الذي يقرأ البساطي يحبه بالتأكيد، ومن يعرفه يحبه أكثر، ويصعب عليه تحويل هذا الحب إلي كتابة، في مناسبة كهذه. ومن حسن الحظ أن القارئ لا ينظر إلي صداقاتنا وإنما ينظر إلي كتاباتنا وينتظر منا كلامًا عن الكتابة.
وكتابة البساطي تنبع من عدم اليقين والخوف الدائمين. وهذا هو سر استمرار البساطي، لا بمعني مراكمة عمل وراء الآخر، بل بمعني استمرار الحساسية، واستمرار قدرة الكاتب علي الاندهاش وقدرة كتابته علي الإدهاش.
لا يفتقر إلي المعرفة النظرية بالكتابة، لكنه ـ حفاظًا علي خوفه ـ يعتبر الكلام التنظيري نوعًا من العيب، يخفي قناعاته، ويخفي قراءاته، ومثل مزارع يراقب زراعات جيرانه يعتمد علي قراءاته الحلوة في الرواية ومشاهداته للأفلام المتقنة. ومثل مزارع صبور أخذ يراكم مجموعة قصصية وراء مجموعة، ثم رواية بعد مجموعة طول عقد التسعينيات ثم رواية وراء رواية طوال العقد الأول من الألفية الثالثة، عائدًا إلي القصة في النهاية علي فراش المرض.
قصّاص
يحكي ماركو بولو لقبلاي خان حكايات عن كل المدن، وفي النهاية يتعجب الخان الأعظم: حدثتني عن كل المدن ولم تحدثني عن مدينتك فينيسيا، فيقول له: إنني لم أتحدث سوي عن فينيسيا. البساطي بالمثل أصدر العديد من الروايات لكنها كانت قصصًا تمطعت فاستطالت قليلاً. ولهذا فهو قصاص بالأصالة، روائي بالانتساب، معظم رواياته تقع في جنس النوفيلا الذي يصالح شعرية القصة علي سردية الرواية.
وجاءت رواياته بسيطة المعمار، لكن مستريحة تمامًا في بنيتها أليفة مع عالمها. خطوط السرد القليلة تناسب فقر العالم الذي يعالجه؛ في “صخب البحيرة” أو في “جوع” أو “فردوس” عدد قليل من الشخصيات، لا تغادر جلساتها أمام الأبواب إلا لأعمال فقيرة أو لاستلاف رغيف من هذه الجارة أو كوب زيت أو ملعقة شاي أو سكر من جارة أخري.
هذا هو كل شيء في حياة تبدو غير جديرة بأن تحكي، لكن البساطي يصنع من هذا السكون عالماً صاخباً تزوره البهجة عبر مسرات صغيرة، تشبع تطلعه إلي الحياة، مثلما يمثل وجود رغيف الخبز الحاف نوعاً من الرضي يتحول إلي سعادة عندما يكون هناك غموس بسيط كقطعة مخلل أو “لحسة عسل أسود”!
يكتب من ذاكرته عن ريف لم يعد موجوداً، وهذا لم يزعجه، وظل مستمتعًا بالبقاء في فردوسه، وهل يخلو عنوان روايته “فردوس” من تدبير حلمي؟
استفادت كتابة البساطي من هذا الحنين إلي غير الموجود، واستمدت شعريتها من الغياب. المسافة بين الواقع وبين ما شمه ورآه ولمسه الكاتب ذات يوم بعيد جعلت الواقع يبدو في كتابته مثل الصورة علي سطح ماء، التي تفوق بمراحل قوة صورة المرآة المصقولة، فهي برأي دارس أحلام الماء المبدع جاستون باشلار صور أقل يقينية وأكثر عرضة للإمحاء، لكنها أكثر عمقًا وشاعرية أيضًا. صورة اللايقين يصنعها ثقل الماء وإظلامه وحركته.
من باب التنويع أو مخاتلة القاريء، أعطي البساطي إشارات مضللة بأنه يكتب رواية مدينة، لكننا سرعان ما نجده يعود بالشخصية إلي جذورها الريفية لينطلق معها علي أرض الأحلام الهشة التي يعرفها جيدًا.
في ” ليال أخري ” نري امرأة جميلة وغامضة تنتمي إلي عالم المثقفين في المدينة، عشاقها محكومون بموت غامض، وهي رغم الجمال والجاذبية الأكثر بؤسا وقلقا بين النساء، لكن الرواية ليست رواية مدينة تماما، لأنه عاد في مساحات واسعة منها إلي الطفولة الريفية للبطلة. وكأن المدينة لم تكن سوي خشبة مسرح لعرض صور البطلة وصور مطارديها من المثقفين في مرآة الماء، وهذا يجعل من “ليال” أخري التمثيل الأوضح لفلسفة العالم المعتم التي تكتنف حتي عناوين الروايات والقصص: ساعة مغرب، بيوت وراء الأشجار، ضوء ضعيف لا يكشف شيئًا، وأصوات الليل.
ولا تميز العتمة الشفيفة عوالم كتابة البساطي فقط، بل تنطبق علي نعومة فنية تخلط المذاهب والمدارس، حيث نلاقي في الواقعي وجه الفانتازي في “الخالدية” ووجه الكابوسي في “ليال أخري” ووجه الواقعية السحرية في “صخب البحيرة”.
أثر الصمت
تصف كتب التراجم صاحب الفضل والهيبة بأنه “علي طريقة مثلي من الصمت” كما يعتبره المتأدبون بديلاً عن الكلام التافه، لكن ما من إشارة في كتب اللغة تفصِّل “بلاغة الصمت” أو ما من دراسة مشبعة تكشف عن جماليات الصمت الفني المطلوب لمناسبة مقتضي الحال. وكتابة البساطي مثال لهذا الصمت الذي يناسب مقتضي حال أحجام أعماله وعوالمها.
عاش البساطي لاقتفاء أثر الصمت عبر قراءة الأفذاذ في اقتصاد اللغة مثل تشيخوف وهيمنجواي وعبر مشاهدة الأفلام الجيدة لكبار مبدعي العالم، لكن تأثر الكاتب بغيره مشروط بقدرته علي القراءة؛ فهي تحتاج إلي موهبة لا تقل عن موهبة الكتابة، وكثير من الكتاب لا يحسنون القراءة.
يتأثر الكاتب كذلك بما يحب، أو لنقل بما كان ينتوي كتابته استنادًا إلي نسقه الخاص، ويجد فيما يقرأ ما يدعم اتجاهه القائم علي حدسه وسماته الشخصية. والتقشف هو سمة البساطي، يتجلي في السلوك العفيف والشعور بالغني، كما يتجلي في معمار الرواية البسيط وفي فقر أبطالها، ولم يبق للغة إلا أن تنصاع وتلتحق بمنظومة الاستغناء هذه. كل كلمة لا ضرورة لها لا يجب أن تبقي.
مساحات الصمت طويلة دائمًا، يعقبها كلام قليل، حتي أن هناك جملاً تترك مفتوحة وناقصة، علي هذا النحو:
ـ رأيتهم؟
خمسة
كان من الممكن لكاتب لا يحسن الظن بذكاء القاريء أن يقول: نعم رأيتهم، وكان عددهم خمسة. وربما استبد به الحماس فأخذ يصف هيئات الرجال الخمسة واحدًا فواحدًا. ولا يناسب هذا الاختزال مقتضي حال الكتابة فقط من حيث المعمار يتناسب مع فقر البيئة الروائية مع اختزال اللغة، لكنه يساهم بشكل أكيد في كشف الحالة النفسية. أعتذر عن عدم توثيق السؤال وجوابه، فقد علقا بذهني سنوات طويلة من قصة ليست تحت يدي الآن لأذكر عنوانها، ويقدم فيها الاقتضاب اللغوي أبلغ تعبير عن الحزن، فقد كانت القصة ثرثرة متقطعة حول لا شيء بين عجوز وزوجها. وكانت مهمة هذا اللاشيء هو توفير المهرب لعجوزين يتطلعان إلي صورة ابنهما الراحل علي الجدار.
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر