يميل بعض الكُتاب الشباب إلى الفورات الكلامية، اعتقاداً منهم أن ما يكتبونه ضمن هذا الأفق الواسع يعادل أو ينتمي إلى الكتابة الشذرية. يكتبون بكثرة ورطانة ومجانية، اقتداء بنيتشه وتقليداً لابنه العاق سيوران. فيما تفتقر عباراتهم إلى الكثافة والتركيز والليونة والتبئير والمحو وانفتاح العبارة على التأويل، التي تعتبر من الشروط الجمالية لفن الشذرات. إذ لا يشكل قصر الجُملة إلا الإطار الشكلي للشذرة مقابل الخبرة الحياتية التي تنضغط ببراعة في خطفة قولية ذات دلالة.
إن العبارة الشذرية بنائية في أصلها كخطاب وليست تزيينية. وتشبه إلى حد كبير الشطحة الصوفية أو الوخزة الفلسفية أو اللفحة الشعرية. وتأتي ضمن نص يعاند مفهوم الكتابة النسقية الهرمية. على اعتبار أنها لقطة شاردة وطليقة في نص لا نسقي. وبالتالي فهي لا تتولد إلا من ذات متكلّمة قادرة على اختبار الوجود الموضوعي في مصهرها الجواني. وتأتي كنتيجة لتأمُّل طويل وعميق.. كخطرات فلسفية وقبسات صوفية وانطباعات ذاتية، وليست كشكل من أشكال التفخيم اللغوي النثري المصقول في مختبر الشعر.
ومن يتأمل الإصدارت النصّية المتفشّية بكثافة في المشهد الثقافي العربي، يلاحظ أن معظم تلك المحاولات تحوم حول الخاطرة. ولا تتسم بأي عمق فلسفي. كما تغلب عليها السمة الشاعرية بمعناها الرومانسي، حتى فكرة التجريد التي تشكل جوهر الشذرة تبدو ضائعة ومرتبكة، فلا هي بالتجريد الموضوعي ولا الشكلي ولا الحسّي. إنما مجرد تهويمات لفظية يُراد منها الإيهام بالدراية العميقة، وهي نتيجة بدت واضحة في أغلب النصوص المنشورة تحت هذا العنوان، وإلى حد كبير في التنظير المصاحب، بعد أن تحول هذا اللون الكتابي إلى تيار له أنصاره ومؤتمراته وحلقاته النقاشية.
النص الشذري لا تقدر على إنتاجه إلا ذات متشظية شعورياً وموضوعياً.. ذات هذيانية محمولة على مخيال جانح، ومجازية جارفة. ولكنها غير منفلتة خارج مدارات التفكير الفلسفي أو ضرورات الإيقاع الشعري. وهي نصوص لم تبدأ بأفورزمات نيتشه ومأثوراته الكلامية، بل تمتد إلى أعماق سحيقة في تاريخ البلاغة والخطابة والكتابة الإنسانية، حيث كان المتكلّم يرمي بشذرته كخاتمة تلخيصية لكلامه، أو كأضمومة لغوية جامعة لمراداته المنطوقة واللامنطوقة. بمعنى أنها – أي الشذرة – لا تتولد في الفراغ ولا تسبح في متاهات بلا مراس روحية.
للنص الشذري إطار تركيبي، يبدأ من الجُملة الرحمية الأولى، ويسهل من الناحية الشكلية اقتفاء أثره وتقليده، حيث يُلاحظ قدرة الكُتاب الجدد على استنساخ مقولات خالدة وإزاحتها عن مواضعاتها، أو التنويع على جملة ذات دلالة، أو السطو الصريح على العبارة وممارسة الإبدال المفرداتي، أو الاتكاء على الكولاج اللفظي. وفي حالات أكثر فطنة يتم الاستحواذ على معنى العبارة ودسّها في مبنى مغاير وهكذا، ثم إعادة إنتاج تلك التوليفة داخل نص هجين عنوانه قصيدة الفلاش أو الخطفة، إلى آخر المسميات المشروعة أدبياً والمختلف عليها أدائياً.
ما تفتقر إليه تلك النصوص الملتبسة بالنص الشذري هو المدلول الممتلئ، وانعدام الروابط الشاعرية الخفية بين عباراتها نتيجة انبنائها بشكل وفي إطار وعي تقليدي، فهي مغطاة برداء لغوي خطابي إنشائي، لأن الذات المنتجة له تريده مفعماً بالغنائية والرنين المفتعل الناجم عن سردية منغلقة، وهو أداء أيديولوجي نهائي الطابع، يخالف الخصائص النصية للشذري، حيث تغادر الشذرة عند هذه الحافة مختبر الذات إلى الفضاء العمومي، وحينها تنحقن بمنسوب أعلى مما ينبغي من الفكرة لتتحول إلى شكل إبلاغي إخباري، لا يمت للمناجاة الذاتية بصلة.
هذا لا يعني أن التذويت الذي يرتكز عليه خطاب النص الشذري يكون عُرضة لحضور (الأنا) واستحواذها عليه، بقدر ما يستلزم وجود الأنا المتكلم المحمول على رؤية داخلية لموازنة البوح الشعري بالسرد الموضوعي. في تلك المساحة الضيقة التي تتطلب صياغة تصويرية تكفل لها القدرة على الدّل والتأثير بمعزل عن شبكة النص وتداعياته اللفظية واللالفظية. فالعبارة الشذرية مضمون أكثر مما هي مصفوفات كلامية منفصلة شكلاً عن بعضها، وهي أكثر ارتباطاً بالحقل الفلسفي الإيحائي منها بالتهويم الشعري.
وعند فحص ظاهرة الكتابة الشذرية المتنامية يبدو من الواضح أن هناك من يتعامل معها بذات المنطق والصيرورة التي يتم بها إنتاج واستهلاك النص في سياقاته الاعتيادية. وكأنه حافظة للمعاني وعرضها بشكل شعري قبالة الحواس، فيما يُفترض أن يكون هذا النص شكلاً من أشكال تصديع النص والخطاب ذاته. فهو نص انفجاري، انفصالي، فراغي. لا يأبه لنداء الذاكرة، فيما يُلاحظ أن النصوص التي تجنح للعاطفية تحديداً تتحول إلى خزان لتحنيط الذكريات.
على هذا الأساس يصعب تصور وجود النص الشذري القائم على نظرية الفوضى بدون وجود الذات المتحلّلة من الداخل، المتأفّفة، التي لا تتوانى عن هجاء الزمن، العاشقة لتفكيك البُنى، الشرسة في مقاربة موضوع الإنسان، التي لا تتغيا إقناع المتلقي بأي شيء، أو دفعه لاستنتاج أي شيء، بقدر ما تدفعه داخل الهباء في لجة الانزياحات والاستعارات، بالنظر إلى أن منزع الكتابة الشذرية يتأسس في الحقل النقدي بمعناه التفكيكي الإاتزالي، الذي ينهض على استجواب المسلمات وإعادة إنتاجها وتوطينها في الوعي الإنساني.
إنه فن الذوات الخبيرة المجربة كأبي حيان التوحيدي وبيسوا وباسكال وأحيقار، التي يترسب الوعي فيها على مهل ويتقطر كرحيق لغوي مستخلص من التجارب. وليس فن الكائنات الانفعالية الهشة التي أخذته إلى حافة الخواطر العاطفية والتهويمات الوجدانية الحلمية، حيث لا يوجد في الثقافة العربية اليوم من يتجرأ من الكتاب الكبار على إتيان هذا اللون الإبداعي، أو ما يغريه بجدوى وجاذبية التجريب فيه، مقابل وفرة شبابية تتدرب فيه بلا خبرة ولا احتراز.
محمد العباس : كاتب سعودي
عن القدس العربي
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني