النظريات الأدبية لا تخرج عن ثلاث: الواقعية الطبيعية وتمثل «الوجود بالفعل» والمثالية الرومانسية و«تمثل الوجود بالقوة» وأخيرًا الواقعية الروحية والتي تري أن الأدب محاكاة للحياة كما هي عند أرسطو وكذلك «نقد الحياة» أي ترينا كيف نعيش
استقطبتني عناوين أعماله النقدية علي رفوف المكتبة، والعنوان يفكر للنص، رحت أتابعه منذ سنوات، أعماله العشرة – حتي الآن ، تشكل مشروعا جماليا نقديا فكريا يحتويه روح جمالي، يتدثر بمسحة فلسفية، في المنظر والمنظور، ووحدة المعرفة، ولغة الأعماق البعيدة*.
بحثت عن أصداء لأطروحات الرجل، وفوجئت بأنها لا تتكافأ مع القيمة العلمية والنقدية للمؤلف ومؤلفاته، وهو الحائز علي الدكتوراه في فلسفة الأدب تخصص شعر ونقد جامعة جلاسجو 1979 وعميد كلية الألسن سابقا، ورئيس جامعة مصر الدولية حاليا.. فتساءلت طويلا:
هل لأن الدكتور محمد شبل الكومي، يفكر ويكتب فقط، ولا شأن له بما يحدث بعد ذلك أو ينبغي، ؟.. ربما…
هل لأن عيون العدسات الإعلامية في طرفها (حول) مطبوعة كانت أم مرئية أم مسموعة؟.. قد يكون…
هل لأن (غواية التسطيح الثقافي)تجذب فتكذب، فيحترق معها جوهر الأشياء، لتظل الثرثرة تخترق الأجواء الملبدة بالكسل الفكري؟.. ممكن…
ألف هل.. وألف لماذا .. وألف كيف.. تصدم من يحاول أن يحيط علما بما يجري وراء الجدران التي تحول بين الغث والثمين، لابد أن هناك أدمغة تتجلي وراء اللحظة المكسوة بـ(الهاموش) في الحياة الفكرية والثقافية، حيث ضجيج ولا طحن، وادعاءت ولا برهان، وأوراق ولا فكر.
كثيرون قابلتهم في الحياة مثل الدكتور محمد شبل الكومي.. عليهم الإبداع فقط..لا تشغلهم الأضواء الباهرة التي غالبا ما ينطفئ بريقها بعد حين، فيمكت أصحابها في جب النسيان، وليبقي أصحاب الأفكار، فالبحر يعلو فوقه زبد ويستقر بأقصي قاعه الدرر.
تقرأ أعمال الرجل قراءة كاشفة، فتفيض عليك رؤي وأطروحات تستدعي عناء البحث والتأمل، والقراءة أيضا إبداع وجهد، وتحرضك علي إعادة النظر في الكثير من المسلمات، وتفضي بك إلي ممارسة ثقافة الأسئلة..
تقرأ كتاب(النظريات الأدبية.. دراسة في الأدب المصري المعاصر) فتكتشف أنها وسائل لتفسير طرائق معينة في الحياة، وتري بها (الكلية) في العمل الفني باعتباره ثمرة فكر إنساني عميق يمتد في الزمان والمكان، عبر الثقافات والمجالات الفكرية، بما يفضه المؤلف من اشتباك في فهم المصطلح، حين يحدده لتسستقيم الأمور.
وتقرأ (القضايا الأدبية.. من منظور فلسفي) فتجد المهاد الفلسفي للمدارس الأدبية والمذاهب الفكرية مقنرنا بالعقل الذي هو أعلي ما يملكه الإنسان حين يمارس التفكير في المفاهيم الكبري: الله والطبيعة والإنسان، بالنظرة الواقعية والمثالية.
وتقرأ (النقد الأدبي والفني.. دراسة في النظر المنظور) فيضع بين يديك شفرة الارتباط العضوي بين الفكر والجمال، وهو ارتباط يؤكد وحدة المعرفة الإنسانيةوقد استلهم هذا لتاب من حادث الاعتداء علي الكاتب الراحل نجيب محفوظ،من قبل شخص متطرف، ولم يقل د. شبل (متطرف ديني) فلا علاقة بين التطرف والدين كما يؤكد ويبرهن، وهو يستقطر مبادئ عامة في النقد الأدبي والفني.
وتقرأ (الواقعية الجديدة.. مدخل لدراسة ثقافة عصري الحداثة وما بعد الحداثة) فيتجلي أمامك منهج في التحليل الثقافي يعلن أن الواقعية الروحية دراسة في فلسفة الوجدان، وقد آثر تسمية كتابه بـ (الواقعية الجديدة) حتي لا يلقي مصطلح ( الواقعية الروحية) بتأويلات بعيدة عن السياق الحقيقي.
وقد حق للدكتور محمد عناني أن يشكل عتبة من عتبات النص الموازي للمشروع بالتقديم الغيري لمكتبة د.محمد شبل الكومي، فاستخرج جواهرها بعلامات فكرية ثقافية في التشكيل والدلالة.
و.. و.. مؤلفات وقراءات ومحاورات وجماليات وتطواف في أجواء وأرجاء الفكر والوجود والإبداع بقلب مفكر وناقد وصاحب مشروع معرفي يتماس ويتسامي ويتوهج في (اللحظة الآنــية) ويحلق سردا وتحقيقا وتدقيقا وصولا الي (اللحظة الآتـــية) وما بين الآني والآتي.. تتأنق ثقافة الأسئلة، والسؤال نصف الجواب، والجواب ينجب سؤالا.. والحوار الصحفي يستخرج جواهر العقل الأكاديمي بعيدا عن أسوار الحرم الجامعي.. العبارة دقيقة، والجملة بناؤها محكم، فلا تذوب بين محكم الفكر ومتشابهه.. فالسؤال بيـّن والجواب أيضا.
> أثناء قراءتي لمشروعك الفكري استدعي من الذاكرة موقف روبنسون كروزو منعزلا في جزيرته، وكان زكي نجيب محمود كذلك، فهل تؤثر هذه (العزلة) و(الاختيارية) مع أنك تجلس علي كرسي رئاسة جامعة كبري مثل جامعة مصر الدولية؟ ولا تسعي لتويق هذا المشروع في الوقت الذي نجد فيه من يكتب مقالة أو دراسة يروج لها بشتي الطرق وبشق اللأففس ليحمد بما ليس فيه؟
- لدينا أيضًا الأستاذ توفيق الحكيم راهب الفكر والفن، في الحقيقة كل من المبدع والناقد/ المفكر في حاجة للعزلة، فالبعد أو الضلع الثالث من مثلث الخبرة الإبداعية/ الجمالية هو »التأمل الانعكاسي« والذي يقابله في مثلث العملية النقدية »لتأويل« مع التأمل والتأويل لابد له من درجة ما من العزلة. من ناحية أخري، المفكر هو من يتأمل الأشياء بالعقل للوصول إلي معرفة، والتأمل يتطلب الوحدة أو العزلة بالطبع، كما إن العزلة تحمي استقلالية المفكر أيضًا. فالمثل الأعلي للمثقف/ المفكر هو أن يمثل التحرر والتنوير ولكن دون أن يصبح هذان مطلقين من المجردات، فهو ينوب عن الفقراء والمحرومين ومن لا يمثلهم أحد ولا يسمع أصواتهم أحد ومن حرموا من أي سلطة.
أطلق توفيق الحكيم علي عزلة الأديب أو الفنان عبارة »البرج العاجي« وصور نفسه نزيلا لهذا البرج، يرتدي فيه عباءته وقلنسوته ويشبه الراهب في سمته وهيئته، ويعيش حياة هادئة بين الكتب والأوراق، كما وصف نفسه في الفصل الأول من روايته «الرباط المقدس»، ولكنه لم يقصد طبعًا العزلة عن الحياة والانفصال عن المجتمع كما فهم البعض خطأ ولكنه قصد عزل رجل الفكر عن السياسة الحزبية، حتي لا يستخدم آلة مسخرة في أيدي رجالها، فيقصد بذلك حرية النظر إلي الأشياء. لهذا فقد كان في معظم قصصه ومسرحياته مشغولًا دائما بمشكلتين رئيسيتين هما: موقف الإنسان في المجتمع وموقف الإنسان ازاء مصيره في الكون. وتوفيق الحكيم يمثل فلسفة الواقعية الروحية.
فالغرض من النشاط الفكري هو نصر قضية الحرية والمعرفة الإنسانية، واعتقد أن هذه المقولة لاتزال سارية علي الرغم من التهمة التي سمعناها مرارًا والتي تزعم أن «القصص الكبري للتحرر والتنور» لم تعد متداولة علي الإطلاق في عصر ما بعد الحداثة، والعبارة المقتطعة هي التي استعملها الفيلسوف الفرنسي ليوتار في الإشارة إلي الطموحات البطولية المرتبطة بالعصر »الحديث« السابق. وهو يري أن مثقفي ما بعد الحداثة اليوم يعلون من شأن الكفاءة لا القيم العامة العالمية عن الحقيقة والحرية، وأري أن ليوتار قد جانبه الصواب فالواقع يقول إن الحكومات لاتزال تظلم الشعوب بل وتزج بها في حروب غير مجدية، فلو صرفت الأموال التي تكلفتها الحرب في مكافحة الإرهاب علي رفع المستوي الاقتصادي ورفع درجة الوعي عن طريق الثقافة والتعليم لكان أجدي للشعب الأفغاني، ولكسب المجتمع الدولي دولة ذات مذاق ثقافي خاص. بالإضافة إلي ذلك فإن الانتهاكات الجسيمة للعدالة مازالت ترتكب، وغياب العدالة الاجتماعية وكبت الحريات ظواهر لاتزال موجودة وقد جدت أشياء كثيرة علي المفكر أن يواجهها، فعليه أن يشتبك في نزاع مدي حياته مع من يدعون الوصاية علي الرؤية المقدسة أو النص المقدس، أو من يدعون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة.
الفلاسفة والنقاد
> مؤلفاتك تشكل مشروعا نقديا فكريا، وهناك مشروعات أخري، والسؤال: لماذا لا توجد لدينا نظرية أدبية أو نقدية خاصة بنا؟ تمامًا مثلما نعاني من عدم وجود فلسفة عربية أو فيلسوف عربي أو مسلم، منذ 800 عام وبالتحديد بعد ابن رشد، هل هذا صحيح؟
- أجيب أولا علي سؤال لماذا نعاني من عدم وجود فلسفة عربية أو فيلسوف عربي أو مسلم، منذ 800 عام وبالتحديد بعد ابن رشد؟ أولا لأنه في هذا التاريخ بالضبط قفل باب الاجتهاد وثانيا أحب أن أوضح أن آخر النظريات الكبري الفلسفية كانت مع هيجل 1830 بعد ذلك لا توجد نظرية شاملة فالماركسية خرجت من عباءة هيجل والوجودية كما يقول سارتر نفسه هي مذهب في فلسفة ماركس. وفلسفة هيجل لها مصدران المصدر الأول يوناني من طريق هيراقليطس والمصدر الثاني عربي والذي أخذ منه هيجل فكرة «مماثلة الوجود» analogiaentis ومؤداها أن كل موجود إنما ينعكس في كل موجود، بما يحقق التماثل والتناظر بين جميع الموجودات وجميع مستويات الوجود، وقد أخذ هيجل هذه الفكرة في فلسفته، ولعل من المفيد لنا أن نورد هنا ما ذكره بلوخ بهذا الصدد كاملاً لما له من أهمية بالغة، رغم إيجازه الشديد، فقد كتب يقول: »إن هيجل ليعد وارثا لتراث يضرب جذوره في المقصد الفلسفي الرئيسي لذلك الجوهر الواحد الذي ينتشر في كل شيء». ابتدأ هذا التراث بصورة المرآة وهي صورة سحرية تمامًا وشرقية تمامًا. فالكندي الفيلسوف العربي، كان أول من نظر إلي العالم بوصفه جماعا من عدة معارض للمرايا، تعكس كل شيء ونفس الشيء« وكذلك لا ننسي أثر ابن عربي في هيجل أيضًا. القضية أن الشرق فلاسفته في آن واحد شعراء وسلوكيون وساسة. وفلسفتنا هي المزج بين الدين والفلسفة أو ما يطلق عليه Theosophy. وهذا الخط يمتد من أفلوطين المصري (270م) حتي الآن. المشكلة أن أساتذة الفلسفة في مصر قاموا بالعرض والتحليل وتوقفوا عن التنظير، وإذا كانت الفلسفة هي منظومة من القيم (الحق والخير والجمال) فإننا لدينا الكثير من القيم لكنها في حاجة فقط إلي التنظير. أي إن تلك القيم موجودة في الأدب والفن وسلوك المصريين فإذا كانت اليونان أعطت الفلسفة والمنطق للحضارة، والرومان أضافوا للحضارة الإنسانية التكنولوجيا فالمصريون أعطوا للحضارة الفن والدين.
إننا نظلم أنفسنا عندما نقول إننا ليس لدينا نظرية أدبية. فألف ليلة وليلة كتبها شيخ مصري
في القرن الحادي عشر ونحن نعرف أثر ألف ليلة وليلة علي الأدب العالمي وكذلك أثر حي بن يقظان، فما هي نظرية ألف ليلة وليلة؟ هي نظرية أو رؤية تجمع بين الروح والأخلاق والواقع وهذه الرؤية هي ما أطلق عليه الواقعية الروحية، فالواقعية الروحية تنبع من تراثنا، وعمومًا النظريات الأدبية لا تخرج عن ثلاث: الواقعية الطبيعية وتمثل «الوجود بالفعل» والمثالية الرومانسية و«تمثل الوجود بالقوة» وأخيرًا الواقعية الروحية والتي تري أن الأدب محاكاة للحياة كما هي عند أرسطو وكذلك «نقد الحياة» أي ترينا كيف نعيش.
أما القول بعدم وجود نظرية نقدية خاصة بنا، فإنه يذكرني في الحقيقة بمن يقول لا توجد فلسفة، ولكن يوجد فلاسفة، وهذا ينطبق علي النقد فلا يوجد نقد ولكن يوجد نقاد. والنقد لا يستمد هويته من هوية النقاد ولكن من الأداة التي تستخدم في النقد. وقد رأينا في النقد الحديث، أي بعد تجاوز مرحلة النقد الانطباعي والنقد المحاكي الذي كان يعتمد علي أرسطو، كيف أخذ النقد الحديث باستخدام ما استحدثته العلوم الأخري كأداة للوصف والتفسير، وأصبح النقد يستمد هويته من العلم الذي يأخذ به الناقد كأداة، فإذا أخذ علم النفس كأداة يسمي النقد النفسي وإذا كان هذا العلم هو علم الاجتماع أو التاريخ سمي النقد بالنقد الاجتماعي أو التاريخي، ويدخل تحت هذا الإطار النقد الماركسي. وهذا المنهج أي: المنهج الثقافي، ليس بالجديد، ففي القرن الرابع عشر قدم الناقد المصري أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفي سنة 1352 م) في كتابه «عروس الإخراج في شرح تلخيص المفتاح» رؤيته لهذا المنهج ونراه في فواتحه يشيد بالنقاد المصريين، وما طبعوا عليه من الذوق السليم الذي أغناهم عن التعمق في مباحث السكاكي البلاغية وشراحه الإيرانيين لاهتمامهم جميعًا بالعلوم العقلية والفلسفية، ويصور منهجه في النقد قائلا: «اعلم أنني مزجت قواعد هذا العلم (علم البلاغة) بقواعد الأصول والعربية.. وضمنته شيئًا من القواعد المنطقية والمعاقد الكلامية (الفلسفية) والحكمة والرياضية أو الطبيعية» أي أنه يصل في شرحه بين البلاغة وعلوم المنطق والكلام والفلسفة الطبيعية والرياضية. ونري الأمر نفسه عند ابن عربي الذي وصل بين الميتافيزيقا والأدب، وتمثل فكرة الموازاة بين الوجود والإنسان عنده محورًا من المحاور المهمة التي اتكأ ابن عربي عليها في شرحه لأبيات ديوانه »ترجمان الأشواق«. وأنا أشبه العلاقة بين النظرية الأدبية والمذاهب النقدية بالعلاقة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا، أو بين التأمل للوجود وطبيعته من ناحية وتحليل عناصر هذا الوجود وبسط دقائقه العملية من ناحية أخري.
المشهد النقدي المعاصر قد تجاوز الرؤية الإقليمية، وليس أدل علي ذلك من الإسهام العربي المعاصر في المشهد النقدي العالمي ممثلا في كتابات إدوارد سعيد الفلسطيني وإيهاب حسن المصري وغيرهما من الأكاديميين المصريين في جامعات العالم.
أما القول بأنه ليس لدينا مدرسة نقدية، فإنني أقول بوجود مدرسة مصرية للنقد، فأنا أري أن النقد هو عملية وصف وتفسير وتأويل، ولدينا في النقد مدرسة الشيخ حسين المرصفي في القرن التاسع عشر ولدينا في التفسير الناقد المصري أحمد السبكي في القرن الرابع عشر، ولدينا في التأويل منهج ابن عربي، الثلاثة يمثلون مدرسة مصرية عربية، فالسبكي أول من أدخل النقد الثقافي عندما وصل في نقده للشعر بين البلاغة وعلوم المنطق والكلام والفلسفة الطبيعية والرياضية، والمرصفي يمثل مدرسة النقد الحديث التي ظهرت بعده في أمريكا وأوروبا ونحن نطلق علي هذا المنهج اسم النقد البلاغي، أما التأويل فهذا أحدث ما أخرجه الفكر الأوربي حاليًا، ولكنه قديم قدم ـيلون وأفلوطين المصريين، أي أن لدينا مدرسة ولكنها مشتتة، وقد قمت بإعادة هيكلتها في كتابي: «المذاهب النقدية الحديثة مدخل فلسفي».
الأفول الفلسفي
> شهد القرن العشرون أربعة معسكرات فكرية انتظمت حركته، الماركسية، والتحليلية البريطانية، والوجودية الفرنسية، والبرجماتية الأمريكية، هل لاتزال أصداء هذه المعسكرات فعالة؟ وفي هذا السياق يقول زكي نجيب محمود إن الإشكالية أن هذه المذاهب تنكر وجود الحياة الأخري، وهنا تأتي الإشكالية معي كإنسان مسلم لي معتقدي في حياة أخري، فأين فلسفتي؟
- في الواقع، لقد شاهد العالم في فترة عامي 1968/1980 تحولا جديدًا في الفكر العالمي يتسم خاصة بشيء من الأفول النسبي لفلسفات هيجل وماركس والفلسفة الوجودية. فهذه الفلسفات رغم صحة كثير من حقائقها، ارتكبت هذا الخطأ الجذري بأنها أرادت أن تؤسس حقيقة العلاقات الإنسانية والوعي علي هدفية الصدام. ويعتبر كتاب صدام الحضارات التجسيد الحقيقي لتلك الفلسفات. بل إن تلك الفلسفات لم تؤدِّ فقط إلي استبعاد الآخر بل استعباد الآخر والاستعلاء عليه، في علاقة شبهها هيجل بالتشبيه الذائع الصيت علاقة السيد بالعبد. وذلك لأن تلك الفلسفات تأسست علي الانفصال بين الذات والموضوع. إنها فلسفات قامت علي تأكيد التعارض بين عالم الروح وعالم المحسوس. لهذا تحاول الواقعية الروحية تصحيح هذا الوضع أي رد الاعتبار للآخر وعدم الفصل بين الذات والموضوع وكذلك عالم الروح وعالم المحسوس. ونحن نعرف أن فلسفة ماركس تقوم علي صراع الطبقات، والتحليلية البريطانية تشييء الآخر وتقوم بتحليله كشيء وتخضعه للتحليل الاجتماعي والنفسي علي أساس غريزتي الجنس والجوع، ونحن نري مع سارتر هذا التصور للآخر بوصفه خصمًا للأنا، وهذا الموقف يستخدمه سارتر أساسًا لتفسير العلاقة المتبادلة بين الموجودات الإنسانية وهي علاقات جسدية في المقام الأول. وتري الوجودية أن الموقف الممكن والوحيد الذي يتبقي بعد ذلك نحو الآخر، والذي يهدف إلي تحطيمه، هو موقف الكراهية: «الآخر هو الجحيم» أما البرجماتية الأمريكية، فالآخر يكون بمقدار المنفعة التي يجلبها.
وأما بالنسبة لـ»نيتشه«؛ فقد كان التصور أشد وأقسي: ألم يبشِّر بحلول النزعة العدمية؟ ألم يمجد «إرادة القوة»؟ ألم يرفض المساواة بين البشر، ونادي بالدعوة للصفوة أو النخبة؟ ألم يؤكد عدم وجود حقائق، إذ ليست هناك سوي وجهات نظر؟
لكن لوحظ في منتصف السبعينيات من القرن العشرين قيام حركة جدلية حول القيم، مثل مدي توافق قيم العدالة مع قيم المساواة. وقد لوحظ أيضًا تغير النظرة إلي الآخر، والتي تظهر في دعاوي العدالة والمواطنة والمشاركة وانتشار منظمات المجتمع المدني مما يشكل واقعًا جديدًا اسميته الواقعية الروحية Spiritual Realism وهي نظرة ترمي إلي توسيع وتأسيس الوجود علي أسس أخلاقية روحية أي: تؤكد وتقيم صلة بين الحياة الإنسانية وحقيقة تؤسس هذه الحياة في القيمة وعليها. والتركيز علي حقوق الآخر. والحركة ليست خاصة بمصر وحدها ولكن في الغرب كذلك. هذه الفلسفة تهتم بفكرة الوعي، فبدلا من أن يكون الوعي سجنا للفرد داخل ذاته أصبح الوعي انفتاحًا علي العالم الخارجي وتعايشًا معه، هذه الفلسفة ترمي إلي المصالحة مع وجود الآخر: تلك كانت المؤشرات لظهور تحول حقيقي في عالم الفلسفة. لم يعد الآخرون هم الجحيم كما هم عند سارتر أو العبد عند هيجل بل الآخر هو انعكاس للأنا، الآخر هو مرآة الذات. الإنسان هو مرآة أخيه. بل تنتشر الآن في فرنسا بالذات فلسفة تري أن الآخر هو وجه الله،
وتبدو هذه الفلسفة متأثرة بترجمة جوته للآية الكريمة رقم 115بسورة البقرة
»ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم« .
Gottes ist der Orient
Gottes ist der Okzident
Nord-und Südliches Gelände
Ruht im Frieden seiner Hände
لذا فإن لفيناس، الفيلسوف الفرنسي المعاصر، يري أن وجه الآخر يولد الالتزام، لأنه يحمل إمكانية التعبير الذي يمكن أن يقوله الآخر، بوصفه مسئوليتي. إن وجه الآخر يلزم الذات (من الداخل Interiority) بأن تنفتح علي الإمكانيات التي لا تعرفها ولا يمكن أن تعرفها: «أن الوجه يكشف الخطاب الأصلي الذي تكون كلمته الأولي هي الالتزام Obligation، الذي لا يسمح أي »داخل« بتجنبه (لــيناس 1969).
أما أين فلسفتنا فهي منبثة في الأدب والفن المصري وتحتاج فقط إلي بذل الجهد في التنظير و«الواقعية الروحية» هي إسهام متواضع من جانبي في هذا الجهد.
> قال النقاد والمنظرون إن الدكتور شبل أوسع في كتابه «النقد السينمائي من منظور أدبي» من نطاق النقد السينمائي فلم يعد مقصورا علي نقد فنون الصنعة أو التكنيك بل أصبح يشمل مناهج مستقاة من التراث النقدي العالمي كما أنك أوسعت من نطاق النظرة إلي السينما بحيث تربطها بغيرها من الفنون ربطا موضوعيا من منظور النقد الأدبي، وهذا الربط هو ثمرة نضج في الفكر وفي التعبير، هل تنسحب هذه الرؤية في مشروعكم الأدبي علي الفنون الأخري مثل المسرح والفن التشكيلي والدراما، وهل هذه رؤية أكثر اتساعًا لوحدة الفنون؟
- في الحقيقة كتاب »النقد السينمائي من منظور أدبي«كنت قد أعددته لتدريسه لطلبة قسم الإعلام، وقد وجدت أن له صدي بين دارسي الفن السينمائي، وقدمت الناقدة د. عزة هيكل برنامجًا عنه في القناة الثقافية بالتليفزيون المصري، كما جاء للجامعة التي أعمل بها بريد إلكتروني من المكتبة القومية الفرنسية تسأل ما إذا كان مؤلف الكتاب هو نفسه رئيس الجامعة؟ يبدو أنهم كانوا يقومون بتوثيق بيانات الكتاب بفهارس المكتبة القومية الفرنسية، ولكن وجدت أن بعض القراء رأوا في الكتاب أنه يخص السينما فقط، فأصدرت كتابًا آخر لتوسيع هذا المفهوم النقدي ليشمل باقي الفنون، والكتاب بعنوان «مبادئ النقد الأدبي والفني» وقد حظي هذا الكتاب بعده مراجعات في المجلات والجرائد.
وتنسحب هذه الرؤية علي الفنون الأخري مثل الدراما والمسرح والفن التشكيلي والأدبي لأن أساس هذه الفنون هو الخيال، والخيال له تعريفات كثيرة ولكن أنا اختار المقولة التي تقول إن «الخيال هو الحرية في أن نري الشيء علي غير ما هو عليه» لهذا ارتبط الأدب والفن بالحرية والوجود/ الحقيقة.
* عن أخبار الأدب – مجدي العفيفي
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني