالنسبة لشخص ظل محبوسا داخل دائرة حمراء تحيط يوماً بعينه على “رزمانته” لا تعلمون عبء تكة عقارب الساعة القابعة أمامك شامتة في تعطل ساعتك الداخلية التي كساها الغبار و ذابت بداخلها البطاريات و صارت “أَرْشِيفاً” … لا تعلمون كيف هو الأمر لإنسان لا يعيش سوى أرشيفاً!!.
أمضيت و بذلت الكثير من الجهد من أجل لحظة واحدة، لحظة أسطورية نتحامل على أنفسنا و نبتلع مرارة الاستيقاظ من أحلامنا كل صباح من أجلها، لأن غبار واقعنا خنق الهواء في رئتينا… ربما مللاً… ربما خيبة… ربما نقصاً… لا يهم. لقد أمضيت سنة كاملة أستيقظ بجانب طيف حبيبي الذي مات خنقا أو انتحاراً أو تعباً، و يخيل لي أن ذراعه ما زالت تحيط خصري بقوة كما عودنا ليالينا، أو أن رأسه يرتاح فوق نهدي متعبا لاجئا من حرّ الحياة و قسوتها، فألاعب خصلات شعره حتى ينام. كان نهدي كافيا كي يحتمي به من أحلام أرهقته أو جهد استنزف البسمة من على وجهه الطفولي أو ليحل فترة احتقان أبعدتنا و انفجرنا بعدها ثم هدأنا. أتصدقون في قوة نهد امرأة تعشق؟
أو أنه ما زال يرسل لي صورة للقمر من غرفته و صورة للقمر من غرفتي حين لا نكون معاً و يبعث لي بصورة للشروق، كي لا ننكث بوعدنا أمام القمر الذي ينتظر حكايانا بفارغ الصبر و الشمس التي تسحب نفسها من الظلمة كي تذكرنا أنها تشرق من أجلنا و كل من هم مثلنا… لم ننكث بوعدنا، لكن الزمان نكث بوعده لنا و رمى بصلواتنا في مكب النفايات… أو حين أكون حانقة عليه فيظل يتأملني بإلحاح حتى تنكسر مكابرتي و أنفجر ضحكاً، أو تلك المرة التي لم تكن فيها علاقتنا على ما يرام و كان هو يرتعد من البرد و المرض فتكوم أرضا و غرس رأسه بين ركبتيه متأملةً إياه قلقة! فظل يبحث عن ذراعي من ورائه جاذباً إياي محيطاً بذراعي خصره بقوة لم يكسرها مرضه، لحظتها شعرت و كأن روحه هي التي تجذبني و ليس جسده المريض، اتكأت برأسي على ظهره محيطة خصره بإحكام متأملة الورطة التي وضعتني فيها الأقدار، أن أحب رجلا منكسر العاطفة في كل محاولة مني لانتزاع شظايا طفولته المؤلمة منه انتهى بي المطاف بجرح جديد و نزيف جديد… و حين اقترب موعد رحيلنا كنت أنا واقفة و هو ما زال متكوما محاولا تدفئة نفسه، فأمسك يدي و احتضنها و قبلها و دون النظر إلي لأنحني بعدها محتضنة إيّاه في دهشة متخمة بالأسئلة… أو يوم كان يساعد عمه في نقل أشيائه إلى منزله الجديد هو و زوجته فأخبرني ليلاً: ” أتعلمين؟ اليوم و أنا أساعد عمي في نقل أشيائه لم يسعني سوى تخيل منزلنا… أنا و أنت نختار أثاث المنزل و ننقل أشياءنا إليه…”
عندما أستعيد كل هذا أسأل نفسي، لماذا نفذت مغفرتي الآن بالضبط؟ و أظل ملسوعة أبحث بين أركاني عن فتات مغفرة يطيل عمر حبنا المريض… و لا أجد. فأرتجف طريقي نحو ذكراك و نحو حلمنا و نحو النوم. كم من السنوات يجب أن أحرث حتى أمتلك ثمن إقامة جنازة لحبي؟ لماذا يحق لكم دفن أمواتكم بينما أنا ما زلت أتأمله قابعا أمامي في ألم قاتم؟! (تأملتني السيدة Sophie قلقة من مستوى توتر مشاعري) …
اعتبروا رقصتي هذه ثمن جنازتي، أليس إكرام الميت دفنه؟
لقد نحر الزمان وردتي الجميلة، هكذا جلست أبكي حاملة إياها بين أناملي أصرخ و أولول لاغتيال وردتي، أخبَروني و حذَّروني…”لا تقطفي الورود الحمراء أبداً كي لا تمضي عمرك حداداً عليها”، أن أغلق بابي جيدا بالمفاتيح و الأقفال فتجاهلهم جميعا و ها أنا ذا أنوح رثاءً لوردتي الحبيبة و لبابي الخشبي الحزين…
) بعد شهر من التحضيرات)
“هل أراقص حبا قديماً يرتدي سترة سوداء مضادة للرصاص؟ أم أراقص حبا حالما في الأفق قد يمسك يدي حين أفلت يدك؟ “
بعد إقناع اللجنة المشرفة بمحتوى مشروعي جاء يومي الموعود، أخترت يوم الأربعاء لأنه يوم انفصالاتنا الثلاثة؛ ذلك أننا كنا أضعف من الحب و أضعف من الكره فكنا نقف ما بين الضفتين. طلبت من صديقي العزيز الحضور، أرى فيه جدولة رحلة حبنا بأكملها، أرى فيه شجاراتنا و محبتنا، فرحنا و رثاءنا، بكاءنا و ابتسامتنا، كان أول من هنأني على بداية علاقتنا و آخر من ظل بجانبي بعد انطفاء حبنا، دعوت صديقتي “سلوى” و التي هي صديقتك أيضا، لا توجد صدف في هذه الحياة كما أنني علمت أنك ستأتي أيضاً، فلنقل أنني منحتك أكثر من قدرتك على النسيان.
لم أنم لأسبوع كامل، كيف يجرؤ الشخص على النوم في انتظار مواجهة نفسه؟ كنت أمضي ليالي كثيرة في المعهد أتدرب على نفس الحركة مرارا و تكرارا، أتدرب على النظرة و حركة الأنامل و اعوجاح الساق و انحناءة الرأس و ملامح الوجه، إنها رقصة على أرض الأقدار و كل ما أعرفه هو أنني قد قطعت أرض الجحيم عدد مرات لن يغفر لي “زلة صدفة”!
“ من أخبركم أن اللهفة و اللوعة هما من اختصاص البدايات، فهو لم يشهد في حياته نهاية أمر يستحق الذكر أو العبء“
(الرقصة الأولى)
من البذيئ أن تقابل حبا ماضيا بطبق دسم من الندم، الندم شعور عَامِيّ، الكل يشعر به دون بذل أدنى جهد…
Edith Piaf : Non, Je Ne Regrette rien
Non ! Rien de rien Non ! Je ne regrette rien Ni le bien qu’on m’a fait
Ni le mal tout ça m’est bien égal !
Non ! Rien de rien Non ! Je ne regrette rien C’est payé, balayé, oublié Je me fous du passé ! Avec mes souvenirs J’ai allumé le feu Mes chagrins, mes plaisirs Je n’ai plus besoin d’eux !
أفضل الاستماع لأغاني Edith Piaf ليلاً، صوتها يخترق أعمق طبقات روحي الكلسية، وبما أن حفلي هو بحضرتك و على شرف ما كان بيننا قررت أن أرد دين الزمان؛ دين كل اللحظات التي كان فيها حزني عليك غير لائقا، أتذكر ذات ليلة أنني انهرت بكاء و أنا أتدرب على رقصتي هذه على أنغام أغنيتي هذه، فدحرجت نفسي إلى زاوية صالة الرقص و بكيت ما يعادل الساعتين و تعبت فنمت و ظلت الأغنية تعيد نفسها طوال الليل. لذا حرصت على إعادتها و التدرب على أنغامها حتى تفقد قوتها و هيبتها.
اخترت ثوباً أسودا براقا و قصيرا مع “دانتيل” أسود شفاف، إنها الرؤية الساحرة عبر سواد اللحظة، حرصت ألا أغير عادة مكياجي أيضا : أحمر شفاه دامي و كحل و ظلال عيون أسود. لمحتك وسط الجالسين فانتابتني قشعريرة خفيفة، لا أعلم هل فعلا لم تتغير أم أنني أنا التي نسيت معالم وجهك فخيل لي أنك لم تتغير؟…
(الرقصة الثانية)
أحيانا، إن لم يكن دائما، لا مجال للحب كي يذيب مكعبات الثلج التي تكونت بداخله سوى بمصالحة طويلة و صادقة مع نار الشهوة
“You dance love, and you dance joy, and you dance dreams.”
Gene Kelly
مهما بلغت خطورة خلافاتنا كنا نراقصها بعيداً، كان الرقص مذهبنا، نساء تخترن وجبة لذيذة للتعبير عن حبهن، و أخريات تخترن شراء عطر رجلهن المفضل… أما أنا فكنت أرقص بكل بساطة. من الغريب كيف أن شهوتنا لم تتأثر بكل غيوم الكره و الخيبة و الألم الذي كانت علاقتنا تغرق فيها. الأمر هذه المرة صعب، رجل آخر هو من يراقصني و حلم آخر هو الذي يراقبني عن بعد، لهذا اخترت بعناية أغنية Abre que voy- Miguel Enriquez و التي تعني ” افتح، أنا قادم” … غيرت لون ثوبي لأحمر مشتعل، و قفزت على ذراعي شريكي في الرقص و رمقتك من حين لآخر في نشوة بالغة، تلاعب خاتمك بتوتر و أكاد أجزم أن سعيرك يكاد يذيب قلادتي التي برقبتك، أعلم جيدا حساسية أوتارك… قليل من العبث بينها هنا و هناك لن يؤذي أحدا أليس كذلك؟ أحاطني بذراعيه و أنزلني و شفاهي تحكم العض على الوردة الحمراء و رمقتك بنصف غمزة و نصف ابتسامة!.
) الرقصة الثالثة)
على المرء أن يكون حذراً جدّا في طلب أمانيه، ذلك أنني انشغلت كثيرا في صياغة أنيقة لأحلامك دون أن أتأكد من حضوري على لائحتها
Je Te Promets – Zaho
T’aimerais que je te dise que je t’aimerai toute ma vie T’aimerais que je te promets, toutes mes nuits jusqu’à l’infinie T’aimerais que je te suive, à jamais sans faire de bruit Et que je comprenne tous ceux si sans que tu le dises Et je ne pourrais te dire, ce que je ne sais pas Et je ne pourrais te donner, ce que je n’ai pas Et je ne pourrais te fuir, même si tout nous sépare Tout ce que je te promets c’est un nouveau départ…
من أجل رقصتي الأخيرة اخترت لون الأبيض “الكريمي”؛ لدي قناعة بأنه ما من شيء ناصع البياض في هذه الحياة، و هذا ما طبقته في اختيار ثوبي، ثوب سلس براق بأناقة هادئ يليق بمنطق النهايات و الخواتم، كانت رقصتي مزيجا من حزن مستسلم في كل جرة جرني فيها شريكي في الرقص حاملا ذراعي فقط و كل حركة يد معترضة و كل نظرة ساكنة. و تأملتك من بين الحاضرين بينما أنا منغمسة في كيميائي و بعثرتني نظرتي لك، لأنها لم تكن محسوبة، لم تكن جزءا من تدريباتي… لكن راودني شعور جميل… أشعر و أخيراً روحي صارت حرة… نظرت إليك عندما ركعت كآخر حركة للرقصة، رمقتك دامعة مرهقة متسائلة متيقنة حزينة و مرتاحة و كان القمر ليلتها في أبهى حلله، نظرنا كلينا للقمر و حدقنا به خارجين عن نطاق التصفيقات و الورود التي تحييني، هل تكفي كل هذه الورود الحمراء المرمية عند أقدامي كي تنسيني وردتي الحمراء الذابلة؟ … ثم نظرنا إلى بعضنا البعض، أدركت أنه قد حان وقت توديعك، كم كانت رحلة توديعك صعبة و شاقة… انحنيت إجلالاً للجمهور و لقصة حبنا التي كانت تجلس على كرسي الحاضرين هي أيضا، انحنيت انحناءتي الأخيرة و بدت لي كل أطيافي السوداء تتصاعد بعيدا، لم أعلم هل آثار التعب بدأت تلعب بسلامة ذهني لكنها كانت لحظة خارج تعريف الزمان و المكان، كان زمنا أمتلكه لوحدي و مكانا لروحي وحدها… انحنيت انحناءتي الأخيرة… و لوحت لك توديعا مع ابتسامة الخلاص… أحس و كأن جسدي يدخل غيبوبة… كل شيء ضبابي… و هناك صوت خلفي يجذبني… “حبيبتي… حبيبتي… ” … تبدد المسرح و كل الحاضرين، صارت عيناي تبحثان عنك لكنك اختفيت كالسراب… يد دافئة تزحف نحو بطني، فتحت عيناي فكان هناك بجانبي في السرير… زوجي و أميرتي تقفز على سريرنا مهللة بصباح جديد… أمسكت بوجهه و رسمته بأناملي، أريد التأكد… دمعت عيني حتى عانقتها ابتسامتي…. و أخيراً… انحناءتي الأخيرة.
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر