يعد مصطفى صفوان من اهم الأكاديميين العرب الذين عملوا في مجال علم النفس الفردي والإجتماعي. تتلمذ على يد الفيلسوف والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان وتركزت دراساته على أعمال فرويد ككتاب “تفسير الأحلام” الذي ترجمه إلى العربية. من كتبه المهمة “الكلام والموت” و “لماذا العالم العربي ليس حرا”. ترجم مصطفى صفوان «عطيل» شكسبير الى العامية وله آراء فلسفية مهمة في ضرورة استعمال العامية في الكتابة كما تستعمل في الحياة العامة كوسيلة تفكير.
عن كلمن – بشير هلال / عندما حملت أسئلتي الى الدكتور مصطفى صفوان، كنت متردداً. فالرجل مشهور بالاصغاء وبحذرٍ من النرجسية يدفعه إلى تقليل الكلام عن نفسه وحتى مجافاته، بينما همِّي ان يفيض بكلام يصدر عن خبرة وتأمل مديدين ومُتشعبَيْ الحقول وأول الحقول التحليل النفسي. كان يساورني شعور بأنها أسئلة تُضيِّق وتكبح الحديث. ومع ذلك كان لا بد منها. وربما زدت تردداً عندما كنت ألفُّ لأجد الشارع الذي تقع فيه شقته بين الطرق الضيقة التي تزدهر فيها المكتبات ودور النشر وغاليريات الفن الواقعة بين حدي بولفار سان جرمان جهة الأوديون والجسر الجديد (بون نوف) على السين. طبعاً كان مما يزيد من قلقي الصورة التي كونتها عن كاتب عميق المعرفة ورجل غربي شرقي، فرنسي مصري، تلميذ وزميل ومُواصِلٍ ومُطوِّر للمُنَظِّر والمحلل النفسي الذي كانه جاك لاكان. ثم معرفتي بأن كل ذلك يجتمع في رجل صار في التسعين لكنه ما زال، رغماً عنها، يصدر الكتاب تلو الآخر. إذ ماذا يمكن لمن يكون قليل الزاد مثلي في مضمار كمضماره ولمن قد يحتاج افتراضياً لأن يكون في موضع التحليل، لا أن يكون طارح الأسئلة، أن يقول؟.
لكن في ضيافة الدكتور مصطفى صفوان بمحيّاه الهادئ المائل الى ابتسام خفيف غير مصنوع ولم تعذبه شيخوخة كان لها ان تترك آثاراً جساماً في من هو في مثل عمره، وفي مكتبٍ – غرفة مرتب ومنضد رغم كل شيء، استعدت ثقة احتجت اليها لإتمام هذا الحديث.
ما الذي قادك إلى علم النفس وإلى البقاء في فرنسا والتحول تالياً إلى أحد أبرز ممثلي الاتجاه اللاكاني في «مدرسة» التحليل النفسي الفرويدي؟
مصطفى صفوان : أمضيت طفولة عادية، بين أبٍ متنوِّر كان يعمل في التدريس وأمّ كرست حياتها لتكون ربة بيت على تقليد تلك الأيام، لكنها لم تكن محجبَّة. وفي المدرسة كنا نتعلم الانجليزية ابتداء من السنة السادسة من العمر والفرنسية من العاشرة والعربية منذ البدء، وكان أساتذتنا في اللغات الأجنبية من جنسيات دولها. كان تعليماً جاداً أهّلني لأتقن عدة لغات.
وكانت لوالدي مجموعة من الأصدقاء يمتازون بالظِرف، كانوا يجتمعون كثيراً في بعض مقاهي الاسكندرية وقد حضرت بعض اجتماعاتهم عندما أيفعت. ولا زلتُ أذكر أول نكتة حاولتُ تفسيرها. فقد كانوا يسيرون تحت الشمس في يومٍ قائظ وإذا بأحدهم، وهو مُعَمَمٌ، يخرج مظلة بيضاء كبيرة (وقد كان هذا اللون دارجاً يومها) فيقول له الآخرون جمعاً: ضلِلنا يا حضرة الشيخ، فانفجر الباقون ضحكاً. فلم أفهم على الفور إلى أن انتبهت أنهم استخدموا اللعب على المعنى بين: إمنحنا الظل وقُدْنا في طريق الضلالة.
وكان وجود المجموعة التي ضمَّت والدي في الاسكندرية طبيعياً في جوٍ تميّز في البلد كله بنوعٍ من النهضة وبانتشار شيء من إشعاع الأنوار انعكس بنشوء شلل ومجاميع اعتمدت الظِرف طريقة في تناول المسائل التي كان يمكن لإثارتها أن تستدرج أوسع المخاطر لو تمَّت بطريقة أخرى وفي زمنٍ آخر، ومنها القدح والتجديف. وكانت أشهر تلك الشلل على ما أذكر تلك التي ضمّت الثلاثي احمد شوقي وحافظ ابراهيم وعبد العزيز البشري (الشيخ)، وكان ينضم إليهم أحياناً عبد القادر المازني. وكانوا يجتمعون في مقهى بالجيزة اسمه بالفرنسية sans souci (دون هَم). والجيزة مديرية ملتصقة بالقاهرة والبعض يعتبرها جزءاً منها. ومن طرائفهم أن جاءهم مرَّة ً زائر أحسُّوا فوراً انه فضولي ومن قماشة أخرى. ولما رآهم يسكبون شراباً (كونياك) في كؤوس ويخدمون انفسهم به ورأى على الزجاجة علامة xo (بالغ العتق) سألهم ماذا يعني ذلك، فقال له البِشري هذا ما تعنيه بالعربية لام ألف ألخ، فضجّوا بالضحك وانصرف مُتَحيِّراً.
ورُبمَّا يعود بعض اهتمامي بكل ما يتعلَّق باللغة إلى تلك الأيام والأجواء وما دفعني إلى اختيار قسم الفلسفة لدى مباشرتي دراستي الجامعية عام 1939. وشاءت الظروف أن يكون بين أساتذتي يوسف كرم، خريج فرنسا في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى، وكان مُتأثراً بخاصة بالفيلسوف واللاهوتي (القديس) توما الأكويني الذي كان يَعتبر تفسيره لأرسطو قمة العقل. واحتوت هذه الفلسفة التي لا تزال بالغة التأثير على العقول نظرية اللغة الموجودة من أيام اليونان والتي كان لها دور ٌ في نشأة علم النحو عند العرب. إذ هو علمٌ تأثر بالمنطق الرسطاطاليسي الذي يتلخص بأن اللغة موجودة لتقول ما هو موجود. وكان أستاذي الثاني الدكتور مصطفي زِيوَرْ قد قدم من فرنسا غداة انفجار الحرب العالمية الثانية وكان يُدرِّسنا علم النفس، وكان الكتاب الذي يعود إليه دائماً شرحاً وتعليقاً كتاب فرويد «علم الأمراض النفسية في الحياة اليومية»،The Psychopathology of Everyday Life، وكان ميالاً إلى استخراج أمثلة عربية مطابقة للأمثلة الفرويدية. ومن تعليمه ذاك لا زلت أذكر حالة شابة التقت جمعاً من الأصدقاء وكانت عائدة للتو من رحلة شهر العسل، وإذ بها تريد أن تحكي لهم عن إجازتها تلك فلا تجد الكلمة. ثم تبيَّن أنها أمضت الإجازة في البوسنة التي كان رجالها «الترك» مشهورين بجنسانيتهم. وبمعنى آخر فللكلمة معنيان جغرافي وعشقي، ونسيانها كان دليل احتباس وكبت.
المهم أن تعليم أستاذَيَّ هذين في مسألة اللغة أثار فِيَّ حيرة حول وظيفتها. أذكر بين أساتذتي الآخرين أبو العلا عفيفي الذي تخرَّج من كامبريدج بأطروحة عن «الشيخ» محيي الدين بن عربي. وكان يريد لي أن أدرس الفلسفة والمنطق في كامبريدج، لكن إعطاء الاولوية في التسجيل بعد نهاية الحرب للمحاربين القدامى حال بيني وبين ذلك. بينما قُبِل ابتعاثي للفلسفة في فرنسا وتكونَّت لدي رغبة بذلك خاصة وأن رفيقي في الرحلة من الاسكندرية كان أستاذي مصطفى زِيوَرْ.
وصلت فرنسا في 3 يناير (كانون الثاني) 1946 بُعَيْد الحرب، وكانت قد بدأت تصدر العديد من البحوث في اللغة بعد اكتشافات دو سوسير وعلماء الإناسة الأميركيين والفرنسيين وسيرورتهم نحو البنيوية، وبخاصة منهم كلود ليفي ستراوس. وكان جاك لاكان الداعي للعودة إلى فرويد سبَّاقاً في استدخال وتبصُّر نتائجها في ميدان التحليل النفسي. وبالتالي فقد ابتعد بالتحليل عن النظر إليه من زاوية الدوافع ذات المصادر البيولوجية إلى اعتبار اللاشعور صادراً عن علاقة الانسان باللغة. وهذا ما جعلني أختار دراسة علم النفس والعمل معه. ونظراً لأن التحليل النفسي صار عملي فقد استقريت عليه منذ 1949.
عُدْتَ إلى مصر بعد ذلك وقد صارت تحت الحكم الناصري ومكثت فيها خمس سنوات عملت خلالها في التحليل النفسي، ولكنك غادرتَ في نهايتها مع قرار بعدم العودة فلماذا؟ وكيف تُقيم اليوم دور الناصرية من ضمن الانظمة العسكرية التي عطلت الحياة البرلمانية ودورها المحتمل في تعطيل العلوم الاجتماعية العربية وبخاصة على مستوى مصادر المعرفة تعميما وانتاجا؟
مصطفى صفوان : كانت آخر إقامة طويلة لي في مصر عندما عدت عام 1954 لأبقى خمس سنوات بحكم الضرورة. ذلك اني، ولم أكن على معرفة مسبقة بذلك، وجدت أنهم فرضوا تأشيرة للخروج ولم يكن تحصيلها ممكناً إلاَّ في حالاتٍ ثلاث: أن يكون لديك واسطة في الدولة تستخدمها لذلك، أو أن تثبت أنك على شفير التهلكة وأن لا علاج لك إلاّ في الخارج، أو أن تعمل في التدريس وخلافه خلال سنوات خمس يمكن أن تحصل في ختامها على إجازة بالسفر للدراسة. وقد اخترت الحل الأخير. ذلك أني عندما عدت كان عبد الناصر في معرض حسم الصراع مع اللواء محمد نجيب لصالحه. وكانت مصر قد بدأت تتغير إلى اتجاهات حصيلتها العامة سلبية.
كان الشعب ساخطاً على الملك فاروق. ليس لفساده المالي بل لما كان يشاع عن فساده الخلقي وما نسب اليه على هذا المستوى. وهذا ما كان سبباً مُعلَناً للانقلاب. لكن الضباط وأغلبهم كان، ثقافياً، في مستوى الثانوية العامة التي خرجوا منها إلى المدرسة الحربية، كانوا يميلون، وهذا ما جسَّده عبد الناصر بعد ذلك بوضوح، إلى اعتماد فلسفة سطحية مبسَطة، فلسفة تقوم على اعتبار التعدّد مصدراً للشر، والوحدة مصدراً للخير. وبالتالي قامت «فلسفة الانقلاب» عند عبد الناصر على الانتقال من التعدّد الى الوحدة، وهي وحدة وسَّع نطاقها إلى المصريين ثم إلى «كل العرب». وهذا يعادل كتابة شديدة النرجسية، خاطبت وأرضت نرجسية الجمع «الجماهيري» الذي استقبلها بحفاوة لهذا السبب.
والحال أنه في ما عدا موضوعة عدم الانحياز، وتلك بدأها نهرو وشوآن لاي وتيتو، لم أكن أجد أية إيجابية أخرى لهذا الانقلاب الذي لا ولم تنطبق عليه يوماً صفات الثورة. فمن جهة بدا في سياساته الأخرى غير مرتبط بالواقع وبإدراك ميزان القوى في كل مرحلة، ومن جهة أخرى كان انقلابه مما كان يحدث مثله كل يوم في دول أميركا اللاتينية، وقد تمظهر في مصر بوضع اليد على البلد وثرواته بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى. فكل مراكز المسؤولية ذهبت إلى الضبَّاط: من الوزراء والمحافظين، إلى السفراء، مروراً بإدارة الشركات والاستيراد والتصدير، وعمادة الجامعات، والمناصب الكبيرة في القضاء. وهم صادروا لأنفسهم أفضل الفلل والشقق والمساكن والشواطئ الخصوصية، ومن ذلك الاستيلاء على بلاج المنتزه العائد للملك قبل ذلك. كما تمظهر بإرساء مملكة الخوف، فبين ليلة وضحاها أجروا محاكمات صورية وأعدموا عمّالاً وأدخلوا الناس إلى السجون وخنقوا الآراء المعارضة ومنعوا الأحزاب.
يُروى ان حادثة جرت معك في الجامعة كانت هي التي دفعتك الى اتّخاذ القرار بمغادرة مصر؟
مصطفى صفوان : ليس ذلك تماماً. الذي حدث انهم عينوا كمال الدين حسين وزيراً للتربية، وهو كان ضابطاً محدود الثقافة. ومرة كنت في الاسكندرية للقاء مدير جامعتها وفوجئت به في مشهد يقوم فيه بالجري وراء سيارة الوزير ساعة وصوله ليفتح له بابها. وكان الطلبة شاهدين على ذلك. وقد آلمني الامر. فقد سقط احترام الاستاذ والتعليم في يوم وليلة. وكيف تريد أن تُدَرِّس والدبابات تحيط بالجامعات وتشغل مداخلها. وكيف تحافظ على المستوى التعليمي وقد استولى الضباط على ادارات الجامعة ودور النشر والصحف.
بأي حال، عندما حصلتُ بعد ذلك على تأشيرة الخروج كان قراري نهائياً بعدم العودة للإقامة والعمل الدائمين في مصر، واكتفيت بزيارات تكاثرت منذ ثمانينات القرن المنصرم لأعيد اكتشاف انهيار النظام والمستوى التعليميين.
قبل حكم الضباط كانت هناك «لجنة التأليف والترجمة والنشر» التي أشرف عليها الاستاذ احمد امين خلال اربعين عاماً وكان كتّابها من أصحاب الأقلام القديرة وكان مترجموها يختارون ما يقومون بترجمته عن هوى ورغبة فصدرت في ذلك الحين خيرة ذخائر التراث العربي وأفضل ترجمات ذخائر الأدب والفكر في العالم. حتى إن بعضها كان يفوق الاصل بلاغة. كان هناك محمد الصاوي الذي ترجم اناتول فرانس وحسن الزيات وعبد القادر المازني. وأتذكر ترجمة رواية «تس سليلة دوبرفيل» Tess of the d’Urbervilles التي ترجمها فخري أبوالسعود ونشرتها لجنة التأليف والترجمة سنة 1930 وهي للشاعر والروائي البريطاني الكبير توماس هاردي. تلك الترجمات اعطت الإثبات على ان اللغة العربية قادرة على نقل التراث العالمي من كل الأصول، وهي كوّنت عقولنا منذ مراهقتنا حتى سنوات الجامعة. أما الضباط فقد اطلقوا مشروع «الألف كتاب» الذي حولّوه، عبر طرائقهم التسلطية والبيروقراطية، الى أداة لجعل الكُتاب صُنّاعاً لديهم.
ولذلك كنت أعتقد، ولا أزال، أن جيشاً كهذا لا يمكن أن يتنازل طوعاً عن الامتيازات والثروات، وهذا ربّما أثّر في ما يحصل اليوم. فقيادته ترجئ وترجئ إلغاء قانون الطوارئ، وهي عدَّلت في دستورٍ قديم بدل أن تطرح نقاشاً لدستور جديد، فيما أسرعت في تنظيم انتخابات تشريعية قبل أن تستطيع المعارضة تنظيم صفوفها والتعريف بأشخاصها وسط محاولات تجهيل الشعب بالقضايا والرهانات الأساسية. وآخذ مثلاً على ذلك ما تمَّ في الاستفتاء على التعديل الدستوري الذي استثمرت جماعات إسلامية طريقة طرحه: فقد وُزِّعت على الناس بطاقات فيها دائرتان الأولى خضراء للموافقة، وقالت هذه الجماعات أن من يضعها يكون في الإسلام الصحيح، والثانية حمراء وصفت من يضعونها بأنهم أهل الشيطان.
وفي كل هذا علامات على أن الجيش، حفاظاً على مواقعه، قرَّر استبدال «الحزب الوطني» الذي جلب لسيطرته المشاكل، بقوى الإخوان والجماعة الإسلامية على أن تكونا ممسوكتين في اضطرابهما وتنازعاتهما وعجزهما عن إحداث أي تغيير في السياسة الخارجية. من هو المجنون الذي سيقوم بحربٍ ضد إسرائيل اليوم؟
والمثقفون أين هم في ذلك ومنه؟
مصطفى صفوان : مصيبتهم هي في الهوَّة التي تفصلهم عن الشعب. ليس من كاتبٍ كان له يوماً أثرٌ في تاريخ مصر أو أيٍ من الدول العربية كمثل ذلك الذي كانه ولا يزال لكاتب مثل شكسبير في بريطانيا أو دانتي في إيطاليا أو فيكتور هوغو ومونتسكيو وروسو في فرنسا. وفي ما عدا بعض الأقلام العظيمة في عصر مكافحة الاستعمار كطه حسين والعقاَّد والمازني لم نرَ كثرة من الكتَّاب تعيش من كتبها. الغالبية من المثقفين كانت تعيش من فضائل السلطان. وبعد الانقلاب الناصري أصبحت هذه الوضعية رسمية ومُعتَرَفاً بها في مصر. إذ عمل الكُتَّاب في صحف ودور نشر هي ملك للدولة. وبمعنى آخر فقد أبَّد المثقفون بذلك انقطاعهم عن شعب بات، بحكم تجذر الأديان التوحيدية، لا يعرف سوى التأحيد. وإلاَّ فكيف يمكن أنه في بلدٍ كمصر يعدّ سكّانه 80 مليونا، تبيع الواحدة من صحفه من عشرين إلى مئة ألف نسخة. المشكلة لا تزال في أن المُثقفين لا يُحِسُون بهذه القطيعة مع الشعب ولا يُدرِكون دور اللغة في ذلك، وبالأحرى تغيبهم عن العامية وتغييبها في تكوين القطيعة المذكورة.
وحتى الآن ثمة من يقول لك إنّك إذا ما طالبت باللغة العامية تعليماً وتعميماً في الأدب والمعرفة، فأنت تُخرِّف. وثمة من يُضيف: أتعتقد أن الناس إذا قرأت ستتغيَّر، وهل يقرأون عندكم في الغرب؟ وهذا كلام فيه فجاجة لا أجد طائلاً في الرد عليها.
طبعاً «ثورة يناير»، التي هي بالأحرى انتفاضة وحركة تشكلَّت عبرها إجماعات جديدة واستندت إلى الوسائل التواصلية الحديثة، أحدثت رجَّة في الحكم وفي البلد لكنها غير كافية بذاتها لإنهاء قطيعة المثقفين ولغتهم مع الشعب. سمعتُ أن بعض من قاموا بالانتفاضة يتصلون بالزجَّالين والشعراء الشعبيين مثل ابن صلاح جاهين وابن فؤاد حدَّاد وحتى بعبد الرحمن الأبنودي لنظم قصائد وتسجيلها على كاسيتات وبيعها في الأرياف بأسعار زهيدة وبعشرات الآلاف من النسخ. وعندي بعض الأمل في ذلك. فالتغيير بحاجة لإعادة خلق الصلة بين المثقفين والمواطنين، إن لم يكن عن طريق تغيير فوري في لغة الكتابة، ذاك الذي يحتاج إلى تراكم تاريخي لا بد من بدئه يوماً ليغدو أفقاً واقعياً، فعن طريق وسائل التعميم الأخرى.
بعد انتفاضات «الربيع العربي» ثمة تأكيد على العودة إلى مبدأ سيادة الشعب بوصفها استقلالاً ثانياً. ومعه حديث آخر عن أن الاستقلال الثالث يجب أن يكون استقلال الفرد. فأين نحن من ذلك؟
مصطفى صفوان : استقلال الفرد هو استحالة. إنما حرية الفرد في العمل مع الآخرين موضوع ممكن وهو يتصل بتطور المجتمع المدني. والحال أننا الآن في عملية تقتضي تغيير العقليات أفراداً وجماعات، بذلك المعنى الذي كان سيُجسِّده على سبيل المثال التغيير الذي لم يحصل للمادة الثانية في الدستور المصري التي تنصّ على أن مصدر التشريع هو الشريعة الإسلامية. فالكلام عن دين للدولة لغو. ولا أجد دقيقاً وصف الإسلام بأنه دين ودولة. وهذا ما سبق لعلي عبد الرازق أن بيَّن تهافته، كما بيَّنه باحث مثل خليل عبد الكريم في الحقبة الأخيرة، وحصيلته أن الدولة لم تكن دينية يوماً، وأن دينية الدولة لا سند لها في القرآن والحديث. فالعرب أنشأوا دولتهم على غرار الدولة الساسانية وهي دولة شرقية استبدادية جمعت بين السلطة السياسية وسياسة خاصة في استخدام الكتابة (المقدسة)، وهذا ما أحببت البرهنة عليه في كتابي «لماذا ليس العالم العربي حراً؟ سياسة الكتابة والإرهاب الديني» الصادر في 2008 عن دار دونويل (Denoël). الدين مسألة عقيدة تتم عبر صلة الفرد المؤمن بالله. لماذا لا يكون معقولاً القول إن الشركة الفلانية دينها الإسلام بينما يكون معقولاً القول إن دولة ما دينها الإسلام. الدولة والشركة وأمثالهما وسائل وأشكال خصوصية وفي ميادين مُحددَّة لكل منهما في التنظيم الاجتماعي.
وحتى إذا وافقنا جدلاً على أنه يمكن أن يكون للدولة دين، ففي هذه الحالة لماذا يكون دين مصر الإسلام وحده ويكون وحده مصدراً للتشريع. فالإسلام خاتم الأديان ومصر فيها أقباط وكان فيها يهود وربما كان فيها بهائيون وكان من الأفضل حينها القول إن مصدر التشريع هو «الإسلام والأديان السماوية الأخرى» حتى نكسب تغطية أوسع.
ذلك لأقول إننا بلغنا من الجمود في التفكير ومن الجهل درجة تجعل بعضاً من الجمهور يعتقد بمقولات معزولة عن أي محتوى عملي وحقيقي من نوع «الإسلام هو الحل». حسناً. فليأتوا إلى الحكم لنرى. ولكن أليس من أبسط الأشياء التفكير بأن ديناً، أياً كان، سواءً أتى قبل 1400 عام أو قبل ألفين ونيِّف أو قبل كذا ألف، يكون حلاً لمشاكل هي اليوم أكثر تعقيداً بما لا يقاس فيما لم يكن حلاً قبل ذلك.
هل يَسَعْ التحليل النفسي أن يكون وسيلة معرفية في ثقافاتنا الاجتماعية الإسلامية؟
مصطفى صفوان : التحليل النفسي ليس مُعَداً للناس جميعاً كأي سلعة أو فكرة مُعَولمَتَيْن، وإنما هو مُعَدٌ للذي يطلبه والذي لا بد أن يكون عارفاً على الأقل ببعضٍ من حقله وفائدته وأثره. أو تعتقد أن راعياً في جبال البرانس الفرنسية أو صياداً في سيبيريا سيذهب بامرأته التي أصابتها هيستيريا إلى مُحللٍ نفسي لمعالجتها؟ لا. في الحقيقة كانت للمجتمعات أدواتها في الطب النفسي والتطبيب. فتلك الضعيفة التطور كانت لبعضها، تاريخياً، تصرفات ذكية مع المصابين باختلال نفسي. حتى وقت ليس ببعيد كان الغرب يحاكم المثليين وبخاصة الذكور منهم ويحكمهم بالإعدام أحياناً (كمخترع الكومبيوتر دورينغ)، بينما كانوا في بعض المجتمعات الشرقية يتركونهم مع النساء. أمَّا الملووث فكانوا يجعلونه ساحراً أو مُنجماً أو مُشعوِذاً أحياناً. في الحقبة الصناعية التي نشأ ونما فيها التحليل النفسي كما نعرفه، من كان يطلب التحليل عادة هو مثقف إلى حدٍ ما، لديه فكرة عن العلم.
لقد عملتُ في مصر خمس سنوات 1959-1954 وأتاني أفرادٌ، بعضهم كان يعمل في الجامعة وبعضهم كان من الفنانين والرسامين ومدراء في شركات سياحية ورجال أعمال، وكل هؤلاء لديهم حدٌ من الثقافة وفكرة ما عن التحليل النفسي وعن فرويد. ولم يختلف عملي معهم عنه في أي مجتمع. وأي مجتمع فيه عائلة أبوية يصح فيه التحليل. واتجاه الأخيرة إلى التلاشي في المجتمعات ما بعد الصناعية في الغرب واضح. فالأسرة في هذه المجتمعات تميل إلى تكثير الثنائية والمثلية وانحصار الأسرة العادية عندما توجد بثلاثي الأب والأم والطفل. وفي مصر نجد اليوم الحالات الفرويدية الكلاسيكية أكثر مما نجدها في أوروبا: الهيستيريا والفوبيات والوسواسيات. في أوروبا يُطلب التحليل اليوم لعلاج الإدمان والانهيار العصبي، وهما صورتا تبلوُر العُصاب في وقتنا الحاضر. ولذلك بِتُ أعتقد أن زمن التحليل النفسي، بالصورة الفرويدية التي عرفناها، محدود. أمّا في مجتمعات كمصر فمشكلة التحليل لا تأتي من قلة الحالات بل من ضيق الطبقة القابلة بالتوجه إليه احتمالياً. فهي منحصرة بمثقفي المدن. أي ما يقارب 5 بالمئة تقريباً من سكان البلد. وهذا يعني وجود عدد كاف للقلة من المحللين الجادِّين الذين تضمهم مصر لكنه غير كافٍ لإحداث تأثير في الثقافة الاجتماعية. وفي هذا السياق كان للتحليل أن يساهم في توضيح كنه العلاقة بين مُسمّيات مثل القانون والقانون الوضعي والقانون السماوي والشريعة، حيث التمييز بينها بالعربية ليس دقيقاً. ومثل ذلك بين مُسميات ومفاهيم مثل الـ authority التي اعتدنا تسميتها «سلطة» وsovereignty «سيادة» ألخ…، إذ إن الكلمة في لغة لا تُترجم بمفردها لأنها في لغة الأصل جزء من كل يحكم الميدان الذي تتحدَّث عنه.
عُرفت عنك علاقة مميّزة بالأدب إلى جانب التحليل النفسيّ. هل يستطيع الأدب العربيّ، في رأيك، أن يقدّم مادّة للتحليل النفسيّ شبيهاً بما قدّمته الآداب الغربيّة، لا سيّما في ظلّ ضعف الميثولوجيا في تقاليدنا الثقافيّة؟
مصطفى صفوان : أولاً لا نستطيع القول ان الادب في الغرب قدّم مادة للتحليل النفسي، بل ان الأخير استخدم هذه المادة وهذا أمر مختلف. ربما كان متوجباً قلب السؤال بحيث يصبح: هل هناك أدب عربي يمكن للتحليل النفسي استخدامه كمادة له؟ اعتقد ان الجواب هو بالايجاب رغم محدودية قراءاتي للأدب العربي بسبب بعدي وصعوبة الحصول على الاعمال الأدبية. اذكر في هذا السياق ثلاثية رضوى عاشور «غرناطة» عن آخر أيام العرب في الاندلس وهجرتهم منها. وهي قوية بدسامة الثقافة المستندة اليها وقدرتها على احياء عصر بأسره، فكأنك تعيش في شوارع غرناطة، والطاقة المبذولة في تخيل مأساويات أشخاص الثلاثية عميقة. وربما لو لم تكن الرواية باللغة العربية لحازت على ترجمات أكثر ورواج أكبر. وفي مجال مختلف اتذكر صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وملحمة «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف. في هذه الآثار الكثير مما يمكن للتحليل النفسي استخدامه. مشكلة الادب العربي تقع في مكان آخر، فهي ترجيحاً قائمة في سوء الشروط والظروف التي تحيط بالأدباء العرب والتي لا تشجّع على الانتاج الحقيقي. لو اخذنا مصر مثالاً، نجد أنّ الكتاب ينتمون الى طبقة الخاصة، والقراء كذلك. فكأنهم يقرأون بين بعضهم البعض. ثم ان هناك فارقاً بين ان يعرف الأديب انه يكتب لأمة ولشعب وبين أن يكتب للخاصة.
وهذا لا يعود الى رغبة الكتّاب الذين يفضلون بلا ريب ان يكون عدد قارئيهم مضاعفاً عشرات المرات، بقدر ما يعود الى إشكاليات النظام التعليمي من اساسه، ذاك الذي يحاصرهم بالكتابة لطبقة متوسطة وبالأحرى لقسم منها لأن غالبها يفضل القراءات السهلة لما يمكن تشبيهه بالـ «بست سيلرز» (الأكثر مبيعاً). وهذا حال بعض الروايات التي لقيت رواجاً كروايات علاء الاسواني ورواية خالد الخميسي «تاكسي»، وهي روايات مسلية لكنها لا تحمل شحنات قوية من الإبداع. والحال ان اللغة العربية تسمح بخلق أدب لا يقلّ قوة عن الآداب بأية لغة، ولكنه محكوم بالقطيعة بين الفكر والثقافة وبين الغالبية العظمى من الناس بسبب التعليم بلغة لا يتكلمها الناس في حياتهم اليومية، بخلاف اللغات العالمية الاخرى.
نعود إذن الى موضوع اللغة العامية، لقد ترجمت «عطيل» شكسبير الى العامية. فكيف تفكر بهذه التجربة اليوم؟
مصطفى صفوان : صحيح أني ترجمت «عطيل» ولكن هناك عدة نقاط اود الاشارة اليها. فقد طلب مني صديقي الدكتور حسين عبد القادر نشرها وهو قام بذلك لدى مكتبة الانغلو، فانتهت الى ما تنتهي اليه الكتب. فكونها مكتوبة بالعامية لا يعني انها ستباع عند البقالين. عندنا في مصر الكتاب غير مخدوم لا لدى الناشر الذي لا ينظم عقداً للكاتب او المترجم، ولا في التوزيع كي يوصله الى شبكة أعرض. وبأي حال فترجمة كتاب وكتابين وعشرة لن تحلّ المشكلة. الحلّ يحتاج الى حقبة طويلة يجري فيها تعليم اللغة العامية ونحوها والكتابة بها. فالناس حتى الآن تحتقر لسانها ولا تعرف ان فيه نحواً وفيه قواعد. وهي في ذلك مثل مسيو جوردان الذي لا يعرف انه يقول نثراً.
لكن احتقار الشعب للسانه هو اداة من ادوات السلطة لكسره. وهذا ليس له مثيل في العالم. ففي فرنسا مثلاً قواعد اللغة الفرنسية هي قواعد تلك اللغة التي يتكلمها الناس في الشارع، وهي استمرار وتبلور لانفصال العاميات في لغات تفرعت عن اللاتينية. يعني هل كنت تتصور علماً طبيعياً كالذي انشأه غاليلو الذي هو اصل العلم الرياضي الحديث من دون ان تكون فيه المسافة والحركة والسرعة. ألا يستخدم التحليل النفسي الكلام لصياغة تصوراته الاولى وهو الكلام الذي تعطيه لك اللغة، وبعد ذلك فقط تقوم بالصياغة وتكتشف علاقات لا تظهر للمتكلم مثل العلاقة بين السرعة والمسافة والزمن التي يُعتبَر مفهومها تجريداً، لكنه تجريد ينطلق من الاشياء التي تقدمها لك اللغة وليس من الفراغ. وكما التصورات العلمية تبدأ من هنا، كذلك الادب يخرج من هنا، وإن في عملية لها طبيعة اخرى. ولذلك أعتقد أنه دون تعليم اللغة العامية ستبقى الهوة بين الثقافة والشعب قائمة وستبقى عملية الخلق الادبي شوهاء. إذ اللغة الأدبية مختلفة ولكنها ليست لغة ثانية، فهي خلق لكنْ خلق باللغة التي تعلم الشعب قواعدها.
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري