أشرف الزغل
في الذكرى العاشرة لرحيل الكاتب والمفكر الفلسطيني حسين البرغوثي، ارتأيت أن أشارك ببعض الملاحظات المتعلقة بسيرته الشخصية، أدبه وفكره. أحاول في هذه الملاحظات القاء الضوء على جوانب لم تعالج من قبل في أدب حسين وفكره ونصه الخاص من خلال تجربتي كتلميذ لحسين وكقارئ لنصه. من أجل وصف حصيلة انتاج حسين في السياق التنويري العربي، تناقش المقالة أعمال حسين عبر ثلاث نقاط محورية هي: نص حسين البرغوثي، فكر حسين البرغوثي النهضوي، وحسين البرغوثي كناقد.
نص حسين البرغوثي – الرقص بين الخيارات الإبداعية
كتب حسين في الشعر، النقد، المسرح والسرد. يكاد أكثر نقاد حسين يركزون على ما في نص حسين من فلسفة وفكر وما الى ذلك. غير أنهم لا يذكرون اهتمام حسين ببناء النص. لا أنسى ساعة جمعنا حسين في يوم من الأيام في بيت الشعر ليستمزج آراءنا (الشعراء الشباب آنئذ) حول مجموعته الشعرية الجديدة “مرايا سائلة”. كتب حسين مرايا سائلة وفي ذهنه مبنى ما، جديد، صلب كمرآة ومائع كسائل، سيولة الفكرة عن العالم أو الفكرة-العالم بالمعنى الهيغلي. كان حسين يومها كالطفل الذي يبحث عن انتباهة الراشدين من حوله، حسين معلمنا يريد رأينا في نصه وبتلك الألفة النبيلة، ألفة حسين “الذكي والطيب”. الذكاء والطيبة ميزتان لا تجتمعان بسهولة كما عقب الصديق الشاعر كفاح فني يوما ما. باعتناء حسين بمبنى النص كان كلاسيكيا و حداثيا في ذات الوقت، كلاسيكيا بمعنى أن لا بد للنص من روابط داخلية وخارجية تحدد هويته الإبداعيه، وحداثيا بمعنى أن مبنى النص ذاته قادر على طرح ذاته كمشروع أبداعي لا يذوب مع مشاريع أخرى لأنه يحمل في ذاته عناصر عضوية خاصة.
رافق اعتناء حسين بمبنى النص اعتناء بالمفردات والدلالات، فعلى النقيض من العديد من الشعراء العرب الذين يكتبون الفكر أو السرد بذات النفس الشعري، كان حسين يمتلك حسا دلاليا عال. كان يكتب نصه الفلسفي بلغة فلسفية ونصه السردي بنفس سردي. كان يبتعد عن التهويمات لإدراكه أن النص الشعري كونه نصا غير ملتزم بالمعنى الدلالي هو نص مختلف عن النص الذي يتناول الفكر أو الحكاية. وللتدليل على هذه النزعة المنهجية عند حسين فإن كتابه الريادي “أزمة الشعر المحلي” الذي أصدره في السبعينات يمثل مرجعا مهما لتبيان اهتمام الراحل بالعلاقات الدلالية للنص الأدبي.
بالإضافة الى أدراك حسين لأهمية بناء النص كشكل جمالي، أدرك حسين البعد الرؤيوي لنصه، وكان ذلك محورا أساسيا من محاور نقاشاته مع مريديه ومع المختصين. كان حسين من أكبر المعجبين بنص الشاعر الراحل محمود درويش ولا يفوتني هنا أن أذكر حواره مع محمود درويش وسؤاله له بخصوص كيف يوفق بين الرؤيوية والجمالية في نصوصه. كأن حسين أراد بذلك السؤال – وهو الفيلسوف والمعلم – أن يضع يده على أدوات الجمع بين الرؤيوي والجمالي، بالمعنى البيداغوجي على الأخص.
فكر حسين البرغوثي النهضوي – كسل العقل العربي
بالرغم من أن حسين البرغوثي لم يقدم عملا فكريا جامعا يطرح فيه رؤيته للنهضة الفكرية العربية كما فعل من قبل عبدالله العروي بكتابه «الأيويدولوجيا العربية المعاصرة»، ومحمد عابد الجابري بكتاب «الخطاب العربي المعاصر»، وأدونيس بكتاب “الثابت والمتحول”، ألا أن حسين ومن خلال سعيه الحميم للتجريب والرقص بين الخيارات الإبداعية (كما أوردت آنفا) ترك نهجا يجمع بين علامات ومفاصل تحقق منها بنفسه بمنهاج ديكارتي حاذق. وهنا تكمن عبقرية حسين الفكرية، فحسين وبرغم ميله الى الفكر اليساري فإنه لم يتخذ موقفا أيديولوجيا من المشروع النهضوي العربي ولم تكن له قضية فكرية تحررية محددة مثل غيره من المفكرين أمثال مهدي عامل، حسين مروة وصادق جلال العظم، بل أنه أعتمد على نصه كمرجعية نهضوية بانتظار القارئ الذي يحقق هذا النص بذات الوسيلة. اذن، مشروع حسين التنويري يكمن في التجريب، التجريب بالمعنى المنهجي لا العبثي، التجريب كمنهج امبريقي ديالكتيكي قابل للتجدد عبر نقد ذاته بشكل تكراري دائم الإبداع.
خلفية حسين العابرة للعلوم والمعارف وسمته بسمات المفكر التنويري اغريقيا كأرخميدس وأرسطو، وأوروبيا كهيوم وديكارت، بالأخص ولع حسين بالرياضيات. أحب حسين الرياضيات وكان يصر على تحميلها حملا ميثولوجيا ليخرج بفكرة جامعة مانعة عن ترميز الكون. ففي كتابه “السادن والناقة-قصص عن زمن وثني” حاول حسين الوصول الى المنابع الأولى لبحور الشعر العربي، وكان يحلو له نقاش علم المثلثات وفيثآغورس وعلم التنجيم العربي كلما حانت الفرصة لذلك. في أحدى حواراتي مع الراحل، سألته عن مشكلة النهضة العربية الأساسية، فأجاب “المشكلة الأساسية هي في العقل العربي، العقل العربي موجود لكنه كسول”. كأنه بذلك يتقاطع مع ايمانويل كانت الذي أكد في مقالته الفلسفية “ما التنوير” أن قيود التنوير الأساسية هي الكسل والجبن. فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أو خوفهم من ممارسة التفكير يؤدي الى تخلفهم، واستغلالهم بالتالي من قبل الفئة الغالبة والتي تفكر نيابة عنهم. دور حسين هذه الفكرة في كثير من أعماله، بداية بأزمة الشعر المحلي وانتهاءا بسأكون بين اللوز، وبالأخص الحوارات الذكية بين بري وحسين في الضوء الأزرق. وذلك يبرهن على وجود فكر حسين النهضوي في نصه. كتاب حسين النهضوي هو نصه الإبداعي.
حسين البرغوثي كناقد – هل تعني ما تقول أم تقول ما تعني ؟
أمتلك حسين حسا نقديا ثاقبا، حسا له أصوله وقواعده، فلم يجامل أحد، ولم يحتفل بأحد لأسباب شخصية أو تلفيقية. من خلال معرفتي به كشاعر شاب كان ينظر في نصوصنا ويقول “ماذا تريد أن تقول في هذا المقطع؟”، أو “لماذا اخترت هذه الشكل للنص؟” أو “هل تعني ما تقول أو تقول ما تعني؟”. كان يصف وجهة نظره بشكل مباشر وواضح وينهي كلامه بالقول “فاهم علي؟”. كان يريد أن نفهم فهو معلم كما هو شاعر، وكما هو ناقد. سياحة حسين النقدية كانت ذات جغرافيا واسعة، فقد كان يهتم بنقد الأدب، والفن، والعمارة. كان يطرح وجهة نظره النقدية بالرغم من وشوشات بعض الحاضرين الذين كانوا يستهجنون عدم تقدير حسين “لجهد” الكاتب أو الرسام أو “لجمال الألوان” أو “المفردات”. لم يكن حسين ليتنازل عن صفته النقدية كي يجامل عملا ابداعيا.
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني