تمنى المريض الشاب أن يكون مصوراً فوتوغرافياً لو مُنِحَ حياةٌ ثانية، هكذا قال للمترجم الذي ظهر ذات يوم ليجسر بعض الفجوة بينه وبين الأجنبية المتطوعة. ضحكت وعرضت عليه كاميرتها، فدقَّ على صدره يشكرها. تمنى لو معه كاميرة ليخلِّد ضحكتها في قلبه. تمنى لو تتخلَّد المتطوعة في قلبه. تمنَّى أن تتعلَّق بقلبه مثلما تعلَّق كرؤيا متعبة بأهدابها.
انها برتقالة. امرأة برتقالة، لها نكهة البرتقال ولونه وقشره، ولها سُرَّة شهية رآها ذات يوم صيفي وهي تغادر المستشفى. ألها حبيب؟ احتسى بسمة عينيها بعد حبتي الاوبتالجين. شرب بياض بشرتها، شرب عينيها.
هو يلطِّش ببعض الكلمات من الإنكليزية، والممرضة البرتغالية بقليل جداً منها كذلك. تجعله ضحكتها طفلاً صغيراً، مهرجاً بهلوانياً مبدعاً وفناناً. نزيلا الغرفة يقولان له ان رائحة البرتقال أعلنت عن مجيئها، ويضحكان، يقول لهما ان رائحتها ضحكتها الشهية. يضحكان على المريض الغزي الشاعري الذي لم تسمح سلطات اسرائيل لأحد من أخوته بمرافقته إلى القدس، حيث مسشفى المطلع لعلاج السرطان. تمنَّى احد زميلي الغرفة مازحاً ان يستأصل الجراح البرتقالة من قلبه، يضحك الجميع. لقد بدأ يحبُّ الرسم. يرسم بأقلام الحبر على الجرائد وورق المستشفى المروَّس. تحضر له البرتقالة كومة من ألوان الشمع. رسم بأصابع الشمع كالأطفال وردة وبرتقالة، وموزة وشجرة، وعصافير تطير، وبيتاً. لو كان بوسعه أن يرسم على وجهه بشمع أصابعها الرشيقة!؟ يتعب كثيراً. يُسطِّل كثيراً. استأصلوا السرطان. ثمة أمل ضئيل في العلاج الكيماوي. ثمة أمل في السماح لإحدى أخواته بدخول القدس لمرافقته. اخوته لم تسمح لهم اسرائيل بدخول القدس، وكذلك لم تسمح لأختيه الشابتين بالسفر إلى القدس، لئلا تتزوجا وتستقرا في القدس. وأخيراً، يبلِّغونه بشارة إصدار تصريح لأخته الكبيرة، كيف ستترك زوجها وأطفالها وتأتي لترافقه!؟ أخته الكبيرة المُحجَّبة أرادت أن تقدِّم شكوى لإدارة المستشفى لأن الممرضات العربيات يتجنبن غرفة أخيها. جميعهن ما عدا البرتغالية يهملن أخاها المحتضر، وهي لا تطيقها، ولا تطيق عربدة عيني أخيها وهما على حافة القبر. ماذا سيفعل، في القبر أو جهنم، لسانُه إن أتقن لسانَ الأجنبية أو اقترب منه!؟ يضحك أخوها من فرط صراحتها وخوفها وتلقائيتها. يطمئنها بأن الطاقم الطبي يفعلون اللازم. تشوش عقلها، تنام نهاراً وتسهر ليلاً، تفكر بعائلتها، وتبكي أخاها، وتترفق بكلامها ضد البرتغالية أمام أخيها، صارت تتهرب من الغرفة وتبقى في الرواق تدعو الله أن يشفي أخاها، وتصلي، وتذهب إلى الأقصى، تُصلي مع النساء في قبة الصخرة، وتدعو وتصلي وتبكي. لا تعمل شيئاً لكن متعبة. سينتقلون إلى فندق جبل الزيتون حتى بداية العلاج الكيميائي. ثمة زائر عاد مريضاً يتكلم البرتغالية ترجم لهما حواراً بينهما.
– هي تقول لك انك أقوى إنسان رأته في حياتها، لا تيأس، أنت جميل..
وهو يقول لكِ ان ضحكتك تقويه، لماذا لا تتعلمين العربية!؟ حين يكون متعباً ومسطلاً من العلاج، يحبُّ ان يسمع صوتك حتى من بعيد..
تسألك: أنت من غزة، صحيح؟ هو يقول لك ان غزة مكان لجوئه ونشوئه، لكنه اصلاً من أرض البرتقال الحزين، يافا..
هي تقول لك انها تتمنى ان ترى يافا معك.. هي تسألكَ هل تحضر لكَ شيئاً أو تتمنى شيئاً.. هو يقول انه يريد سلامتك..
هي تسألك: اليس لك أمنية!؟ هو يقول لكِ انه يتمنى أن يكون مصوِّراً لكي يصوركِ أنتِ فقط، لو مُنِحَ حياةٌ ثانيةٌ..
قالت: fotografar? máquina fotográfica.. câmera
قال: .you Angel..
ضحكت سحابة وجهها وغسلت صفاره وملله.
في يوم تالٍ أحضرت له كاميرتها الشخصية كهدية، ضحك ورفضها وهو يقول (no,no,no,no). ووقفت أمامه كعارضة الأزياء تعرض نفسها في وقفات تُحلِّي بها جُرعته من هذه الدنيا المؤلمة، فأعاد لها كاميرتها في جيبها. قال شيئاً مثل: لديَّ كاميرة. قالت شيئاً مثل: أنا عارية، بلا ملابس، بلا ملابس، خذْ كاميرتي وانتهز الفرصة وصوِّرني. أنتظر اشراقة ابتسامتها تتسع، تتسع على صباحها، ثم صنع من أصابعه النحيلة كاميرة ارتجالية، عدَّل يده. والتقط صورته الأولى لضحكتها. ضحكت وضحك الجميع. التقط لها صورة أمامية بالطول لجسدها الشهي، صورة كلوز-آب لعينيها، رجع للوراء قليلاً وصوَّرها من السُّرة التي يشتهيها ولا يراها وحتى الصدر، قرقراتها تكرج في الغرفة والأروقة، يدور حولها ويصور بروفيلها وعينها شبه مغمضة وشلال خصلتها على عينيها.. يكفي. كان متعباً. جلس على سريره. لهث. ضحك المرضى عليه. والبرتقالة مبسوطة. تجلس بجانبه على سريره. يفتح راحته ويضغط زرًّاً لحمياً ويستعرض لها بحركة يده في الهواء ما التقطه لها من صورها، وهي تبتسم وتفتعل الدهشة، والدموع تزجِّج عينيها. كانت لحظات جميلة لها. كانت حياة له. طبعتْ ختم محبتها وأمنياتها القلبية على وجنته، ضمَّها إليه برفق كأنها ابنته، صافحته وهي تمسح دموعها وتعبر عن اعجابها بقوته. أهداها رسمتين من رسوماته: برتقالة وبيتاً مع عصافير وشجر. واعتذر عن اعطائها أيّاً من صورها الفوتوغراقية، وقال لها بالإشارة ان صورها مطبوعة في قلبه. وكذلك ضحكتها.أتراها فهمت ما قاله. وهي قالت أشياء كثيرة، أتراه فهم ما قالته.
بعد عملية استئصال ثانية، وكثير من الجلسات العلاجية، اختفت المتطوعة. لم يُعد بوسعها التكلم بلغة ضحكتها. يبدو انها خشيت أن يتعلق بها وتتعلق به، وهي التي تحلم بعلاقة حب جارفة؛ وإلا، فكيف تفسِّر هي نفسها حزنها الذي لا ميناءَ أخيراً ترسيه فيه؟ كثيراً ما سأل عنها. هي متطوعة، لا أكثر ولا أقل. ثم عادت الى المستشفى لتكتشف انه اختفى. الممرضات توقفن عن الضحك أمامها. لم تجرؤ أن تسأل عمَّا إذا كان قد مات. سألت: أينه؟ عانقها الجميع بعيونهم، ممرضين وإداريين. قالوا انه ليس في المستشفى أو فندق جبل الزيتون. لم يقولوا انه ذهب إلى غزة، أو خارج المستشفى. لم يقولوا انه بخير. بينما هي مغادرة، غلبها الحنين، وقفت عند باب غرفته، دخلتها. كان هناك مريض جديد ابتسم لها. أسقت الصمتَ جهشة بكائها. لم تقوَ على الوقوف، دخلت وجلستْ على السرير حيث جالسته آخر مرة، تحسَّست مكانه. طرزت جداره برسمتيه: برتقالة وعودها المورق، بيت وشجر وعصافير.
ثم أسرعت بالخروج، لن تشيِّع المكان بأية نظرات وداع. ستعتبر المستشفى أماً وهي الطفلة التي وُلدت لتوها فهي بلا ذاكرة. تجاهلت الموظفين والزوار وحتى الحرس. شعرت ان ثمة مصوراً محترفاً ينتظرها خارج بوابة المستشفى لن يلتقط لها صورة إلا بكاميرة أصابعه النحيلة ويحفظها في قلبه، حتى لو كانت لثوانٍ…
23-2-2013
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر