بعد أن صدر كتيب «الموسيقى» لجبران في العام 1905، توقع قراؤه صدور كتاب «دمعة وابتسامة» في العام 1907 مثلاً، باعتبار أن مقالات الكتاب بدأت تصدر تباعاً في جريدة «المهاجر» النيويوركية في العام 1905. ولكن كتباً ثلاثة صدرت قبل «دمعة وابتسامة» مع أن مضمونها نُشر في الصحف بدءاً من أواخر 1907، وهي «عرائس المروج» و«الأرواح المتمردة» و«الأجنحة المتكسرة».
طبعاً، كان يمكن أن لا يرى كتاب «دمعة وابتسامة» النور أبداً، لأنه من بواكير نتاج جبران. وتؤكد القاعدة أن الأدباء المبدعين يهملون بواكيرهم لأنها تكون أدنى مستوى من نتاجهم اللاحق. ومن المرجح، بل المؤكد، أن مضمون كتيب «الموسيقى»، لو نشر أولاً في «المهاجر: أو أي دورية أخرى، لما أعاد جبران نشره في كتاب.
وإذا كان من حق الأدباء التعتيم على كتاباتهم الأولى، فمن حق القراء والباحثين الاطلاع على تلك الكتابات، لمجموعة أسباب أهمها معرفتهم بمستوى الكاتب في المرحلة الأولى من حياته الأدبية ورصد دقائق صعوده وفق الخط البياني الذي سجله في المراحل اللاحقة.
أما لماذا غيّر جبران رأيه، ووافق على إصدار «دمعة وابتسامة» بعد عشر سنين من صدور معظم مقالاتها، فالفضل يعود الى زميله في «الرابطة القلمية» الشاعر نسيب عريضة، الذي أقنعه بأن سلسلة «دمعة وابتسامة» لم تزل حاضرة في حياة محبيه ومريديه، على حد ما ورد في المقدمة. وبالمناسبة، فالمقدمة التي تصدرت الطبعة الأولى للكتاب ونشرتها جريدة «السائح» النيويوركية في 13 آب 1914، ثم غابت عن الطبعات اللاحقة، لم تكن مصاغة بقلم موقعها نسيب عريضة. فقد عثر الشاعر خليل حاوي، خلال إعداده لأطروحة الدكتوراة حول جبران، بين أوراقه المحفوظة في متحف بشري على مسودة المقدمة وهي مكتوبة بالخط الجبراني ذي الماركة المسجلة.
طبعاً، لم يتضمن كتاب «دمعة وابتسامة» كل أو جل ما نشره مؤلفه تحت العنوان الذي توج به كتابه. والمقالات الثلاثة المنشورة في حيز هذا التحقيق بمناسبة مرور 125 سنة على ولادة جبران، ليست سوى بعض ما قفز كاتبها من فوقها حين انتقى ما ضمنه كتابه. وإذا كان جبران قد خص المرأة بعشرات المقالات والمسرحيات والروايات والأقوال المأثورة، فإن مقالتي «ماذا فعلت المرأة» و»المرأة بين الأمس واليوم» تشكلان بعض الحلقات الأولى في تلك السلسلة الذهبية الطويلة.
يبقى أن الشاعر بشارة عبد الله الخوري الملقب بـ»الأخطل الصغير» كان رفيق صف جبران في مدرسة «الحكمة» بين 1899 و1901. لذلك، حين قرأ مقالات جبران المنشورة في «المهاجر» النيويوركية تحت عنوان عام «دمعة وابتسامة» سارع الى إعادة نشرها في جريدته «البرق». ولكنه اضطر الى وقف النشر بعد النقد اللاذع الذي وجهه صاحب «المهاجر» أمين الغريب الى بعض الدوريات اللبنانية وفي طليعتها «البرق» التي كانت تنشر دمعات جبران وابتساماته المميزة، من غير أن تشير الى مصدرها. ولكن، بعد أن باع الغريب «المهاجر» في العام 1910، وتوقف جبران عن نشر أي حرف فيها لأنه كان على خصومة مع مالكها الجديد الشاعر الساخر أسعد رستم، نفض الأخطل الصغير الغبار عن ثلاث حلقات في سلسلة «دمعة وابتسامة» ونشرها تباعاً في «البرق» ولم يشر، كالعادة، الى مصدرها. ولعل من ايجابيات إعادة نشره لبعض بواكير نتاج رفيق صفه بعد سبع سنين من ظهورها في الجريدة النيويوركية العربية، أنها دفعت بجبران الى إعطاء الضوء الأخضر لصديقه ورفيقه في «الرابطة القلمية» كي يصدر كتاب «دمعة وابتسامة».
وفيما يلي نصوص المقالات الثلاث المجهولة من قبل القراء والزملاء والباحثين لسببين، أولهما أنها نشرت قبل الحرب العالمية الأولى، والثاني أن جبران، لم يعد نشرها في كتاب «دمعة وابتسامة».
دموع الشيوخ
إن دمعة واحدة تلمع على وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان. إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة. أما دموع الشيوخ فهي فضلات العمر تنسكب من الأحداق، هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة.
الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة. أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الأرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة.
البرق 17 أيار 1913
المرأة: بين الأمس واليوم
إن المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلاً ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل.
كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة، كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها.
هل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة وضعف الجسد بقوة النفس؟
أنا من القائلين أن الارتقاء الروحي سنّة في البشر، والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة. فإذا كانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر، فلأن العقبات التي تبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب.
إن في هذا الجيل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة ـ في هذا الجيل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبزور الأجيال الآتية ـ في هذا الجيل الغريب بأمياله وأمانته لا تخلو مدينة من إمرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل!!!
البرق 14 حزيران 1913
ماذا فعلت المرأة
ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقت غضبك؟ هل اقترفت جرماً لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟ أنت قوي يا رب وهي ضعيفة فلماذا تبيدها بالأوجاع؟ أنت عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك فلماذا تذريها كالثلوج؟ أنت توجدها بالمحبة فكيف بالمحبة تفنيها؟ بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها الى الهاوية. في فمها تنفخ نسمة الحياة وفي قلبها تزرع بزور الموت. على سبيل السعادة تسيّرها راجلة، ثم تبعث الشقاء فارساً ليصطادها. في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة. بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها، وبأصابعك الظاهرة ترسم هالات الأوجاع حول ملذاتها. في مضجعها تخفي الراحة والسلامة، وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب. بإرادتك تحيي آمالها، ومن أميالها تتولد عيوبها وزلاتها. بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك، وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة. بتشريعتك تزوج روحها من جسد جميل، وبقضائك تجعل جسدها بعلاً للضعف والهوان. أنت تسقيها الحياة بكأس الموت، والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها، وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل، ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها… أنت أنت يا رب قد فتحت عينيها بالمحبة، وبالمحبة أعميتها. أنت قبّلتها بشفتيك وبيديك القويتين صفعتها. أنت زرعت في قلبها وردة بيضاء، وحول هذه الوردة أنبت الأشواك والحسك.
البرق 31 أيار
الكاتب جان داية
عن فوبيا
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني