يعكس الفن التفاعلي صورة غير نمطية عن سواها من انواع الفنون الاخرى في الفن المعاصر، يقترب من النشاط والتنشيط الاجتماعي، ويحاول فهم الثقافة كجزء اساس لتقديم العمل الفني وتبنيه اجتماعيا لاحداث التغير والتثقيف المجتمعي، وهو تبني وجهة نظر اجتماعية اكثر من كونها فردية او فنتازية فقط، واذ تبقى على علاقة مباشرة بالسلوك الانساني السائد، وهو في مجمله وباي شكل كان، يقدم نفسه كنوع مع النظرية النقدية وربما الساخرة احيانا كرد فعل على السلوك الاجتماعي، وهو بذلك يقدم نفسه كعمل فيه نوع من التناقض التطبيقي او الفكري، كونه يقترب من الناس، وفي نفس الوقت يكون ضديا وناقدا للمجتمع، وهنا تكمن العلاقة الخطرة في هذا الفن وفي الطريقة التي يمكنه خلق التفاعل مع الجمهور دون اثارة اي نوع من الشكوك او ردة فعل غير متوقعة منهم، بل يحاول ان يقدم رؤية، يكون مجتمع الشارع هو واحدا من ركائز عرضها وفهمها والتفاعل معها. اذ يحاول الفنان من خلال عمله الفني التغلغل في الفعل الاجتماعي والتاثير فيه،
الهيب هوب:
يتشابه الفن التفاعلي من حيث التوجه مع بعض الفنون الاخرى مثل الهيب هوب والجرافيتي والراب، الا ان كل مدرسة لها خصائصها في الشكل، ما يهم جميع الاساليب هذه هو الوصول للناس في الشوارع والساحات العامة، وعدم تحييدهم بل اشراكهم في الفعل الاجتماعي كحركة اجتماعية مؤثرة ومنتمية دون ان تضع تحت اطار حزبي، لان الفن في مرحلة من المراحل اصبح يشكل الحزب الاجتماعي المنفتح على الاخر، والقابل للتوجيه وتعريف الناس اينما تواجدوا بما يريد الفنان ان يقوله، هذا التقارب لم يكن سهلا اذا علمنا ان الانقطاع ما بين الجمهور والفن ليس جديدا، وانما منذ نشاة الفنون، ولان الفن قدم نفسه من ذي قبل على انه نخبوي وخاص وقدم ايضا لجمهور محدد، بقي هناك نوع من الخوف المستمر وتواترت الرواية التي تقول ان الفن نخبوي او ان الفن للفن وغيرها من النظريات، وبالرغم من المحاولات العديدة لكسر هذا المفهوم الا ان الناس بقيت بعيدة عن ذلك، وفي ظل تطور المدرسة الفنية المعاصرة وما بعد الحداثية تبين اخيرا للبعض ان الكذبة الكبرى بان الفن نخبوي ليس حقيقة، والدليل ان الانسان يمكنه ان يشارك باي فعل فني مع الفنان. وهذه المرحلة تعتبر تمهيد لخلق علاقة حقيقية بين الفن والجمهور مستقبلا.
الفن التفاعلي عند شادي الحريم
الفنان شادي الحريم، واحد من الفنانين الفلسطينيين الذين تبنوا العمل التفاعلي كقيمة وعنصر متحرك في مفهوم العمل الفني نفسه، اذ لا يعتبر العمل فقط وقت انجازه، بل هناك استمرارية في العمل اثناء العرض وما بعد العرض، وهذا العمل المفتوح هو تحدِ صارخ لكلاسيكات العمل الفني الذي يعتمد على الدقة واللمسات الاخيرة، ربما يعتقد البعض ان الاعمال الفنية كافة تمر بهذا التوجه، وهو الاستمرار والتفاعل، ولكن هنا العمل نفسه يقدم مفتوحا، وعند عرضه يبقى العمل ناقصا بدون تفاعل الجمهور معه، بل يحتاج للاضافة والتركيب، ليس من الفنان وانما من الجمهور، الفنان هو مجرد ميسر او مخطط لمرحلة محددة، تعتمد فكرته في بنائها اساسا على اللحظات التي يتعامل فيها الجمهور من العمل اثناء العرض، وبعد العرض، وفي اعمال الحريم هناك جدل مستمر بين مفاهيم العمل الخاضعة لذاتها، وبين قيمها ومفاهيمها الخاضعة للجمهور، وهذا بحد ذاته يضع العمل ايضا بين مركبات خطيرة في نوع العرض الفني او نوع العمل الفني، وهل يقدم على انه نشاط جماهيري، ام انه فعل فني يندرج تحت مفهوم الفن التفاعلي؟.
من خلال المتابعة للعمل الفني مع شادي الحريم، وخطواته المتعددة والمتنوعة والتي تشبه الفكرة نفسها ايضا بالتنقل والتحول والاضافة والاستنتاج اثناء تطبيق العمل وليس قبل، نجده يبدا نفسه بالانا، ويخوض شخصية ال ( هم ) او ( نحن )، بخلاف العديد من الفنانين الذين يبدؤون بالانا ثم هم ثم انا، هذا يعني الغائية الذات في مرحلة من مراحل بناء العمل التي تتجاوز العشرين، يبدا بالانا، وينعكس جماهيريا، ويفرض ادواته على الجمهور بالتشارك والتفاعل، ليعود مرة اخرى للفنان، ويوظب هذه الانشطارات في عمل فني يقترب للنضج والخصوصية، وينافس حضوره على التواجد بين اعمال مهمة، مع اضافة الملح الفني، وهو الاستمتاع، ومغازلة الجماليات الفنية بروحه المعاصرة، ولعل اهم ما تحمله اعمال الفنان، روح السخرية الناقدة، بل والخارقة في اعادة بناء الفعل الواقعي على الموضوع الفني بصريا، ولكنه يحمل مفاهيما اكثر عمقا والما في صميمه ويفكك رموز العمل المحملة بالتعب والجدية والتكرار الى شكل ناقد وساخر ومفرط للضحك . والسخرية هي افراط احيانا في تحريف الملامح الطبيعية للفعل الانساني
الذي يبنى عليه العمل الفني لاحقا، ومبالغة في اضافة مظاهر لم يتصورها العقل كونها خلقت قانونا بصريا واحدا ما ينفك المشاهد من رؤيته يوميا.
ارقام شادي الحريم:
وهذا ما عكسه عمله الفني ١٠-١ لقطع الجدار، التي وضعها في احد شوارع مدينة كولن الالمانية ليقوم الجمهور بالتفاعل مع العمل بطريقة مغايرة حتى لتصورات الفنان نفسه،
الجمهور كان مبدع من وجهة نظر الفنان لان العمل لم يكن جدار بقدر ما كان شكلا اخر، نوع من الالعاب، جميع الفاعلين تعاملوا مع قطعه كلعبة يصنعوا منها ما يشاؤون، لم يقرؤوا افكاره المشبعة بالجدران، واثر الجدار الاسرائيلي العنصري اليومي عليه، كانت فكرته تبدا من الجدار، وربما توقع ان يكون العمل جداراً ايضا، لكن المفاجاة كانت مغايرة تماما. كانت تضيف ابعادا اخرى على عمله من ناحيتين، الناحية البصرية والناحية الفكرية واسقاطاتها على العمل، اما من الناحية البصرية فكانت الاشكال تترتب ما بين عمل نحتي ثلاثي الابعاد او عمل تفاعلي يقوم بعض الاشخاص بالرقص مع قطع الجدار او حاجز لتقفز عنه الدراجات الهوائية، بما يعني ان العمل مبني على الصدفة للفنان في تلقيه لتفاعل الجمهور معه في المقابل هو منظم ومعروف للفاعل ( الجمهور ) وفي الحالتين هناك نوع من الاكتشاف للاخر وعدم معرفة كاملة ايضا بين الطرفين، عدم معرفة بما يحمله من افكار داخلية وتصوراته للعمل الفني نفسه، اختلاف واضح في المعرفة، لكنه في الوقت نفسه اتفاق مطلق على المشاركة وفهم المنتج، اللغة البصرية لا تتوقف على اللغة او المكان، هي تجربة مشتركة مثلها مثل التجربة الانسانية، نستطيع قراءتها بصريا دون الالمام بمكونات الثقافة المستضيفة والضيفة. كان هناك نوع من المتعة والذاتية للجمهور في تناولهم للعمل، انعكاس منطقي للعقلية المتلقية، وهذا بدوره يعكس الروح الفكرية للعمل، وقدرته على اختراق النفس البشرية وتقبل اسقاطاتها المفتوحة، كما انه يضيف تراتيل مجزَآة على التفاصيل اللحظية بالعمل مما يولد انطباع السخرية على المنتج، وكذلك اللامبالاة باساس الفكرة التي بنى الفنان عليها عمله، ليعاد ترتيب هذا الفتات وهذه الاجزاء وتوصيلها معا لتنتج عملا متصلا يؤكد وجهة النظر لكافة الاطراف المشاركة من الفنان لغاية الجمهور.
ابعاد رياضيات الحريم
مخرجات العمل تحمل مضامين متنوعة ومتعددة، كونها اشركت جمهورا، وكذلك الاختلاف الثقافي واللغوي والفكري ايضا، الا ان الذكاء الذي يتصف به الفنان عادة يعمل على ترطيب هذه العلاقة ووضعها ضمن شكل منطقي ومقبول، دون الاساءة لاي جهد او اي اضافة تلقاها المنتج، بل على الفنان هنا ان يعيد توجيه العمل ضمن فكرته التي انطلق منها مضيفا فكر الجمهور المشارك والفاعل، واذ يؤكد ذلك على نظرية ان الانسان فنان، ويمكنه صناعة الفعل الفني ضمن معايير تندرج تحت المبررات والخطوات التي صنع من اجلها، وتقديمها في قالب ابداعي يساعد في فهمها كونها اشتركت فيه عدة عقول مثل الفنان والمجتمع، وهذا بدوره يقرب العلاقة بين شقي العمل الابداعي الفنان والجمهور.
يتصف الفن في حالاته العديدة بانه علم، وهذا يعني تقديم معلومة حقيقية للمتلقي، وبدء الفعل من حاجة مدركة بنيت على اكتشاف علمي صرف وبعيدا عن انسانيته المتصفة بالشعور والاحساس وغيرها، لياتي دور الفنان ويؤنسن عمله المجرد من خلال اضافة المشاعر والاحاسيس والعاطفة وكذلك ليبنى العمل على حقيقة من وجهة نظر ابداعية، نلاحظ ذلك من مسمى العمل الرياضي( ١٠ - ١ )، ولن نغفل بان اعمال الحريم بمعظمها قدمت كقوانين رياضية مجردة لكنها تحمل في طياتها ابعادا فلسفية ساخرة، ومن هنا نجد نوع معاكس للتصور المسبق عن المنتج، انه عمل يحمل ارثا انسانيا في وصف مغاير وبعيدا عن المباشرة في نقل هذه الصورة، بل ومن خلال المشاهدة يفعل التفكير المنطقي والرياضي بكيان انساني صرف، وهذا ايضا يفعل العلاقة بين الشخص ونفسه، ما يحمله من وصف انساني يشغل العقل معه اثناء المتابعة ويدفعك لتعمل حسابات رياضية عقلية تترجمها لاحاسيس وشحنات عاطفية تعيدك لمنطقة الصفر، وتكتشف ان العمل سياسي يعبر عن الهم اليومي للمواطن الفلسطيني بتنقله على الحواجز، المهم ليس تنقلك على الحاجز مثلا، وانما عدد الخطوات التي تسير بها الى الحاجز للعبور، عدد المرات التي قطعت بها المسافة خلال زمن، عدد الحواجز الموجودة، عدد المسافة ما بين الضفة وغزة او القدس ورام الله، هناك عدد حاضر دوما، هذا العدد يغيب مقابل فكرة العبور مثلا، والعدد يعكس احساسا بالقيمة، والزمن، والانفاق، ما يعني ان هناك وقتا ضائعا وجهدا مهدورا لم ينتبه اليه احد، وهم المتحدث عنهم اصلا من وجهة نظر الفنان، وبالتالي فان الفنان يثير فضول وانتباه الناس لفعلهم اليومي الغائب عن استحضاره.
منذر جوابرة – فنان تشكيلي
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري
رهائن في عقل زوكربرغ / زادي سميث
الكاتب والمحَرَّم – مع راجي بطحيش