مقالة كتبها الشاعراللبناني الراحل أنسي الحاج عن الفنانة صباح، التي فارقت الحياة يوم 26/11/2014 عن 87 عاما
جمعتني سهرة إلى صباح. مشرقة كعادتها، لكنّها في الجلسة الحميمة أكثر انطلاقاً مع أسرارها. عفويّتها تُذهل، ومَن يتابع مقابلاتها التلفزيونية يعرف أمانتها لذاتها. في الجلسة الحميمة تَمضي في الصراحة أبعد، فتكشف عن حقائق تتيح تكوين فكرة بليغة وأحياناً مخيفة عن الفرق بين الظاهر والمستور وبين الشائع والواقع في خزائن الحياة الفنيّة. قرأتُ مرّة حول مشروع إنتاج مسلسل عن صباح. عسى أن يتمّ. وعسى أيضاً أن يكتب له السيناريو وأن يخرجه مَن يُحسن استخلاص معاني التجارب الفنيّة والشخصيّة التي حفلت بها حياة هذه الفنّانة الكبيرة. فنّانة اقترن وجهها بإشعاع الضحكة، وتزخر حياتها بوقائع وأحداث من شأنها، لو أذيع بعضها على الأقلّ، أن تُغيّر كتابة تاريخ عصر فنّي عربي كامل.
يُعْجب مَن يجلس اليوم إلى صباح بدوام التوهّج ونضارة الذاكرة، ذاكرة لم تغِب عنها أدقّ التفاصيل، تفاصيل من نوع تلك التي تضيء أكثر من كل إنارة، وفي لحظة واحدة تجعل ما كنت تظنّه وجهاً، قناعاً لوجه، وما كنت تحسبه حقائق مؤكدة، خرافات تُمسي غباراً.
قرأتُ مثل غيري ما نُشر أخيراً من ذكريات محمد عبد الوهاب، وفيها المألوف وفيها الساحر، لكنّها مغمورة بالكياسة والمجاملة. أنا أحد الذين أتيح لهم سماع بعض آرائه في بعض أهل الفنّ وأستطيع القول إنه لم يكن دوماً صريحاً في مذكّراته المدوّنة ولا في سابقاتها المسجّلة للإذاعة المصريّة. حين نطالع في الكتاب الذي أصدره هنري زغيب وضمّنه ذكريات لمنصور الرحباني، نرى أن الصراحة لا تغيب تماماً عن السرد، ولكن الذاكرة تُغيّب نفسها حيث تستنسب. ناهيك بمذكّرات الأدباء حيث الكمال بالتمام، وحيالها يبدو نفاق السياسيّين في مذكراتهم تحفة في الأمانة.
صباح لا تغادر الشفافية. وصدقها، ولو كان صادماً مرّات، مُستحبّ لأنه يصدر عن نفس طيّبة.
اقتحمت صباح الميدان المصري الفنّي بزخم وغزارة عطاء نادرين سواء في السينما أو في الغناء. لم يبقَ ملحّن إلّا ألّف لها، ويروى أن أَحدهم، ومن أشهرهم، كان حين يشيع لحنه بصوتها تنتابه الغيرة. وكم من غيرة ومن تحاسد ونميمة وتدمير وتدمير ذاتي في هذا الوسط الذي تملأ حكاياته أيّام العرب منذ أجيال. وكم من آلام وكم من أعاصير على الكواكب. والوجوه المعتِمة لهذه الأقمار التي تغمر شعوبها بالسعادة، لا أحد يعرف عنها شيئاً. يتناقل الكتّاب عن عبد الله القصيمي عنوان أحد مؤلفاته «العرب ظاهرة صوتيّة» بالخفّة التي نتناقل بها عادةً ما لا نتوقّف مليّاً عنده. العرب ظاهرة صوتيّة متخلّفة في السياسة، أمّا في الغناء فمن أبهى الظواهر الصوتيّة قاطبة. ونحن الكتّاب، مهما بلغ واحدنا من أهميّة، لا يقاس حضوره بإشعاع أصوات النجوم الذين قَوْلَبوا مشاعرنا ووجّهوا تعبيراتنا وسدّدوا خطى أحلامنا في حداثة العمر ومراهقته ومرّات في جميع مراحله. وغالباً لا نعرف عنهم إلّا القشور، وندير لهم ظهورنا لدى أقلّ إشاعة، كما كان عُبّاد الأوثان يعيدون حساباتهم مع أحد الآلهة إذا ضَعُفت أسهمه في السماء.
تصغي إلى صباح فلا تسمع إلّا حقائق تفاجئك بنبرةٍ عفويّة. هذه النجمة القريبة والبعيدة، القريبة من المشاعر والبعيدة عن المنال، نجمة شعبيّة تتشابه جميع عناصرها: التمثيل الشعبي والصوت الشعبي والكلام الشعبي واللحن الشعبي تكلّلها النجوميّة الشعبيّة، نجوميّة لم تقتصر على البُعد الفني بل امتدّت لتشمل نمط الحياة. فالحريّة التي مارستها صباح في زيجاتها وطلاقاتها وفي التعبير علناً عن مواقفها بلا مواربة ولا خوف جعلت لها مكانةً على حدة لم يعرف السجلّ الفني مثيلاً لها إلّا في الغرب. الفنّان العربي يَتَجَفْصَن، يتحنَّط في صورة مثاليّة لا يفارقها ولا أحد يُدقّق في صحّتها حتّى بعد رحيله. سيرة صباح عاصفة هبّت على هذا المشهد المصطنع، والغريزة الشعبيّة انتقمت عَبْرها من الأكاذيب. وعلى الصعيد الاجتماعي ترمز صباح إلى المرأة المنعتقة في محيط عربي ممنوع على نسائه الانعتاق. لقد مثّلت على الدوام التحدّي الحيّ والمحبوب للتقاليد الخانقة، ملايين النساء يحلمن بالقدرة على التصرّف مثلها وملايين الرجال حلموا إمّا بالوصول إليها وإمّا بترويضها خشية تأثير نموذجها على نسائهم. ولكن لا هذا ولا ذاك. حتّى أزواجها لم «يَصِلوا» إليها كما يصل الصيّاد إلى طريدته. ولعلّ هذا أحد أسباب طلاقاتها. كانوا يريدون الإمساك بالسرّ فلم يتمكّنوا، لا لأن الأساطير لا تبيح أسرارها بل لأن روح صباح المتمرّدة الحرّة استعصت على الاستملاك. وقدوتها، مثل كل نماذج التحرّر، لن تبارح أحلام النساء مهما عاكستهنّ الظروف.
لا تزال صباح تتوهَّج ولا تزال بنت عشرين. صنعت نجوماً كثيرين وكأنها ملحّن أو مُخرج، وكَرْمُها لم يبخل على أحد. وهي حلم لا لأنّها لا تتجسَّد، بل لأنّ حيويّة تَجسّدها سبقت حيويّة الحياة.
أنا ممَّن لم ينصفوا صباح. يحتاج المرء إلى دهر ليرى بعدْلٍ أبعدَ من طبيعته. بعكس صباح: كانت هي واستمرّت هي. ومن البداية وُهبت الحكمة في الغريزة والصلابة في البساطة، وصِباً يتجدّد كلّما امتحنَتْهُ الأيّام.
قبل عقود اعتُبرَتْ غريتا غاربو أيقونة الجمال النسائي في السينما الغربيّة، ولمّا بلغت من العمر ما رأت أنه نهاية الإغراء المضمون، اعتزلتْ واحتجبتْ. أصبحت رمز التوقّف عند القمّة. لا شكّ في مأسويّة قرار كهذا. وبقدر ما يحمل من قسوة على الذات يحمل من نرجسيّة جفّت ينابيع هجوميّتها فانطوت على نفسها مفضّلة دفء غار الذكريات. صباح هي النقيض من هذا المَثَل. لم تَقْبَل هزيمة ولا طَعَنتْ في حلفها مع الزمن. برهنَتْ دوماً أنّها على ثقة بنجمها، وخلقت للناس أملاً بإمكان العَوْم بسلامة على موج الوقت.
وفازت. وستظلّ ضحكتها الشقراء تقول للمستحيل: «بل أنتَ ممكن».
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني