كلَّما كان أخي الكبير رحمه الله يقول لي كيف كانت الحياة جميلة وحرة وملوَّنة وهو طفل، اتهمه بالضلال وأفرش سجَّادة الصلاة وأصلِّي، فالحياة ما تزال جميلة. لم أكن اتخيل ولا أحبُّ -وانا الخمسيني- ما يقوله أخي ولا أصدِّقه. صورته السوداء والبيضاء كما يجب على الحائط في بيتي. كأنِّي ألمح طيفه أحياناً يمرق في أروقة البيت، حتى لم أعد أطيق البيت. يوم وفاته ذاكرة بيضاء تماماً. كفنه، الحمائم البيض التي رفرفت فوق الحارة، الغيوم البيضاء التي غطت سقف الأرض. كلُّ ما بقى من ضلاله هو كلام لا أول له ولا آخر عن جمال العالم في طفولته.
ارتديتُ الأسود كما يجب: قميصاً وسروالاً اسودين. هكذا نحن: نعيش في سواد ونموت في بياض، ولسنا مثل أصحاب الدين الآخر، الذين يعيشون حياتهم في بياض ويموتون في سواد. لن أطلب سيارة أجرة غُراب البين كعادتي، بل أحببتُ أن أمشي، فالمشي ليس من الممنوعات ولا المُحرَّمات، وأنا رجل متدين وملتزم، ودائماً احمد الله على أنني من هذا البلد وأدين بهذا الدين. وخرجت من عُلبة البيت المكسو بالقار، وأخذتُ أمشي في رقعات الشوارع الاسفلتية. أمامي، سدَّت ساحة الحيّ العامة، حيثُ كانت الحكومة الرشيدة تعدم الناس الملوَّنين أمام الملأ، غيمة سوداء من الناس، الرجال بدشاديشهم السوداء، والنساء بجلابيبهم السوداء، الشبان ببذلاتهم وقبعاتهم السوداء، بنظاراتهم السوداء، يهرب منها أناسٌ وينضم إليها آخرون. ظننتُ ان الأمر له علاقة بشخص معتوه يطالب بحرية الرأي وحرية الألوان. ورغم انني أعلم ان الاماكن النائية عن اعين الأمن، قد لا تكون آمنة، أصررتُ على أن أرى ما يجري. شعرتُ بأنَّني رأيتُ طيفَ أخي كأمواج من ضوء تشدُّني إلى مركز الغيمة السوداء. ثمة توجُّس سرى لدى الناس بأنَّ ثمة دوريات شرطة سريِّة في طريقها إليهم. ثمة أناس سارعوا بالهرب. بذلتُ جهداً كبيراً لأصل إلى بؤرة الغيمة. سمعتُ بعض الكِبار يستغفرون الله، وبعض الشبان يهمسون بالفحش أو البذاءات أو التجديف. توقَّعتُ وجود شخص يهدي للديانة الأخرى، وهو يرتدي زياً أبيضَ وحذاءً أبيض، لعنهم الله. واقتحمتُ الحشود الصامتة، فإذا برسامين شبان في مقتبل العمر يصطفون ويرسمون بالفحم في الشارع. صحيح انهم جميعهم كانوا يرسمون بالفحم، كما هو مسموح، لكني حقاً أسعدني ما رسمه الرسامون بالفحم في الشارع. كان ثمة تدرَّج بشدة اللون الفحمي فظهرت اختلافات في اللون الأسود نفسه. أقسم بالقوس المُحرَّم علينا انني لم أرَ من قبل رسمات أجمل ولا أحلى مما يرسمون. ووقفتُ وأنا منذهل من أربعة شبان وثلاث شابات كانوا يقفون على مصطبة البلدية كأنَّهم يعرضون انفسهم ليرسمهم الرسامون. لكن الشبان والشابات لم يكونوا مادة للعرض، بل كان كل شاب وشابة منهم يحمل مربعاً صغيراً، ويحاول كل رسام او رسامة محاكاته باللون الفحمي، يا إلهي، ما ذاك! وذاك! وذاك! سبعة مربعات من الدهشة البِكر. ما هذا الجمال!؟ ثمَّ سرت همهمة ونحنحة عالية بين الجموع، فإذا هم العناصر السرية للنظام، فأخفى الشبان المربعات بين طيات ملابسهم واختفوا. كيف أفسِّر ما رأيتُه؟ وما الذي رأيتُه؟ يا الله، كيف سمح الآباء لأولادهم باقتراف هذه الخطيئة!؟ يا رب، أغفرْ خطاياهم وخطاياي يا رب، وأرحمني، فقد اشتهيت رؤية ما تحويه المربعات منذ الوهلة الأولى، ماذا أفعل بهشاشة غرائزي يا ربي؟ وماذا أفعل بغرائز الصغار المسحورين بما يرون ويسألونني عما يرون؟ أهذه ما رواها لي أخي عن طفولته؟ همس لي أحدهم ان تلك المربعات المُحرَّمة هي ألوان الطيف.. أهو طيف أخي؟ يا الله، أهذه ألوانك يا ربي؟ أهذه الوانك التي يحمينا من شهواتها الحاكم ورجاله!؟ أغفرْ لنا هشاشتنا وزلاتنا يا الله، أرحمنا، وأرحم ضعفنا… الله!! الله!!
4-3-2013
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر