(1)
«من فضلك، ممكن أفك السلوفان بتاع الشريط ده؟ عايز أعرف حاجة بس؟».
هكذا، طلبت من بائع الكاسيت في محطة الرمل بإسكندرية، في 25 أبريل 1997، أن يفض لي غلاف ألبوم «عدوية»: «زحمة يا دنيا زحمة». كنت وقتها أشتري ألبومات لطوب الأرض من المطربين، لكن ليس لدرجة عدوية، هل يمكن أن أدفع 7 جنيهات كاملة لأسمع إله الابتذال في قاموس السبعينيات الفني؟
كنت فقط أريد أن أفض الغلاف، لأتأكد: هل فعلا أغنية «زحمة» من كلمات صلاح جاهين، إله الشعر في كل القواميس؟
وقتها، المعلومة كانت منتشرة في أوساط المثقفين بشكل أسرع من الشائعات، ربما لأن التسعينيات هي بداية زمن النحت الجميل، وكانت الفكرة هنا هو أنه: «شوف، حتى جاهين بينحت وعامل غنوة لعدوية»، حتى إذا لم يقلها، هي موجودة هناك في ركن ما من فمه.
ما سألت نفسي عنه فيما بعد: لماذا لم أحاول سماع أو حتى قراءة الكلمات، لماذا فقط كنت أريد أن أتأكد من صحة المعلومة، وكأنها في نفسها تعني شيئا.
رفض البائع طلبي، وقال لي: «لو فكيته تشتريه»
نظرت لرفيقي في الرحلة: «إيه رأيك؟»
لم يكن متحمسا، لكنني كنت مدفوعا بالفضول، هذه معلومة فاصلة، هل كتب جاهين لعدوية فعلا؟ إذًا، فلتذهب الجنيهات السبعة إلى الجحيم.
في طريق العودة، كان فض الغلاف، وكأنني أفض عالم «عدوية» نفسه، والذي بدأ معي بالصدمة، «زحمة» وكل أغنيات الألبوم كلمات «حسن أبوعتمان»، مين ده؟ أعرف أن كاتب أغنيات عدوية هو الريس بيرة، ما الذي صنعته بنفسي؟ سألقي هذا الشيء في أسفل سافلين.
(2)
في منزل هاني شنودة، أبريل 2009، أجلس مع زميلتي هبة إسماعيل، وبيننا مشروع كتاب، نستمع لبوب الجيل، وصانع الأساطير، وهو يحكي بهدوء عن تجربته مع عصر الكاسيت، وعندما جاءت سيرة «زحمة»، وقف «شنودة» من جلسته، وهو يشرح كيف صنع هذا اللحن، كيف بدأ بالكورال، في إيقاع رتيب، ثم تتصاعد النغمات مع دخلة عدوية، كان يحكي وهو هناك، في مكان غامض، ليس هنا على الأرض. ثم نظر لنا وقال: عارفين: عدوية جرب الكلمات مع أكثر من ملحن، ولما سمع لحني، قال لي: البتاعة اللي إنت عاملها دي، مش عايزة تخرج من وداني.
عندما قال «شنودة» هذه الجملة، فهمت السبب في أنني سمعت الألبوم في طريق عودتي من الإسكندرية، وعندما وصلت للقاهرة، كان أول ما فعلته في اليوم التالي هو أنني اشتريت 21 شريط كاسيت، هي كل الموجود لعدوية في القاهرة المحروسة.
(3)
قبل سنوات من جلسة «شنودة»، طلب مني رئيس التحرير أن أكتب مقالات في الغناء، وسألني: «هتبدأ بمين؟»، فأجبته قولا واحدا: عدوية. بعد سكتة لجزء من الثانية، أوضحت إنني سأكتب له اعتذارا.
سنوات وسنوات يتعاملون مع الرجل باعتباره الفن الهابط، دون أن يحددوا معنى الهبوط. يضعون أغنياته في خلفية المشاهد الدرامية كدلالة على انحدار الذوق العام، تماما كما فعل محمد فاضل مع «بدرية السيد» في «الراية البيضا»، وجعلها تموت بالحسرة.
استخدموا في ذلك كل الوسائل: من أول المعلومات المغلوطة حتى الاختزال، والاختزال جرم، لو تعلمون، كبير، فأصبح عدوية يعني أغنيتين: السح الدح إمبوه، وهي أساسا ليست أغنيته بل أغنية الشيخ محمد طه، و«حبة فوق وحبة تحت»، وهم لم يسمعوها، ولو سمعوها لما قالوا ما قالوا.
عشرات من الأغنيات، كل أغنية تفتح بابا مغلقا من أبواب هذا المجتمع الغريب، كلمات طازجة، وتركيبات سلسة شديدة التعقيد، ونقلات موسيقية أحيانا تصل إلى حد الإعجاز «ما بلاش اللون ده معانا» ، بحة صوت لا يمكن أن تجدها خارج حدود هذا البلد، ثم يأتي أحدهم ببساطة فيقرر أن هذا انحدار في الذوق.
تماما كما كانوا يحتقرون السباك والميكانيكي وكل الأعمال اليدوية، التي نعيش حرفيا من عرق أصحابها.
«عدوية» كان بالنسبة لي بداية التفكير في مسألة النسبية، وأن مقاييس الجمال لا يمكن أن تكون واحدة، وأن هذا البلد لم يضر به إلا قتل التنوع في مرحلة الإذاعة. لقد استعاد للمهمشين ذائقتهم المخطوفة، وبتحريرهم، تحرر الجميع وأصبحت الأغنية من بعده لكل الأديان.
عندما سألني رئيس التحرير: عنوان مقالك إيه، أجبته قولا واحدا: «صنع في مصر».
(4)
في إحدى الحفلات، اجتمع بالمصادفة عبد الحليم حافظ وأحمد عدوية، البرنس والحرفوش، أنت تعلم أنه لا حدود لذكاء عبد الحليم، لكن «عدوية» أيضا لا حدود لفهلوته.
لا أعرف أين يقع الخط الفاصل بين الذكاء والفهلوة.
حليم أمسك بالدف وغنى ساخرا: السح الدح إمبوه، وهنا عدة رسائل. أولا: أن هذا هو ما يقدمه عدوية، وثانيا: أن ما يقدمه تافه. ثالثا: يلقي بالكرة في ملعبه لرد التحية، ومن المؤكد أن الجمهور لن يتقبل عدوية يغني: «ظلموه».
لكن المطرب «الشعبي» رد ضربة الإرسال بضربة «اسكرو» معتبرة، وغنى وقتها: نار يا حبيبي نار، فول بالزيت الحار، فكان يحتفظ بالأداء الطربي في الشطر الأول، ثم يغلق المقطع بالعودة لمنطقته.
هكذا كان الصراع الذي بدأ قبلها بسنوات طويلة، عندما صعد محمد رشدي، وهدد احتكار حليم للمقعد الأول، حليم انتصر على رشدي في تلك الجولة، وكان انتصاره معتمدا على الدخول إلى ملعب رشدي، واحتكار الأبنودي وبليغ وغنائه أنا كل ما أقول التوبة وأخواتها.
«حليم» كسب الجولة، لكنه كان بيديه يمهد لخسارة الحرب، فالمنطقة التي انتقل إليها حليم، تقع في قلب دولة عدوية.
الخسارة هنا لا تعني إخماد ذكره، فالرجل أسطورة بكل المقاييس، وله ركنه المميز في بيت التاريخ الغنائي، لكن الخسارة هنا هي فقدان الاحتكار، وفي أنه لم يعد الوحيد، وأنه لم يكن أول من يكسر حاجز المليون نسخة، بل كان أحمد علي مرسي الشهير بعدوية، وربنا يرحم الجميع.
(5)
عندما سألت حسن أبو السعود عن الموزع الموسيقي لأغنيات «عدوية»، نظر لي بما معناه: إنت عبيط يا ابني؟ ولا أتذكر الإجابة التي قالها وقتها: فقط أتذكر النظرة.
بعد ذلك بسنوات، وبسماع متعايش لألبومات عدوية، انتبهت إلى العلاقة بين «عدوية» وعازفيه، إنه لا يقف في مقدمة الأغنية ليذكر أسماءهم، ويشكرهم كما يشكر الملك طاقم وزرائه، إنه يعيش معهم، وبين لحظة وأختها تجده يواسي حسن أبو السعود: يعوض عليك يا أبو علي. أو يلاغي أبو شفة عازف الناي: الله عليك يا ابو شفة يا حلو.
هكذا بدأت أهتم بشركاء «عدوية»، ناي سيد أبو شفة، وأكورديون أبو السعود، ورق حسن أنور، وهم أسطوات الآلات التي يعزفونها، لكنني وقفت أمام عازف الكمان، عم عبده داغر، الكمنجاتي الأسطوري، وأمام الترومبيت الذي تعامل معه سامي البابلي كمروض خيول برية، خصوصا في موال راحوا الحبايب، ومدخل يا بنت السلطان.
«عدوية» لم يكن يلعب معه عازفون، بل سحرة.
(6)
صلاح جاهين لم يكتب «زحمة»، لكنه كتب لعدوية أغنية أخرى، هي «مجنون»، لكن على أية حال، لم تعد معلومة أن جاهين كتب لعدوية، ذات قيمة، ولا حتى أن الأبنودي ومأمون الشناوي وسمير الطاير وغيرهم كتبوا له، ولا أن بليغ حمدي وسيد مكاوي وكمال الطويل وعمار الشريعي لحنوا له. كل هذا لا يهم.
كنت أفرح بصورة أكبر عندما أجد اسم حسن أبو عتمان على الكلمات، وحسن أبو السعود ومحمد عصفور في الألحان. وعصفور بالذات كان مثار اهتمام عبد الوهاب، هو وسامي البابلي، وصرح أكثر من مرة أنه كان يرغب في التلحين لعدوية، لولا أنه يخشى من منحه الشرعية، كانت المعركة كبيرة.
وحدهم المزاجاتلية من الفنانين والمثقفين كانوا يجاهرون بحبهم لصوت «عدوية»، وعلى حد علمي، كان مطربنا هو المفضل لليلى مراد في أواخر أيامها، وكان نجيب محفوظ هو خط الدفاع الأول عن التجربة ككل.
(7)
أيها البائع السكندري الذي رفض أن أفض غلاف الشريط دون أن أشتريه: شكرا.
/ مؤمن المحمدي – عن المصري اليوم
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني