فصل من كتاب “حيث اختفى الطائر” للشاعر الفلسطيني غسان زقطان. صدر كتاب ‘حيث اختفى الطائر’ عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان في صيف عام 2015، وهو الكتاب السردي الرابع في مسيرة زقطان بعد ‘سماء خفيفة’، و’وصف الماضي’، و’عربة قديمة بستائر’.
تأخذ الحكاية الفلسطينية في “حيث اختفى الطائر” مذهب “الباب الموارب”، حيث السرد ينحت في أنطولوجيا الخرافة وجغرافيتها، حيث تسعى سردية غسان زقطان في أمر الإسقاط الميثولوجي لسيرة اللاجئ الفلسطيني، إسقاط بالمعنى الرياضي الديكارتي المعقول من جهة وبالمعنى السينمائي الغرائبي من جهة أخرى. ففي فصل دير مار سابا، نلحظ التناسق الذكي بين نص معماري تجريدي هو دير مار سابا بخطوطه النابتة في الجبل كشاهد على حقيقة ما وبين روح ذلك النص في الحكاية؛ حكاية الهوية الهاربة من التحقق والمتحققة في الهروب في آن واحد. هوية الراهب/اللاجيء يحمل في رأسه خطوط تشكله وإشكاليات تلك الخطوط في آن واحد.
فيما يلي، نرى وصف دير مار سابا الجميل والذكي، حيث الشعر في قنوات السرد :
كان كل شيء هناك في الداخل عارياً وذكورياً ومتقشفاً وواضحاً، ثمة استسلام مطلق يمنح الهواء ثقة تلك الثقة الغريبة التي لم يجدها سوى في “مخبأ الدير”، قيمة اليدين التي تستعاد في الأعمال البسيطة، جمال اليدين و مراسيم التحديق في الأصابع وعد الخطوات الخفيفة في الممرات.
الأدراج الراضية التي تسعى بك الى مقاصدها وتسلمك الى غيرها بطيبة، فكر بذلك أيضاً وهو يصعد الدرجات ال 385 من حافة النبع الذي يسقي الدير الى “برج يوستنيانوس” حيث يحتفظ الرهبان بمخطوطاتهم النادرة.
على المدخل بعيداً عن بقية كنائس الدير و مغاوره و أدراجه وأدعيته و عالمه الذكوري الصافي، كان “برج المرأة”، هناك فقط يمكن للمرأة أن تصل في إطلالة مغلقة على عالم يكتسب قسوته ويكثرها من غيابها.
في الليل بينما يحدق في انحناءة السقف الأبيض، ويصغي بكل جسده إلى الحركة الرهبان و أدعيتهم في هواء الممرات، عرف انه لو واصل الصعود على تلك الأدراج الضيقة، فسيصل إلى البهو، و سيجد “سيرة سيف بن ذي يزن” التي تركها هناك مفتوحة على رسوم للجني المخالف “عيروض”.في الداخل حيث الضوء أكثر شحوباً ومع غياب الشمس كان الدير يمتليء بخمسة آلاف راهب من البنائين الذين بنوه حجراً حجراً وحفروه داخل الجبل رفقة الراهب “سابا” قبل أكثر من 1500عام، ويصعد قديسون ورجال وصلوا تخوم القداسة من توابيتهم، حيث يلتقي الأحياء والموتى في ردهات الدير وممراته لتلاوة صلواتهم، وكأنهم يقسمون الخبز فيما بينهم من الليل حتى الضحى.
كان يسمع أحاديثهم وخطاهم ويميز خطى الموتى الخفيفة وتمتماتهم الخالية من اللغة، ويحبس حركة جسده تاركاً لهم الهواء كاملاً.
الغائب الوحيد كان”مار سابا” نفسه الذي حمل الصليبيون رفاته إلى البندقية في إيطاليا وهم يغادرون برية(*) القدس.في الأحد الثالث على وصوله للدير تملكه إحساس بأنه (الدير) يواصل التفكير به، وأنه يحاول الحديث إليه، كان هذا الإحساس يزداد قوة ويتوضح في الأوقات التي يصل فيها البناؤون بعد المساء.
في الأسابيع التي تلت ذلك أدرك أنه يشبه “دير مار سابا”، ببدائيته المقصودة وتخففه من أسباب الخطيئة وقسوة خياراته، ووصله بقوة إحساس “الدير” العميق بالعزلة وفكرة الهجران التي انبنى عليها، حيث سعادة بسيطة وخفيفة يمكن إدراكها في مكان ما داخل هذا الزمن الخاص المخبأ في قلب الجبل. سكينة الدير وطاقته الباردة، هذا ما منحته إياه الأسابيع التي قضاها في “مار سابا”، تلك السكينة التي اتكأ إليها بجسده كاملاً وهو في طريقه إلى “العرّوب”.
(*) عاد رفات مار سابا الى الدير في العام 1965
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر