الفيلسوف هو ذلك الشّخص الذي يحبّ الحكمة، وهو ذلك الشّخص الّذي يفكّر ويتأمّل ويبحث ويستنتج ويطبع تفكيره وبحثه بطابعه الشّخصي، ويرسم لنفسه طريقاً خاصّاً.
وهو شخص مجبول على التّساؤل والنّقد ولذلك فهو يخالف الرّأي السّائد في القضايا الفكريّة والوجوديّة.
وأما العامّة، فقد جاء في لسان العرب والمعجم الوسيط : العامّة من النّاس : خلاف الخاصّة. والجمع : عوامُّ. ويقال : جاء القوم عامّة أي جميعاً. والعامّة يقصد بها عموم النّاس والجمهور، وهي غالباً ما يقصد بها الدّهماء والغوغاء.
ومنذ القديم عانى الفلاسفة من العامّة. وكثيراً ما وظّف خصوم الفلاسفة من سدنة الرّكود والجمود العامّة من أجل تحقيق أهدافهم وطموحاتهم المتمثّلة في الانتصار للقديم. فنجد أنّ ابن رشد طردته العامّة من المساجد بسبب ما نسب إليه من كفر وإلحاد،(1) والحقّ أنّ ابن رشد لم يكن سوى من دعاة التّجديد.
إنّ أهميّة هذا الموضوع الذي أكتب عنه تتجلّى في الإحباط الذي يقع للفيلسوف بعد أن يتعرّض لهجوم العامّة، سواء كان هذا الهجوم لفظيّا أو جسديّاً. هذا الهجوم الّذي قد يدفع الفيلسوف إلى الصّمت والانزواء، كما حدث للفيلسوف المسلم : مالك بن وهيب الاشبيلي الذي توقّف عن النّظر والتكلّم في الفلسفة لما لحقه من المطالبات في دمه بسببها.(2)
ولنا أن نتصوّر ما الذي يمكن أن يحدث عندما يصمت الفيلسوف.
إنّه ببساطة يترك المجال سانحاً لأصحاب العقول المستقيلة وللفقهاء أنصار القديم لنشر الخرافات والجهل.
ومن هنا تنهض الأسئلة التّالية التي سأحاول الإجابة عليها :
لماذا يهاجم العامّة الفلاسفة؟
وما الموقف الذي يتّخذه الفلاسفة من العامّة؟
وهل ينبغي للفيلسوف أن يناقش العامّة أم يتجنّبها؟
إنّ العامّة تهاجم الفلاسفة لأنّهم متمرّدون ومجدّدون، ومتّسقون فكراً وسلوكاً. علاوة عن ذلك فإنّ العامّة تهاجم الفلاسفة لأنّهم يلمسون قناعاتها الرّاسخة ويقلقونها حين يدعونها إلى إعادة التّفكير في مسلّماتها. فالعامّة قلّما تخضع معتقداتها لاختبار نقديّ. وحتّى الأنبياء لم يسلموا من شرّ العامّة الذين يتّبعون منهج آبائهم دون نقد أو تمحيص. وقد كتب شيخ الفلاسفة برتراند رسل في كتابه الشّهير “حكمة الغرب” عن علاقة أصحاب العقليّات غير الفلسفيّة أي العامّة مع الفلاسفة:
“أنّهم، أي أصحاب العقليات غير الفلسفيّة يميلون إلى التّعامل مع الفلاسفة بتسامح مشوب بالرقّة والعطف بوصفهم حمقى لا ضرر منهم أو أناسا ذوي أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رؤوسهم في السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة (…) غير أن التفكير الفلسفي يمكن أن يكون له، من جهة أخرى، تأثيراً يزعزع بعمق كلّ ما هو سائد من عرف وتقاليد، وفي هذه الحالة ينظر إلى الفيلسوف بعين الشك، على أنه شخص خارج عن العرف المألوف، يعكر صفو التقاليد والأعراف، ولا يبدي موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التي تبدو صالحة في نظر كلّ من عداه. ذلك لأنّ أولئك الذين لم يعتادوا النّقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يناقش أحد معتقداتهم التي يعتزّون بها،
ويكون ردّ فعلهم مصحوبا بالكراهيّة والعداء. وهكذا اتّهم سقراط بنشر تعاليم هدّامة، شأنه شأن السّفسطائيين بوجه عام، ومعلّمي الجدل الخطابي بوجه خاص”.(3)
والجدير بالذّكر أن المهيجين الفعليين للعامة ضدّ الفلاسفة، في مجتمعنا الإسلامي، هم الفقهاء أنصار الثّقافة التقليديّة، إذ أنّ العدو الأول للفلاسفة هم الفقهاء الذين يقحمون العامّة في صراعهم مع الفلاسفة قصد ترجيح الكفة لصالحهم. وهنا نذكر محنة ابن رشد وكيف هيّج خصومه من الفقهاء العامّة عليه. كذلك تعرّض الكندي لمحاولة تهيج العامّة عليه من طرف أحد خصومه من أهل الحديث، إلا أنّ الكندي كان أكثر دهاءً فاتبع أسلوب الاختصار في كتاباته حتى لا يتأوّلها “أهل الغربة عن الحقّ” كما كان يحب أن يسميهم. ونجد حتّى المعري استعمل المجاز قصد إخفاء بعض أفكاره، ربّما خوفاً من العامّة، فيقول : “لا تقيد عليّ لفظي فإنّي مثل غير تكلمي بالمجاز”.
لقد رأى فلاسفة التّنوير في العامّة شرّا فلامتري قال :
“إنّ سعادة العوام تكمن بالفعل في جعل الآخرين تعساء”.(4)
وأمّا هلفتيوس فقد كتب: “إنّ الجهل أكثر خطورة من الطّموح، والنّاس بوجه عام أغبياء أكثر من كونهم أشراراً. وفولتير أيضاً كان موقفه قاس من العامّة إذ عبر عن كونه لا يهتم بالدّهماء لأنّهم يظلّون دائماً غوغاء. وعبّر ديدرو في الموسوعة عن موقفه من الدّهماء أو العامّة، إذ اعتبر صوتها صوت الشرّ والغباء والحماقة والجهالة”.(5)
ولئن كان رأي فلاسفة التّنوير الغربي في العامّة بهذا الاحتقار، فكيف كان رأي فلاسفة المسلمين؟
الحقّ إنّ المشتغلين بعلوم الأوائل من المسلمين تعاملوا مع العامّة بتجاهل واحتقار كبيرين. فابن رشد أطلق على العامّة اسم “الأطفال الكبار” واعتبرهم من الصّنف الذي لا يقع لهم التّصديق إلا من جهة التّخيل. وأمّا ابن سينا فقد سمّاهم “البله” وجعل مصيرهم في الآخرة معلق بين السّعادة والشّقاء.(6)
وقد ظهر كره المثقفين المسلمين للعوام من النّاس في أسماء كتبهم أيضاً، فنجد كتاباً تحت اسم “إلجام العوام عن علم الكلام” وكتاب “المضنون به على غير أهله” الذي ينسب للغزالي.
ومعلوم أن فلاسفة الإسلام قسّموا النّاس إلى صنفين، عامّة وخاصّة، وأبرز من تحدّث عن هذا التصنيف الفيلسوف ابن رشد، فقد بين أن النّاس يختلفون في فهمهم وتقبلهم للعلم، فمنهم من يميل للبرهان ومنهم من يميل للخطابة والموعظة ومنهم من يميل للجدل.
وأمّا ابن سينا فقد كان له رأي في تصنيف الناس أيضاً، فقد اعتبر أن الصّلاة بهيئتها المعروفة لا تجب إلا على العامّة أما الخاصّة فلا تجب عليها لأنها لا تحتاجها. إذ إن الشرع، حسب رأي ابن سينا، يقصد بالتكاليف الشرعيّة تكميل النّفس فمتى حصلت الغايّة لا داعي إذن للوسيلة”.(7)
في الختام، هل ينبغي للفيلسوف أن يناقش العامّة أم أن يصمت؟
رأى الغزالي بضرورة الابتعاد عن العامّة وعدم تصريح الفيلسوف بأفكاره لهم، لأن ذلك أسلم له، فحسب رأي الغزالي “ما كل ما يرى يقال، بل صدور الأحرار قبور الأسرار”.(8)
وأمّا ابن رشد فقد رأى بإبعاد العامّة عن التأوّيل وإجبارها على إتباع ظاهر الشريّعة. بل انتقد من أقحم العامّة في نقاش مسائل فكريّة صعبة عليها كما فعل المعتزلة. ونجد ابن طفيل في كتابه “حي بن يقظان” يسير في هذا الاتّجاه، أي عدم تصريح الفيلسوف بأفكاره للعامّة. “فحي بن يقظان” عندما خرج من جزيرته قصد تنوير العامّة وتبليغها الحقيقة، لم يفلح، إذ النّاس انقبضوا منه وهجروه لأنهم اعتادوا العبادة الظاهرة، فيئس من إصلاحهم، ثم تأملهم فوجد أن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق، فعاد إلى الصّمت.(9)
وإذا لم نقل الحقيقة للعامّة فإنّنا نساهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه، وإذا لم نناقش الجاهل فما فائدة العلم؟ وعلى هذا الأساس فإنّي أرى أن الفيلسوف أو المثقف، بصفة عامّة، ملزم بالحديث والتعبير عن قناعاته التنويريّة لجميع البشر، خاصتهم وعامتهم، لأنّه إذا لم يفعل ذلك، ترك المجال لأصحاب العقول المستقيلة لنشر الفكر الخرافي، والتّفكير الرّجعي، وبالتّالي، يكون مساهماً في تخلف مجتمعه وأمّته.
الهوامش :
1 ـ منجي لسود، إسلام الفلاسفة، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب. الطبعة الأولى 2006 . ص : 27 .
2 ـ مرجع نفسه ، ص 36 . وهذا ما حدث للكاتب المصري سيد القمني بعد أن تعرض للتهديد بالقتل.
3 ـ برتراند راسل، حكمة الغرب، ترجمة : د فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد 364، يونيو 2009 ، ص : 89 و90 .
4 ـ غيرترود هيملفارب، الطرق إلى الحداثة، ترجمة : د محمود سيد أحمد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 367، سبتمبر 2009. ص 180
5 ـ مرجع نفسه، ص : 186
6 ـ منجي لسود، اسلام الفلاسفة، مرجع سابق، ص : 31
7 ـ مرجع نفسه، ص : 27 . تجدر الاشارة إلى أن ابن سينا كان محافظاً على صلاته.
8 ـ مرجع نفسه، ص : 35
9 ـ عبد الرحمن بدوي ، حي بن يقظان لابن الطفيل ، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو