بعد سبعين جريمة، والقاتل ذاته، كان كل المحققين الباحثين أغبياء وتافهين. ففي مسرح الجريمة، كانت تتمدد أمامي قتيلتي الأخيرة، التي أسميتُها يوماً ذاتي، ولم يكن أحدٌ بعد يعلم عن جريمتي، ولا أدري كيف نُصبت الأشرطة حول المسرح واعلنت حالة إغلاق المسرح وكأنني في عرض مسرحي أو أدبي يخلو من المنطق.
وبينما كان بوسعي عبر نافذة جانبية أن أرى المحقق الناقد الذي راقبته وهو يعاين المنطقة وربما المنطق نفسه أو اللامعقول في جريمتي الأخيرة أو سلوكي الفاضح، أدركتُ انني محاصر، وسيلقى القبض عليَّ بسبب جريمتي السبعين الأخيرة؛ بلا سبب وجيه، أخذتُ ابحث عن مكان للاختباء خلف ستائر الكواليس.
آه كم كنتُ أتمنى أن أكون مثل مجرمي افلام الرعب الذين يرتكبون جرائمهم ويتركون أدلة إدانتهم وراءهم وخيطاً للمحقق لكي يهتدي إليهم، شهوة القط لخناقه وشهوة القاتل لتقدير صنعته وتحقيق شهرته؛ ولأكن صريحاً معكم: لم أكن في أي يوم مجرماً كاملاً، فرغم احتياطاتي وحذري وعقلي الإجرامي كنت دائماً أترك ورائي في مسرح الجريمة أدلة تدينني أكثر مما أردتُ أن أتركه.
ورغم ذلك لم يتمكن أيُّ محقق متفحص ناقد من أن يكشف نقطة ضعفي أو دليلاً يدينني. تبدَّل المحققون الباحثون في وقائع جرائمي لأنهم لم يتصورا أن وراءها قاتلاً واحداً، بل تخيلوا ان أناساً مختلفين ينتحلون جرائم كتَّاب مشهورين؛ وكانت جرائمي كالمخطوطات العتيقة المغبرة التي تنتظر من يشرحها ومن ينفض عنها البصمات ويعيد لجناحيها قوة التحليق من بين الرماد.
لو كنتُ مجرماً كاملاً، ما عدتُ إلى مسرح جريمتي الأخيرة وأثرتُ الشكوك بي؛ ليتني أنسى تلك النهاية غير المتوقعة في واقعة القتل الأخيرة، وما أزال اشعر بأنني غير مسؤول عن غباء المحقق الأخير؛ فرغم انني أضطررتُ إلى قتل المرأة، التي أسميتُها ذات يوم ذاتي، إلا أنني عدتُ لأرى ما إذا كانت ذاتي ما تزال ميتة؛ اللعنة، لو كنتُ شاعراً، لزيَّنتُ ذاتي وكسوتها بنفيس الألفاظ ونفحتها بعطر الملائكة ورخام المديح، لكنْ ها أنا قتلتها على مسرح الجريمة وحاولت تخبئتها في الكواليس..
اللعنة، لم اتوقع أن يقوم الباحث المحقق بزيارة منطقة الجريمة، وأن يفكر بأية طريق سآتي وإلى أين ساتجه وكيف ساهرب؛ تصرف المحقق وكأنه توقع جريمتي القادمة من معاينته الحارة والدرج وبوابة المسرح وبعض شهادات المارة. إذن، لقد استدرجت المحقق الناقد ذاته بنفسي؛ هي إذن شهوة القط لخناقه وشهوة القاتل لتقدير الآخرين لفعلته وتحقيق شهرته.
واقتحم المحقق الناقد موقع الجريمة، ولم يكن بوسعي أن أمتنع عن الضحك وحتى السعال لأنه كان على نحو رتيب يدندن ويغني أغنية: الليل يا ليلى يعاتبني، ويقول لي سلِّم على ليلى؛ ولمحته يدقق في كل شيء، في المنفضة، السجادة الحمراء، الهاتف، الجثة وأداة الجريمة، لكنه لم يرَ آثار إطاراتي المدماة الطرية على السجادة، وأن القلم الكبير المدمي الذي رميتُه أرضاً ليس أداة الجريمة، فالجرح يشير إلى ان الأداة سيخ أو مفك أو حتى إزميل، وحينما أخذ المحقق الناقد بالتعامل مع الجريمة باحثاً عن أوصاف القتيلة المفعول بها اسوء الأفاعيل والقاتل الفاعل، لم يرني وأنا، وراء ستائر الكواليس، أحرِّك القتيلة وأغيِّر أداة القتل كما اشتهي ويشتهي منطق افلام الرعب وقصص أدچر ألن پو لكي يمسكني متلبساً بالجرم المشهود بصفتي قاتلاً وفناناً بمنطقي الأدبي المريض.
اللعنة، لماذا يتحفني الله دائماً بمحققين نقاد أغبياء مثل ذلك المحقق!؟ أيها الغبي، لقد تعمَّدتُ أن أترك لك رغماً عن وعيي بعض الأدلة التي تطالبك بتقدير إبداعي في حبْك الجريمة والقاء القبض عليَّ، فلماذا لا تفعل!؟ اللعنة، ألا ترى الحركة الغامضة لبعض ستائر الكواليس!؟ ألا تسمع سعالي!؟ إنني أفعل ذلك لأجذب انتباهك!!
وفجأة أمسكني، تصرفتُ وكأنني أسعى إلى التملص منه، ضربني، أدماني، وقال: أخيراً، وقعتَ في يديَّ يا مستر أندرسون!
– اسمي ليس مستر أندرسون، اسمي جمال القواسمي!!
– وشو بتعمل عندك سلمى!؟
– سلمى؟ مين سلمى؟
– القتيلة سلمى الحايك!!
– الممثلة المكسيكية!؟ أنت مجنون؟ هذه ليلى..
– أيوة، أيوة، قصدي ليلى..
– انت بتعرف ليلى!؟ أسميتُها ذاتي ذات يوم.
– بعرفها من أربعين سنة!! بس مين اللي قتلها!؟
– أكيد كل الأدلَّة اللي لميتها من موقع الجريمة بتشير إليَّ!؟
– وأنتَ شو دخلك بمقتلها!!
– أنا القاتل!
– قصدك أنت السارق..
– سارق!؟
– ايوة، سارق، سارق جثة القتيلة.
– اين الجثة!؟
وفجأة نظر حوله فلم يرَ القتيلة ولا أي أثر لها.
صرخ المحقق: كانت هنا قبل قليل!! هذا دليل على انك لم تقتلها، لا بدَّ ان ثمة قاتلاً ما يزال في الجوار.
– انها في الكواليس!!
بحث عنها في الكواليس وأرجاء خشبة المسرح بلا جدوى. ثم ضحك وقال: ولكن ماذا ستهمني الجثة!!؟ فمن الواضح من تكون القتيلة!؟ لقد ميَّزتها: ليلى الحايك!!
– ههه ههه، انت محقق فاشل وناقد حمار..
– أنا اللي حمار يا كامل الباشا!؟
فاعترفتُ له وأنا أكاد أختنق وأنا مغتاظ منه: قلتُ لكَ ان اسمي ليس مستر أندرسون ولا كامل الباشا، ولا غسان كنفاني.. اس مـ ـي جـ مـ ال الـ قـ واسـ مـ ـي!! واصدقائي يقولون لي ابو الجِّيم او جوج..
– مَن الذي قَتل ليلى الحايك. السرقة واضحة.
– هذه ليست ليلى الحايك.
– انكر كما تشاء. الشخصية واضحة.
– هذه ليست ليلى الحايك؛ انها ذاتي، ذاتي نفسي، أحسنتُ اخفاء شخصيتها في نص القصة.
– لا أصدقك، أنت غير واقعي.. ذاتك غير مقتولة، وأنت غير قاتل، أما الممثلة التي رأيتها فإن بعض ملامحها تعود لـ ليلى قيس ومقتلها يعود لليلى غسان كنفاني.
– انت ناقد فاشل..
– كم تتمنى أن تكون شاعراً لتمشط ذاتك شعرك وتفتح أزرار قميصك وتنفخ الإيجو لديك وتقول: ها أنا ذا، أليس كذلك.. في قصصك أنت مجرد وسيط، لا غير. ليلاك او ذاتك لا وجود لها.
وحين أفلتني، ظانَّاً انه شلَّني، اتجهتُ إلى الكواليس حيث اختبأت جثة ذاتي، وأخذتُ أجرُّ ذاتي القتيلة وهي مضرجة بماء الشمس الحمراء على الخشبة، وأنا أقول له: سأواصل القتل، سأواصل القتل!! وأوقعتُ نفسي عن الخشبة، وحملتُ جثة ذاتي قتيلتي. وهربت وأنا أعتلها على كتفي وهي تقطر دماءً، كأنِّي أحدب نوتردام، وخرجتُ بها من باب المسرح، تاركاً ورائي كرسيّي المتحرك وحمى تصفيق منقطعة عن المنطق..
اللعنة، المحقق ما زال يشكُّ في شخصيتي وفي أدلتي وفي اعترافي الصريح وحتى في وجود الجثة!؟ اللعنة، ألا ينفع الكرسي المتحرك المنسي في موقع الجريمة أن يكون دليلاً من الأدلة التي تدين تورُّطي للمحقق الناقد لكي يضع يديه الملطختين بالغباء والتجاهل والعمى على جرمي ويلقي القبض على المجرم الذي فيَّ!؟
حسناً، رغم انني اعترف بأنني مجرم وقاتل، أقرُّ بانني قد لا أكون كاتباً يُحسن حَبْكَ القصص، لكن لم يولد الناقد المحقق الباحث الذي بوسعه أن يبحث في نص الجريمة ويفكِّك نقاط ضعفي. اللعنة، كان المحقق الناقد مجرَّد محقق مخطوطات عتيقة، لا غير، أو مجرد أستاذ مدرسيّ ملول، لا غير، وكنتُ أنا مجرَّد كاتب مغمور لا يأبه باعترافاته أحد، لا غير..
اللعنة، كنتُ مجرَّد كاتب قميء يجيد الانتحار والاختفاء، لا غير، ولم يكن قتلاي جمهور المسرح، رغم انني خدعتهم وناورتهم وراوغتهم، ولكن القتيلة كانت ذاتي، التي، في كل جرائمي السبعين، قتلتها أو اخفيتُها في زنزانة ما أو نفيتُها في مكان موحش بعيد عن مكان الحدث أو جعلتُها كومبارس او جمهوراً من شخص واحد لممثل مونودراما فاشل.
اللعنة، كان المحقق يصرخ ساخراً مصفقاً: يا سارق، براڤو، تستحق التصفيق لا الإعدام!! وكان الجمهور المقتول ضحكاً قد وقفوا جميعاً يصفقون لي بحرارة، ويرشونني بزخات من البراڤو ويمعنون في تعذيبي: براڤو، براڤو، براڤو..
وحتى ليلى القتيلة كانت بين اللحظة والأخرى تفتح عينيها وترفع يديها لتحيي الجمهور وكأنَّها ممثلة فأوسعها ضرباً وأقول لها: إِخرسي، لا وجود لك ولي ها هنا، هنا فقط جمهور وممثلون ونصٌّ وربما قرَّاء، أنت مكانك في الكواليس، في ذاتي، في الصندوق الأسود، في القبر، اللعنة عليك، تزهدي في الظهور، تعففي عن غيٍِّ البروز، أنتِ لا شيء يا ملعونة، اللعنة عليّ، قاتلك أنا، قتيلك أنا، اللعنة عليَّ، اللعنة عليّ..
21-3-2012
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر