ان فرح أنطون – أول من عرف بين رواد الاستنارة وأكثرهم مقاربةً لمفهوم التسامح – لا يزال مجهولاً في ثقافتنا العربية بالتأسيس النظري لهذا المفهوم، بل حاول إشاعته من خلال رموز الفن الأدبي وتمثيلات القص الروائي. ولذلك كانت روايته “أورشليم الجديدة” أو “فتح العرب لبيت المقدس”تمثيلاً كنائياً لمفهوم التسامح وإعادة قراءة لأحداث التاريخ من خلاله، خصوصاً في المدارات الدينية. لم تفترق— رواية “الدين والعلم والمال–عن” أورشليم الجديدة”— في التمثيل لأفكار التسامح والبحث عن رموز إبداعية لها. وفرح أنطون الذي هاجر إلى مدينة الإسكندرية كما فعل أمثاله من مثقفي الشام الذين تركوه فراراً من الاضطهاد الديني، بحثاً عن مناخ أكثر رحابة وتسامحاً،.
و فرح أنطون اختار كلمة “التساهل” مقابلاً للأصل الإنكليزي الذي قرأ عنه من خلال أهم فلاسفته في مرحلتيه: الدينية والمدنية. ويُعِّرف الرجل— المفهوم الجديد بأنه— السياسة التي يتجمل بها المرء في التعامل مع ما لا يوافق عليه،— ويتقبل حضوره بوصفه- أولاً- حقاً من حقوق الاختلاف-وبوصفه – ثانياً – ركناً أساسياً من– ممارسة الحرية– التي ينبني عليها معنى- المواطنة- في الدولة المدنية الحديثة. ويشير أنطون إلى المعنى الديني للمفهوم، مؤكداً أنه يشير إلى– التساهل الديني الذي يعني أن-الإنسان لا ينبغي أن يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني–، فهذا المعتقد علاقة خاصة بين الخالق والمخلوق. وإذا كان –الله— يشرق بشمسه على الأشرار والأخيار، المتدينين وغير المتدينين،– فيجب على الإنسان أن يتشبه به،– ولا يضيق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده، فليس على الإنسان أن يهتم- بدين أخيه أياً كان- لأنه يوجد من حيث هو إنسان فحسب، بعيداً عن صفة الدين التي تقع في دائرة اختيار الإنسان الذي ليس من حق أحد الحجر على حريته.
ولا يمكن— للتساهل أو التسامح —هذا، في نظر أنطوان، أن يوجد بهذا المعنى إلا في دولة تفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. وهي دولة تقترن- بأربعة مبادئ ملازمة لمفهوم –التسامح: أولها- أن التسامح لا يوجد، أو يتأسس من حيث هو ممارسة معرفية واجتماعية ودينية حرة، إلا في الدولة المدنية التي تقوم على احترام الأديان في تنوعها، وعدم التدخل فيها. وثانيها— أن السلطة الدينية لا تقدر على التساهل بحكم طبيعتها البشرية التي لا يمكن فصلها عن الأهواء والمصالح، ولأنها تنبني على التعصب، معتقدة اعتقاداً جازماً أنها على الحق وغيرها على الباطل، الأمر الذي ينتهي إلى التمييز بين المواطنين. ويتصل المبدأ— الثالث– بالحرية من حيث هو حق طبيعي للإنسان يتجلّى في أن يعتقد أو لا يعتقد ما يشاء، وأن اعتقاده أو عدم اعتقاده الديني لا علاقة له به من حيث هو مواطن. ويقترن المبدأ الرابع —بأثر التسامح في تقدم المعرفة، خصوصاً من حيث هو تقبل الاجتهادات المخالفة، واحترام لكل محاولة للخروج على المتعارف عليه بما يؤسس لقيم الاختلاف والتنوع المعرفي الخلاّق.
ولد فرح أنطون في ميناء طرابلس عام 1874 وفي الثانية عشرة من عمره، دخل معهد كفتين في الكورة، وكان معهداً له شهرته، لما كانت عليه برامجه الواسعة من الدقة في التطبيق، ولما لأساتذته من ذيوع الصيت في العلم والتعليم، ولترعته الوطنية والعلمانية معاً. وقد مكث فرح في هذا المعهد أربع سنوات غرف خلالها من العلم والمعرفة الشيء الكثير، ولا سيما من اللغة الفرنسية وآدابها. ويبدو من شهادات بعض أساتذته وزملائه أنه كان ذكياً، مدمناً على القراءة، واثقاً من نفسه، يمشي إلى المنبر بقدم ورأس مرفوع.
وبعد تخرجه من معهد كفتين في العام 1890 وهو ابن ست عشرة سنة عكف على متابعة التحصيل في بيته عبر قراءات فرنسية غزيرة، بحيث أتيح له أن يطلع على الفكر الغربي ويتعرف مباشرة على الآراء السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية لأهم المفكرين، أمثال روسو في “العقد الاجتماعي”، وكارل ماركس في “البيان الشيوعي” و “رأس المال”، وأرنست رينان في “تاريخ السيد المسيح” وجول سيمون في “حل المشاكل العمالية”، وفريدريك نيتشه في “مفهوم الرجل المتفوق”، وليون تولستوي في رائعته “الحرب والسلام”.. وقد كان لما اختزنه عقله من هذه المطالعات أثر بارز في ما كتبه في ما بعد في مجلته التي أنشأها (الجامعة).
ولكن المحيط ضاق به، على الرغم من نشاطه الفكري الذي تميز به، فسافر إلى مصر، وحط الرحال في الإسكندرية باحثاً عن مكان فكري له في أرض النيل على غرار من سبقه، ولحق به من الكتاب اللبنانيين والسوريين. وانصرف فرح في الإسكندرية إلى الكتابة في صحفها ومجلاتها، وما لبث أن أصدر مجلته (الجامعة العثمانية) في آذار 1899 وكان هدفه المعلن “خدمة الوطن العثماني والمصري والجامعة العثمانية بنوع مخصوص”.
وصادفت المجلة رواجاً كبيراً في أوساط القراء، في مصر وسورية ولبنان وفلسطين والعراق والهند والأمريكيتين، وبعض دول أوروبا وروسيا، وزاحمت “المقتطف” و”الهلال” في الانتشار، بسبب طبيعة موضوعاتها وجدتها ولغة التعبير عنها ببساطة ويسر.
كما أنشأ في العام 1903 مجلة (السيدات والبنات) وأوكل أمر إدارتها إلى شقيقته الأديبة روز، وهي مجلة كانت تعنى— بالجانب النسائي وأهمية تعليم المرأة وتحريرها وتوجيهها بما ينسجم مع دورها البيتي والاجتماعي والإنساني. وعلى أثر مناظرة فكرية بينه وبين الإمام محمد عبده حول مقالة كتبها فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، ضاقت السبل أمام “الجامعة” بسبب إرجاعها إلى إدارتها “مع الشكر”، الأمر الذي أدى إلى إفلاسها. غير أن فرح أنطون ما لبث أن تلقى رسالة من ابن عمه الياس التاجر في نيويورك يدعوه إلى أميركا “لإنشاء مركز صحفي واسع النطاق لبث المبادئ الحرة” فلبى فرح الدعوة وسافر في العام 1905.
وفي نيويورك التي أستقبل فيها فرح أنطون بكل حفاوة، أصدر “الجامعة” مجلة اجتماعية علمية تهذيبية تاريخية في أول تموز 1906، واستحضر لها مطبعة عربية خاصة لإصدارها، ولطبع الكتب الأدبية والمطبوعات التجارية، ولاقت المجلة رواجاً كبيراً، ثم ما لبث أن أعلن، بعد العدد التاسع، عن إصدار الجامعة اليومية، بشراكة أحد التجار السوريين في نيويورك (رشيد سمعان) وأسند رئاسة تحريرها إلى نقولا الحداد، ولحقته شقيقته روز لتساعده. لكن الجامعة اليومية فقدت قدرتها على الاستمرار بسبب انسحاب الشريك الآخر منها (رشيد سمعان) وأعلن فرح عن إصدارها أسبوعية بمساعدة الثري “النيل” نعمة تادرس ولكن الأمور تعثرت فتوقفت الجامعة الأم عن الصدور بالعدد العاشر من سنتها السادسة 1908.
وبعد أربع سنوات قضاها فرح في أميركا، يعود إلى مصر بعد إعلان الدستور العثماني، مستبشراً بأجواء الحرية التي وعد الناس بها أنفسهم، وأعاد إصدار الجامعة في غرة كانون الأول 1909، ولكن لم يصدر منها سوى عددين يتيمين لتتوقف بعدهما نهائياً عن الصدور. على أن فرح لم يتوقف عن الكتابة في الجرائد المصرية، ثم مال إلى المسرح الذي تألق آنذاك بممثلين كبار، أمثال الشيخ سلامة حجازي واسكندر فرح وغيرهما، وقدم أعمالاً مسرحية تراوحت طبيعتها بين الترجمة والتأليف والاقتباس .
مجلة الجامعة
أنشأها فرح أنطون في الاسكندرية، وسمّاها بداية (الجامعة العثمانية) مجلة سياسية أدبية علمية تهذيبية. ظهر العدد الأول في 15 مارس آذار 1899 و جعل شعارها على الصفحة الأولى (الله والوطن- الاتحاد والارتقاء) وتحت كلمة الجامعة العثمانية والشعار المشار إليه. اثبت أنطون كلمتين: الأولى لجان جاك روسو، والثانية لجول سيمون. كلمة روسو تدور حول أهمية— تعليم المرأة: —“يكون الرجال كما يريد النساء، فإذا أردتم أن يكونوا عظماء وفضلاء فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة.
أما كلمة جول سيمون فتدور على وظيفة المدرسة: “ليست وظيفة المدرسة مقصورة على تعليم العلوم فقط، فإن بث الفضيلة والإقدام من أخص وظائف المدرسة”.
وجاء في المقدمة: “.. وسيكون أهم أغراض هذه المجلة خدمة الوطن العثماني والمصري والجامعة العثمانية بنوع مخصوص فتبحث في ما يجمع لا في ما يفرق، وفي ما يرتق لا في ما يفتق. واضعةً أمرها الوطني فوق كل أمر سواه، معتمدة في مباحثها على الفائدة قبل اللذة، مجتنبة رذيلة الطعن ورذيلة التملق، وهما الداءان الفاشيان اليوم من سوء حظ الشرق في كثير من الجرائد الشرقية..”.
ويبدو من خلال خطة المجلة كما عبّرت عنها المقدمة أنها ستتناول بالإضافة إلى المباحث الأدبية والسياسية والتاريخية، باباً للتربية، للبحث في إصلاح طرق التعليم والتربية في مدارس الشرق، وباباً آخر— للمرأة والعائلة —مفتوحاً للكتابات الأديبات، للبحث في تحسين حالة المرأة والعائلة في بلاد الشرق “ليكون النسل الناشئ خلقاً جديداً فيه ما يجب من فضائل الغد، وليس فيه شيء من رذائل الأمس. فإن هذا دون سواه طريق كل إصلاح وصلاح كل هيئة اجتماعية”.
وبعد المقدمة. أورد أنطون (بيان أبواب الجامعة العثمانية) فإذا هي:
– باب المقالات: يتضمن هذا الباب مقالات مختلفة في السياسة والأدب والتاريخ بعضها مقتطف من أبحاث لأشهر كتاب الإفرنج، وبعضها مكتوب بأقلام نخبة من أشهر كتاب العصر.
– التربية والتعليم: يشتمل هذا الباب على أبحاث في طرق التربية العائلية والتربية المدرسية وفي إصلاحهما وفي المدارس ووظيفتها والمعلمين وواجباتهم وكتب التعليم.
– المرأة والعائلة: فتحنا هذا الباب لأديبات الشرق ليبحثن فيه معنا في ما يكون فيه صلاح حال المرأة الشرقية وبنيناه على المبدأ الآتي: “أساس الهيئة الاجتماعية الأمة، وأساس الأمة العائلة، وأساس العائلة الأم أي المرأة. ففي إصلاح شأن المرأة إصلاح الهيئة الاجتماعية كلها، تعليم البنات، تدبير المنزل، استقلال المرأة.
– باب الشعر والإنشاء: يشتمل على قصائد وشذرات بمواضيع مختلفة لنوابغ الشعراء والكتاب المتأخرين والمتقدمين.
– الأخبار الداخلية: يتضمن خلاصة الأخبار العثمانية والمصرية المحلية والسياسية والإدارية.
– الأخبار الخارجية: يشتمل على خلاصة أهم الأخبار السياسية الخارجية.
– باب الروايات: رواية الحب حتى الموت. وهي رواية أدبية اجتماعية غرامية حدثت حوادثها في أميركا ومصر والقدس الشريف وطرابلس الشام ولبنان. تأليف منشئ هذه المجلة.
ويبدو جلياً من خطة المجلة أنها تهدف إلى- الإصلاح والتثقيف وجمع كلمة العثمانيين– تحت راية واحدة، وتفرد– للمرأة —حيزاً كبيراً من حيث الاهتمام بها وإصلاح أحوالها وتعليمها وإفساح المجال للكاتبات أن يعبرن عن وجهة نظرهن في كيفية هذا الإصلاح. وقد اصدر منها سبع مجلدات.
وكانت نزعة المجلة فلسفية اجتماعية، “وقد اشتدت فيه النزعة إلى الإصلاح الفكري والاجتماعي، ودفعه ذلك إلى أن ينقل إلى العربية كثيراً من الآراء الفلسفية الحرة دون مبالاة بما قد يحدثه من “رد فعل” في الشرق– لذلك اصطدم فرح أنطون بقادة التفكير الروحي وفي طليعتهم الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا. ولا سيما بعد نشره كتابه (فلسفة ابن رشد) وتعليقه عليه. كما اصطدم باللاهوتيين بعد تلخيصه حياة المسيح لرينان. فقد درس حياة المسيح كإنسان ولم ينظر إلا بعين المؤرخ الذي يطلب الحقيقة بعقله لا بما يرويه الناس.
هذا وظلت الجامعة تصدر في الإسكندرية حتى العام 1905. ثم انتقل بها إلى نيويورك، ويقول بهذا الصدد: “إن الذي أقنعنا بنقل الجامعة من مصر إلى نيويورك أمران: الأول: “الرغبة في مشاهدة أميركا والمعيشة حيناً من الدهر وسط مدنيتها العظيمة. والثاني: الرغبة في ضم عمل تجاري في أميركا إلى عمل صحافي”[3]. ولكن مشروعه لم ينجح، فعاد بعد أربع سنوات (1909) عقب إعلان الدستور العثماني. وفي هذه المرحلة اندفع يكتب مقالات مناصرة للحركة الوطنية في مصر، ويقدم للمسرح المصري ترجمةً وتأليفاً روايات تمثيلية. وقد بلغ عدد ما قدمه من ذلك 14 رواية.
رواياته
ألف فرح أنطون أربع روايات فلسفية اجتماعية هي:
1- أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس.
2- الوحش الوحش الوحش أو سياحة في أرز لبنان، وتدور حول رحلة قام بها كليم وسليم في لبنان من قرية قلحات التي تقع فوق مدينة طرابلس الشام إلى الحدث فالأرز، وتعالج مشكلات اجتماعية وخلقية.
3- المدن الثلاث أو “الدين والعلم والمال” وهي أقرب إلى “البحث الفلسفي الاجتماعي في خلائق المال والعلم والدين” وهو ما يسمونه في أوروبا بالمسألة الاجتماعية. وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية لأن مدنيتهم متوقفة عليها.
4- مريم قبل التوبة أو العالم الجديد. وهي رواية اجتماعية غرامية تاريخية مات فرح ولم يتمها.
5- الحب حتى الموت. وهي رواية أدبية اجتماعية غرامية جرت حوادثها في أميركا ومصر والقدس الشريف وطرابلس الشام ولبنان. ونشرها فرح متسلسلة في السنة الأولى من الجامعة العثمانية.
كما عرّب الروايات التالية:
1- الكوخ الهندي لبرناردين: موضوعه البحث عن الحقيقة وتقرير ماهيتها والطريق إليها. ونشرت في الجامعة غير تامة.
2- بولس وفرجيني. لبرناردين.
3- أتالا لشاتوبريان، وهي “أجمل وأشهر رواية فرنسوية بشأن أميركا” تصف البلاد الأميركية وطبيعتها الجميلة وقبائل هنودها بأسلوب رائق وغزل رقيق وغرام بالغ منتهى الشغف.
4- ثلاث روايات عن الثورة الفرنسية لديماس: وهي نهضة الأسد- وثبة الأسد- فريسة الأسد. وهي: “تفصيل حوادث الثورة الفرنسية الكبرى التي تحسب أعظم عمل سياسي واجتماعي عمل في هذا القرن يتخللها ذكر أعظم الرجال الذين عاصروها وما صنعوه فيها من الكبائر والصغائر والحسنات والسيئات مع وصف الحالة الاجتماعية قبلها وذكر أسبابها وسيرها وما كان من نتائجها”.
5- ملفا لمكسيم غوركي. نشرها بعد عودته من أميركة إلى مصر واستقراره في القاهرة. أبطالها صيادون متشردون وفيهم امرأة ساقطة “هي أهم شخص في الرواية” ولم يتم نشرها بالكامل بسبب توقف الجامعة نهائياً..[4].
أما مباحثه التي ترجمها أو لخصها فهي:
1- تاريخ المسيح لرينان، هو جزء من تاريخ أصل الديانة المسيحية المؤلف من خمسة أجزاء: تاريخ حياة المسيح- تاريخ أعمال الرسل- تاريخ حياة القديس بولس- المسيح الدجال- وكتاب آخر. وقد أوجز فرح هذا الكتاب على صفحات الجامعة (1901).
2- المرأة في القرن العشرين، لجول سيمون. نشر بعض فصول منه في الجامعة بإذن مؤلفه.
3- السماء وما فيها من الأجرام. ربما ترجمه عن العالم الفرنسي فلاماريون ..
رائد.. من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
كان فرح أنطون أحد أبرز المثقفين السياسيين والاجتماعيين العرب في الدولة العثمانية، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ورائداً من رواد حركة التنوير.
تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين “روسو” و”فولتير” و”رينان” و”منتسكو”، وكان داعية للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين المسيحيين والمسلمين. وكان يكتب كانسان، لا كمسيحي أو مسلم، بل باسم الإنسانية. وتأثر فرح أنطون، كذلك، بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال “ابن رشد” و”ابن طفيل” و”الغزالي” و”عمر الخيام”، وآخرين وآمن بالاشتراكية واعتبر أنها تحمل الخلاص للإنسانية.
وقد أثارت كتابات فرح أنطون الجريئة، وأفكاره النيّرة، عدداً من الكتاب السلفيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، فكتبوا منتقدين فكره، متهمينه بالإلحاد والعلمانية. ، “. وبسبب آرائه وفلسفته، التي تدعو الى التسامح، ونبذ التعصب، واحترام عقول الناس تعرض لهجوم لاذع من قبل رجال الدين. وحمل عليه الأب لويس شيخو (1859 – 1927) لأنه ترجم كتاب الفيلسوف الفرنسي آرنست رينان “تاريخ المسيح”: قائلاً: “.. فما كان بأنطون أن يضنّ بشرفه ودينه عن نقل سفاسفه فيعز علينا أن نرى حاملي الأقلام في بلادنا ينشرون، دون تعقل، مبادئهم المستقبحة، فيلقون قراءهم في وهاد الإلحاد وقعر الفساد، وكان بوسعهم أن يهذبوا عقولهم، ويرقّوا أخلاقهم، ويجعلوهم سنداً لوطنهم”. وفرح أنطون لم يكن ملحداً، ولم يهاجم الأديان، أو يدعو لهدمها. ويقول في هذا الشأن رداً على منتقديه من رجال الدين: “معاذ الله أن نروم هدم الدين، كما تفترون علينا، وانما نروم هدم الأوهام والخزعبلات في الدين. فلماذا تجعلون هذه قسماً منه؟! وأولى هذه الخزعبلات قولكم إن الإنسان لا يمكن أن يعبد الله، ولا أن يفهم الكتب الدينية، الا بواسطة كاهن أو شيخ. وبذلك تضعون أنفسكم بين الله، وبين عباده، رفعاً لشأنكم وطلباً للفائدة لكم”. تأثر فرح أنطون بأفكار الثورة الفرنسية (1789) مثل الدعوة الى الحرية والمساواة وحقوق الإنسان. ولذلك وقف الى جانب التيار العلماني العربي، الذي كان قد ظهر في أوروبا، — الذي يلخص شعار: “الدين لله والوطن للجميع” أهم أفكاره. وكان منفتحاً على العلم، وتعليم المرأة والتحرر من التقاليد البالية، والتوفيق بين العلم والدين. ولذلك سعى الى تغيير الواقع الاجتماعي العربي الى واقع آمن بعيداً عن القهر والاستغلال. وفي هذا قال: “نحن نريد بدل هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة انسانية هادئة مطمئنة، متمتعة بأمن وسلام، بنعم الأرض والسماء. وهذا لا يتم مع النظام الحاضر، والحالة الحاضرة، لأن الإنسان لا تهدأ نفسه ويسكن جأشه وتتلطف أخلاقه، الا اذا صار أميناً على رزقه. ولا أمن على الرزق ما دام الأقوياء متروكين على الضعفاء يمصون دماءهم، والضعفاء يزمجرون ويزبدون حسداً وطلباً للنقمة”
اربعة اسس
ووضع— فرح أنطون— أربعة أسس للخروج من المأزق الحضاري، الذي تعيشه المجتمعات العربية – الإسلامية هي: “الدين، الوطن، الاتحاد، الارتقاء. الله واحد للمسلمين والمسيحيين، وكذلك الوطن. والاتحاد يجب أن يكون السد المنيع للوقوف في وجه الغرب الطامع بالسيطرة على المسلمين والمسيحيين معاً. وعلى هذا الاتحاد أن يحقق التقدم والرقي، ولا يكتفي بالتغني بالماضي”. لذلك اعتبر فرح أنطون أن المدنية الغربية، بمفاهيمها وشعاراتها ومنجزاتها العلمية، هي المثال، الذي يجب أن يحتذى اذا ما أريد للمجتمعات العربية – الإسلامية أن تنهض، وتنجو مما هي فيه من تخلف وتقهقر. “فليس بغير المفاهيم الغربية يستطيع العرب والمسلمون أن يضعوا حداً لتخلفهم ويلحقوا بركب الحضارة. ان المجتمع الغربي، الذي يرتكز على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والأخوة، والديموقراطية، استطاع أن يحقق نهضة علمية حديثة، ويصهر الأقليات الدينية في بوتقة واحدة تجمع بين الملل والأديان والطوائف والاثنيات في مجتمع متجانس. وهذا ما نحن بأمس الحاجة اليه لنتطور ونخرج من السلفية، فلماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق؟”.
سلطة التيار الدينى والتحرر منه
“وان قيل ما هو التساهل الحقيقي أجبنا: هو أن تعمل بهذه القاعدة القديمة: اصنع بالناس ما تريد أن يصنع الناس بك، لأنك لست أفضل من سواك. فمتى عمل الإنسان بها وأدرك معناها الحقيقي احترم أديان الناس واعتقادهم ليحترموا دينه واعتقاده، وبلغ من معرفة الحقيقة مبلغاً صار يعتقد عنده أن كل طعن في دين الغير طعن في دينه، لأن الأديان واحدة في الوجهة، وهي عبادة الله، وان كانت مختلفة الطرق والفروع. ومتى صار الإنسان يعتقد هذا الاعتقاد، أو ينظر الى آراء الناس ومعتقداتهم، حتى أغلاطهم وأوهامهم وخزعبلاتهم، نظرة الرفق والشفقة والاعتدال – ولو كانت مضرة به، ومخالفة لمبدئه – جاز له حينئذ أن يسمي نفسه حكيماً متساهلاً”.
عن الحوار المتمدن
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو