مقدمة:
المدينة الجميلة التي حدثت فيها كل هذه القصص، ارض منتفخة كأنها حبلى تبالغ في ضخامتها لكن سماءها اقل مما توقعت. في المرة الاولى التي نزلت فيها لمركز المدينة شعرت وكأنني أدخل مضمار سباق، فجمهور شجاع من البنايات المتعددة الطوابق، مصفوفة فوق بعضها البعض احتشد على جبلين متقابلين ينافس كل منهما الآخر في ارتفاعه. وفي المرة الأولى هذه اجزمت بأنهما أعلى قمتين في العالم. عندما وقفت في وسط المدينة، شعرت بأن الجبلين الجبلين سينطبقان علي.
بيتنا في بطن الجبل يحتضنه الجبل بعناية فلا تصل إليه الشمس إلا في آخر النهار وفي فصل الصيف فقط، من شرفة البيت أشاهد العمارات المجاورة العالية تحيط بي من كل جانب، البنايات هنا قريبة جداً من بعضها و مساحات الخصوصية قليلة. من شرفة بيتنا نرى الجبل الشمالي مباشرة تبدو البيوت وكأنه قد تم الصاقها على الجبل بمادة لاصقة وقد تسقط في أي لحظه.
هذه مدينة مغلقة بل محكمة الإغلاق مدينة بلا أفق، الجبل من أمامكم والجبل من خلفكم، مدينة محصنة كأصحابها الذين يحرصون على الانغلاق على نفسهم في كل أساليب حياتهم حتى في اسعد الأوقات، رغم ذلك فقد بدأت أحبها ذكرى فذكرى، حتى صرت اعشق رائحتها، وقصصها و أسرارها، و نكهتها الخاصة بكل جريء. عمقها مخيف وأبعادها العمودية تجبرني على رفع رأسي دائما للأعلى كلما أردت التوجه إلى فكرة، تشعرني بالحماية أحياناً وبالاختناق أحياناً أخرى. تناقضاتها كثيرة، أحلامها كبيرة لكنها قليلاً ما تحقق الأحلام ، قاسية بعض الشيء لكنها في النهاية تضمني.
باختصار هي مدينة كنز ملعون، مغرية، حانية، عصية، غامضة في استقبال أي غريب.
تقول خرافة أن البحر كان يملأ تجويفها بين الجبلين لكنه انحسر بعد أن اختلفت نوايا البشر.
وقفتُ في وسط المدينة وتمنيت على البحر أن يعود فنزلت كتلة مضيئة من السماء واستفاق الناس جميعاً من نومهم، سحبت منهم كتلة الضوء مادة سوداء وصار الجميع طيبين، ثم تفجرت ينابيع من الماء في الجبل الجنوبي وخرَّ الجبل الشمالي وصار رملاً ناعماً وصدفاً ذهبياً، فتكوَّن البحرُ ازرقاً كزرقة السماء، وصرنا نلهو في الماء ونسبح. وكان حلماً جميلاً لم يتكرر.
هاتف
حيث أننا الوحيدون في كل البناية من لديه هاتف، فقد أعطى هذا الحق لكل الجيران بان يوزعوا رقم هاتفنا على من يعرفوهم من أقارب وأصحاب، والذين كانوا لا يترددون بالاتصال بنا لأسباب ضرورية وغير ضرورية، وفي كل مرة كان على أي منا أنا أو أخواتي أن نذهب لمناداة احدهم.
الوقت ظهراً، وها هو الهاتف يرن للمرة السادسة منذ الصباح، ينتظر طويلاً قبل أن يرد احدهم، مرت خمس ثوان، إنها أمي تنادي علي لاستدعاء جارتنا أم احمد : “عماد روح عند نجاة .. قلها : أختك على التلفون.
هرعتُ إلى الباب قبل أن تسبقني أختي الكبرى ناديا، تزاحمنا أنا وهي بشدة عند الباب، ظلت تدفعني بأطرافها الأربعة نحو الداخل إلى أن تدخلت أمي وخلصتني من بين يديها. هذه الشراسة كان الداعي ورائها “ملبسة” تعطيها لنا جارتنا الكريمة في كل مرة نناديها لترد على الهاتف، لم أود التنازل عنها كما في كل مرة لناديا.
صعدتُ الدرج مسرعاً بعد أن تأكدت أن باب البيت قد أغلق خلفي، نظرت من نافذة الدرج نظرتي الروتينية كلما صعدت أو نزلت، إنهم جنود، مشاة من وحدة جولاني يمشون في الشارع، إنهم هؤلاء ذوي القبعات الخضراء الذين يخشاهم الجميع، حتى أبي! يبدو أنهم يغيرون النقطة المناوبة في عمارة “أبو صالحة”، عمارة عملاقة في أعلى الجبل وقد احتل الجنود الطابقين الأخيرين من البناية منذ مدة طويلة ولم يغادروها، كنا نراقبهم ينشرون أغطيتهم الكاكية على النوافذ.
سهوت في أولاد يلعبون الكرة في نهاية الشارع، ماذا سيحصل لو لعبت معهم قليلاً؟ تمنيت لو يسمح لي أبي باللعب معهم، أبي الذي يسجننا داخل ساحة لا تتجاوز مساحتها الثلاثة أمتار مربعة معتبرا أنها مساحة كافية لان نلهو فيها طوال النهار دون ملل، يخاف علينا من أشياء كثيرة لا يخبرنا ما هي.
فر الأولاد جميعاً بمهارة بعد أن حذَّرتهم أصوات الناس بوجود جنود في الحي، لكن الجنود اختفوا فجأة، ترى أين ذهبوا أي بيت دخلوا؟ تذكرتُ نجاة وأختها المنتظرة على الهاتف عندما لفتت انتباهي على النافذة المقابلة لبنايتنا جارتنا العانس ميساء وقد وقفت تلوح لي بشدة، لم افهم ما تحاول قوله، أدرت وجهي عنها وبسرعة متوجهاً إلى بيت نجاة، عندها اصطدم وجهي بجسم ضخم ببطنه تحديداً، بلونه الكاكي وبشرته السوداء من اثر الشمس ورائحته النتنة قبض على رقبتي بكلتي يديه وصار يشد عليها حتى كاد يخنقني، عندما تكوم زملاؤه حولي أيقنت أن الجنود الذين اختفوا قد قصدوا بنايتنا، الأسلحة التي يحملونها أضخم مما توقعت، كم هو مخيف أن يقترب منك فم الموت إلى هذه المسافة القصيرة جدا، صار القابض على عنقي ينثر بقايا لعابه على وجهي وهو يصرخ ” انت بترمي علينا حجار ”
– لا لست أنا، لقد خرجت لتوي من البيت، ها هو بيتنا لم اخرج من باب البناية حتى.
” أَنْظرُ الى باب بيتنا المغلق علَّ أمي تسمع صراخهم وتخرج لتنقذني، لكن كيف لها أن تسمع وهي تطبخ على البابور؟ لماذا تنفذ اسطوانة الغاز اليوم بالذات وفي هذه الساعة. لا احد يخرج أو يدخل إلى البناية، صرت ارتجف أكثر، جفَّ ريقي ولم اعد أقوى على الكلام، كلما صرخ هذا الأحمق في وجهي كلما خر جزء من عظامي، وزاد الألم الذي انتابني في أسفل بطني.
صوت احدهم قادم من أسفل الدرج، الحمد لله، لكن أول صوت يصدره كان كافياً بان أبلِّلَ بنطالي، انه احد الجنود برفقة كلب ضخم، لكن رب ضارة نافعة، صوت الكلب اخرج نجاة من بيتها، ها هي تحاول الحديث مع الجنود وتزيحهم عني بقوة.
– بيته هنا انه لا يخرج أبداً ماذا تريد منه؟ ” يلعن ابوكم شو بدكم في الولد هادا كان جاي عندي ” .
ما أدراها نجاة أني كنت اقصدها؟! آه، إنها تحاول أن تجد لي حجة تقنعهم بها.
– رد الوحش الآدمي: انت بتكذب .. بتروح عالسجن انت واياه
قاتلتهم نجاة باستبسال، إلا أنهم بدأوا بالضحك والقهقهة، هؤلاء الحمقى، تبين لنا أنهم يتسلون فقط وتركوني وانسحبوا.
صارت نجاة تتمتم بالسب واللعن بألفاظ جديدة علي بعض الشيء.
– اذهب إلى أمك ولا تخرج من البيت، إذا احتاجت أمك شيئاً فلترسل ناديا إنهم لا يتعرضون للبنات.
لم استطع أن انبس ببنت شفة، لا اشعر بشيء، حلقي جاف تماما بعكس بنطالي، قدميّ لا تثبتان في مكان محدد، لا أستطيع وصول باب البيت، آه لو أننا ننتقل بالأفكار، بمجرد أن ارغب بان أكون داخل البيت أكون هناك بنفس اللحظة، يا الهي ما ابعد الباب.
تفتح ناديا باب البيت مسرعة إنها قادمة لمناداتي، بدأت تصرخ ناديا موبخة:
– لماذا تأخرت؟ أين كنت تلهو أيها المعتوه ؟
دخلتُ البيت باتجاه المطبخ أريد أمي، التي بدأت تمطرني بالأسئلة:
أين كنت ؟ لماذا تأخرت ؟ عماد؟ لماذا لم تنادي نجاة ؟ لماذا لا تجيب؟-
لا أعرف من أين أبدأ لدي رغبة بان أقول كل شيء دفعة واحدة بكل التفاصيل، لا أعرف ماذا أقول، أعجز عن وصف الأمر.
– ناديا تسألني : أين الملبسة ؟
فأدير وجهي نحو الحائط وأجهش بالبكاء.
ما هو حجم خسارتنا؟
كان يتمتم ابي وهو يشاهد الخبر عبر شاشة التلفزيون ويتابع ايضاً عبر صوت الراديو الأوضاع في بقية المناطق، وقد علت وجهه ملامح الانكار والانهزام في آن واحد، و دمعت عيناه، إنها المرة الأولى التي أراه فيها يبكي. أبي يبكي، لا بد ان أمراً مهولاً قد حصل. اغتالوا ابو جهاد هذا ما نقله صوت المذيع.
غضب المدينة
لا أعلم من أين جاء كل هؤلاء الناس، هل فجرتهم الارض في نيسان كما تفجر الينابيع؟ خرج الآلاف إلى الشوارع، بصوتهم يهتفون فداء لروح “ابو جهاد” هزوا أبواب البيت ونوافذه وهزوا قلبي الضعيف، لم أكن اعرف من هذا الذي يهتفون باسمه ومن قتله وما علاقته بكل هذه الجموع لكني أيقنت أن خسارتنا كبيرة، الجميع كان يبكي، الجميع كان يغضب، ولهذا بكيت عليه ايضاً.
مر نهر الغاضبين الجارف من امام بيتنا وسحب معه كل من في الطريق حتى عمي نضال اصغر اعمامي خرج بسرعة دون اذن والذي اندفع بين الجموع وذاب فيهم ولم اعد اراه تركه ابي يخرج ولم يردعه، سمح لجميع أعمامي بالخروج وكأنه يريد ان يقول لهم انه يوم حزن وغضب فاغضبوا .
المدينة كانت تضج باصوات السماعات والهتافات والتكبير من كل الاتجاهات وكأنها غدت رجلا ضخما يخبط الارض بقدميه.
لم يعد احد من اعمامي حتى وقت متاخر رغم حظر التجول، اصيب العديد من الشبان و نال احد اعمامي رصاصة مطاطية في وجهه.
غصة المدينة
ارتفعت الشمس في وسط السماء، المدينة كلها ساكنة بأسطح سوداء وشرفات زُرع بجانب نباتاتها أعلام سوداء بأحجام مختلفة ذكرتني برواية الزنبقة السوداء. صدقت للحظة أن هذه الأعلام ستنبت أعلاماً صغيرة، البعض تجرّأ و وضع العلم الفلسطيني وكأن الناس دخلوا في حالة من عدم الاكتراث، انه إحساس اقرب إلى اليأس.
اقتربتُ من ابي الذي جلس يستمع الى الراديو على شرفة بيتنا وقد اطلق شعر لحيته، وقد بدت المدينة من خلفه وكأنها امرأة جميلة لبست شالاً أسوداً، واحنت رأسها، انحنت نابلس رغم علوِّها امام هذا الاغتيال.
سألت أبي: ما حجم خسارتنا؟
لم يجبني، تنحى بوجهه جانباً وشغل نفسه بتثبيت العلم الأسود الذي زرعناه البارحة في الاصيص الكبير.
خذوا الحكمة من فيه عمي
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر