طبيعة الأدب الحي
إن الأدب الحي الذي يبقى على مر الأيام لا يعرف علم المعاني أو علم البيان أو علم البلاغة، ولا يفهم القواعد العويصة التي يصطنعها العاجزون المتحذلقون. مصدر روعة الأدب وخلوده أنه يلاقي صدى في نفوس الناس ويضرب على الأوتار الحساسة في قلوبهم. إنه كما قلنا انبثاق من أعناق النفس، والذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب كما يقول المثل القديم.
ونحن نسيء إلى طلاب الأدب أيما إساءة حين نملأ أدمغتهم بالقواعد العويصة ونفرض عليهم التزامها فيما يكتبون ويخبطون. فلا يكاد أحدهم ينهي تحصيله الأدبي حتى يمطر الناس بالحذلقات الفارغة التي يحسبها من روائع الأدب الرفيع. وتراه يمط شفتيه ويلوي لسانه وينفخ أوداجه لكي يأتي بالقول على منوال ما جاء به الأقدمون. وإذا وجد الناس مشغولين عنه بهمومهم، أخذ يعنفهم ويشتمهم حيث يصبحون في نظره اوباشا لا يعرفون قيمة الأدب الرفيع.
إنه يتنطع ويتقعر، وكأنه يريد أن يظهر للناس مبلغ علمه باللغة وفنونها، بينما الناس يريدون أن يستفيدوا ويحصلوا على فكرة جديدة وليس لهم الوقت ليتلذذوا فيه بتلك الترهات الجوفاء. أنقل للقارئ فقرة وجدتها في مقدمة أحد الكتب الأدبية، ليرى رأيه فيها. قال الكاتب:
“…. فلم يكن هذا الكتاب أو أكثره إلا لونا من ألوان الحديث مع النفس حين يخلوا الناس إلى نفوسهم أو حين تخلوا نفوس الناس إليهم فترفع بينها وبينهم من هذه السجف التي تسبلها الحياة وأحداثها بين الناس ونفوسهم، فتصرف نفوسهم عنهم أو تصرفهم عن أنفسهم. حتى إذا عادوا إليها وجدوا عندها هذا اللون من ألوان حديث النفس حتى تسقط عنها أوضار الحياة وحين توضع عنها هذه السجف التي تسبلها عليها أحداثها وخطوبها … “.
ماذا يفهم القارئ من هذه الفقرة؟. أما أنا فأعترف بأني لم أفهم منها شيئا. وكدت أشعر عند قراءتها أن كاتبها يريد أن يتباهى بأدبه الرفيع، كا هو شأن كثير من أدبائنا سامحهم الله.
هم يريدون المباهاة ونحن نريد الفائدة، وشتان ما بيننا وبينهم.
الموهبة، الإطلاع، والمثابرة
على طلاب الأدب أن يفهموا أن الأدب هو، كأي فن من فنون الحياة، يحتاج إلى الموهبة أولا، وإلى الإطلاع ثانيا، وإلى المثابرة ثالثا. هذا هو الطريق الذي صار فيه الأدباء الخالدون. وليس هناك طريق آخر سواه. أما تعلم القواعد والعلوم اللغوية العتيقة فلا فائدة منها لطالب الأدب، لعلها تضره وتفسد موهبته.
إن من يريد أن يكون أديبا بدراسة تلك العلوم العتيقة هو كمن يريد أن يكون طبيبا بقراءة كتب جالينوس والرازي وإبن سينا، ولا بد أن يكون مصيره كمصير من يتحدث عن البلغم والصفراء في عصر البنسلين.
عن القيود اللفظية في الشعر العربي القديم
رأيي في الشعر العربي القديم أنه يعنى باللفظ أكثر من عنايته بالمعنى، ولست أقصد من هذا أن الشعر خال من المعنى، فقد نعثر فيه على الكثير من المعاني الرائعة لا سيما في شعر المبدعين الكبار كالمتنبي والمعري ومهيار الديلمي، ولكن هذا الشعر الإبداعي لا يمثل جميع الشعر العربي، ومن الممكن القول أن الشعر العربي القديم بوجه عام أقل حظا في المعاني من أشعار الأمم الأخرى.
إجتمعت في الشعر العربي خصائص ثلاث قلما نجدها في غيره. وهذه الخصائص بطبيعتها لفظية. وقد يصح أن نسميها قيودا لفظية، وهي: القافية، والوزن، والإعراب. ونحن لا ننكر وجود هذه القيود، بعضها أو كلها، في أشعار الأعاجم، إنما هي ليست ثقيلة على منوال ما نجدها في الشعر العربي.
عن كتاب “أسطورة الأدب الرفيع” – علي الوردي. دار كوفان للنشر، لندن
علي الوردي (1913- 13 تموز 1995 م)، هو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعرف باعتداله وموضوعيته وهو من رواد العلمانية في العراق
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو