إننا لا نناقش كون الحجاب/ الخمار، ليس كما يزعم السلفيون بمختلف ألوانهم وتشكيلاتهم، لباسا أو “زيا إسلاميا” بمعنى أن الإسلام هو الذي ابتدعه وشرّعه، ولكنه لباس سابق للإسلام، سواء عند العرب أو عند اليهود والنصارى أو عند اليونانيين الوثنيين (القرن الخامس قبل الميلاد) أو عند المصريين (القرن الثالث قبل الميلاد) أو عند الآشوريين (القرن الثاني عشر قبل الميلاد) أو عند الفرس (التشادور) أو عند الهنود إلخ… ومهما تعددت أشكال هذا الخمار عند هؤلاء الأقوام على اختلاف أجناسهم ودياناتهم وثقافاتهم وحضاراتهم والحقب التاريخية التي عاشوا فيها، فإن فرض لباسه على النساء ارتبط عندهم جميعا بنظرة رجعية تعتبر المرأة أو بالأحرى جسدها أو أجزاء منه كالشعر، “عورة” أو “مصدر إثارة لغرائز الرجل” أو سببا لارتكاب “الخطيئة” أو “أداة متعة للرجل” أو “ملكا” له، لذلك لا بد من “ستر” ذلك الجسد أو هذا الجزء أو ذاك منه وإن لزم الأمر حجب المرأة بالكامل عن العيون.
ولمّا جاء الإسلام في مطلع القرن السابع ميلاديا، لم يكن ليخرج عن سياق التاريخ أو يتعالى عنه، بل إنه كان في صلبه ومن صلبه. فلم يتجاوز نظرة عصره وبيئته للمرأة إلا في حدود جزئية، بل في حدود ما كانت تسمح به درجة التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري. ولكنه حافظ على جوهر النظرة الأبوية/الذكورية التي تعتبر المرأة في مرتبة دون مرتبة الرجل في كافة مجالات الحياة الاجتماعية. وقد تولى الفقهاء الذين ارتبطوا دائما بالسلطة الحاكمة وبالطبقات الاستغلالية السائدة، تقنين تلك النظرة في سلسلة من الأحكام أخطر ما فيها أنها تضفي طابعا قدسيا على دونية المرأة وعلى تبعيتها للرجل و”سيادته” على جسدها لحملها على قبول هذا الوضع المُملى من “السماء” حسب زعمهم، والذي يُعاد إنتاجه باستمرار بنفس الغلاف الديني، واتهام كل من يطرحه محل سؤال بالكفر و”الزّيغ” عن مبادئ الإسلام أو تحريفها. و قد شمل ذلك التقديس الحجاب/الخمار الذي قُدم على أنه “فريضة” لا يكتمل “إيمان المرأة” إلا بارتدائه.
إن الحجاب/الخمار جاء مظروفا في القرآن وخاليا من كل بعد روحاني، أو عقدي أو تشريعي. كما أن القرآن لم يحدّد له شكلا معينا. وقد خُصّت به في البداية “زوجات النبي” (سورة الأحزاب آية 53) وكان يعني فصلهن عن الرجال بستار، ثم شمل في مرحلة ثانية نساء المؤمنين، ولم يرد هنا بالمعنى الأول بل بمعنى الجلباب (سورة الأحزاب، آية 59) وهو لباس متداول على ما يبدو، يُغطّي كامل الجسم ويستر المرأة التي تقضي حاجتها في العراء، وأُريد منه أن يكون علامة لتمييز “المؤمنات” و”الأحرار”، حتى أن لباسه منع عن الإماء والبغايا. وفي آية ثالثة تمّت الإشارة إلى الخمار (سورة النور، الآيتان 31و32) وهو في هذه الحالة عبارة عن منديل يُغـَطـّي فتحة الصدر.
ولكن الفقهاء هم الذين جعلوا من الحجاب/الخمار “زيّا إسلاميا”. وبما أن معظم مفسري القرآن كانوا من الفرس فقد أعطوه شكل “التشادور” المتسم بالصرامة. و شيئا فشيئا تحول الحجاب من لباس لتغطية الجسم/العورة أو لـ”الحشمة” إلى حَجْب النساء في البيت، خصوصا في المراكز الحضرية. ووصل الأمر إلى حد اعتبار نظراتهن وأصواتهن “عورة”، واتسع زنا المرأة ليشمل حواسّها فأصبح الزنا، زنا بالعين والصوت والأذن، علاوة على الزنا باللمس، فتم تطويق النساء من كل الجوانب تطويقا ماديا ومعنويا.
و من الملاحظ أن الخمار لم يلبسه كل النساء. فالنساء خارج المدن بقين في الغالب سافرات. كما أن اللواتي لبسنه لم يفعلن ذلك حسب زي منمّط في كافة البلدان والأمصار. فالخمار اتخذ أشكالا عدة وفقا للتقاليد الخاصة بكل بلد ولمناخاته وعاداته الثقافية والاجتماعية. و لمّا فتحت البلدان العربية والإسلامية عيونها على العصر نتيجة الصدمة الاستعمارية، ووقفت على مدى تخلفها الحضاري مقارنة بتقدم البلدان الأوروبية وشعرت بالخطر الذي يتهددها إن استمرت على ما هي عليه، سعت إلى تدارك أمرها. وكانت المناداة بتحرير النساء من العبودية وإخراجهن من ظلمات عصور الانحطاط أحد أهم عناصر “الإصلاح الاجتماعي” الذي طالب به المثقفون المستنيرون. و في هذا الإطار حصلت معركة السفور والحجاب في أكثر من قطر عربي وإسلامي بما فيها تونس في مطلع القرن العشرين. وكان دعاة تقدم “الأمة” يدافعون عن خروج المرأة من البيت والتحاقها بالمدرسة ومساهمتها في الحياة العامة، بينما كان دعاة الحفاظ على الماضي بنظامه الاجتماعي والسياسي المتخلف وقيمه الإقطاعية البالية التي “تُبلـّس المرأة”، يدافعون عن مواصلة حجب النساء ويدعون عموم الناس، مستغلين جهلهم ومشاعرهم الدينية، إلى “التعبئة” ضد “الكفرة والملحدين” الذين ينادون بـ”تحرير النساء”.
ولكن هذه الدعوات لم تمنع النساء، في عدد من المجتمعات العربية والإسلامية، من تحقيق مكاسب وقطع خطوات نحو تحررهن. و قد شمل هذا التحرر لباسهن الذي خرج من دائرة “المقدس” أي من دائرة “الحلال والحرام” و”تـَعَلـْمَنَ” ضمن العلمنة الجزئية التي شملت المجتمع، وأصبح خاضعا لاعتبارات أخرى غير الاعتبارات الفقهية التقليدية (الذوق، الموضة…). وظل الوضع على هذه الحال إلى أن دخلت الأنظمة الاستبدادية التي خلفت المستعمر في الحكم في أزمة خانقة اقتصادية واجتماعية سياسية وثقافية وقيَميّة. وهو ما أدّى، في غياب بدائل تقدمية، وفي إطار هجمة خارجية امبريالية شرسة، واتساع نفوذ مراكز الرجعية العربية الكبرى ومنها السعودية وتوابعها الخليجية التي تصرف أموالا طائلة وتجند فضائيات كثيرة لنشر الدعوات السلفية، إلى عودة الظاهرة الدينية بمعناها الشامل إلى البروز في شكل أحزاب وتيارات سياسية ومراكز ثقافية سلفية، ولكن أيضا في شكل طرق تنشر الشعوذة والخرافة. و قد ركزت هذه الأحزاب والتيارات و الطرق دعايتها في اتجاه النساء لموقعهن الحساس داخل العائلة ودورهن الممكن أو المفترض في الحفاظ على العادات والتقاليد وبالتالي على العائلة التقليدية.
أزمة مجتمعات “الاستقلالات” وعودة الحجاب/الخمار
وفي هذا المناخ العام عاد الحجاب/الخمار الذي ظُنّ أنه اندثر إلى الأبد، إلى البروز في المجتمعات العربية “المُعلمنة” نسبيا، وفي صفوف الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش في البلدان البرجوازية الغربية، علاوة على وجوده في البلدان ذات الأنظمة الإسلامية التي يُفرض فيها لباس الخمار بحكم القانون (إيران، السعودية…). و لكن الخمار “الحديث” يختلف عن الخمار التقليدي متعدد الأشكال فهو خمار نمطي على العموم، خاضع لعدد من الشروط (تغطية الرأس والجسد بالكامل عدا الوجه واليدين ابتداء من المعصمين) التي وضعتها التيارات الإسلامية السلفية. ويتعايش هذا النمط من الخمار مع أنماط أخرى مثل “النقاب” أو “البرقع” أو”التشادور” الإيراني وغيره. وهي تمثل مجالا لبروز الفوارق الطبقية والاجتماعية فالخمار أخْمرة والنقاب نـُقـُبٌ، والتشادور “تشادورات”، فيها ما هو خاص بالثـّرِيـّات وفيها ما هو خاص بالفقيرات، وفتيات ونساء الفئات الوسطى، وهي أحيانا موحدة اللون وأحيانا أخرى ملونة بألوان زاهية وهي تـُلبس مع ألبسة فضفاضة أو مضبوطة على الجسم (سروال الدجينز إلخ…)، فهي أقرب إلى الموضة منها إلى أي شيء آخر.
وكما تتعدّد أشكال الخمار، تتعدد أيضا بواعث ارتدائه فهي دينية أحيانا إذ يعتبر جزء من النساء أنه جزء من ديانتهم، بل فريضة “إسلامية”، حسب ما سمعوه في الفضائيات خصوصا، وهي اجتماعية أخلاقية أحيانا أخرى لإخفاء الفقر، أو تجنب المشاكسة في الشارع في ظل التدهور الأخلاقي السائد وتفاقم الاعتداءات على النساء، وهي أحيانا ثالثة تعبير عن هوية في وجه العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تسعى إلى القضاء على المجتمعات الصغيرة والضعيفة وفرض التنميط عليها أكلا ولباسا وذوقا إلخ… و إذا كان يوجد من الفتيات والنساء في تونس من ترتدي الخمار عن قناعة، فإنه يوجد منهن من تلبسه لأنه مفروض عليها فرضا بشكل من الأشكال من الأب أو الأخ أو القريب أو الزوج. وإذا كان لباس الخمار مقترنا في ذهن قسم من المتحجّبات بمواقف رجعية من المرأة مثل الخضوع للزوج وقبول تعدد الزوجات والاكتفاء بنصف نصيب الذكر من الإرث، فإن لباسه لا يمنع فتيات ونساء أخريات من أن يقترن عندهن برفض تلك المظالم أو على الأقل الصارخ منها ومن أن يتخذنه وسيلة لتشريع خروجهن من البيت والمساهمة في الحياة العامة.
ذلك هو الحجاب/الخمار في تنوع دوافع ارتدائه في معيشهنّ الاجتماعي والنفسي والثقافي والسياسي الحالي، وفي تعدد التصورات والتمثـّلات التي تحملها عنه مرتدياته، ولكن هذا التنوع والتعدد لا ينزع عنه بأي حال من الأحوال دلالته الموضوعية أو بعده التاريخي الاجتماعي بوصفه لباسا قائما، في الأصل، على نظرة تستنقص النساء، وهي النظرة التي ما تزال تعبّر عنها بشكل واع وواضح التيارات الدينية الرجعية سواء كانت في الحكم أو في المعارضة. وهذه التيارات إذ تضفي على الحجاب/الخمار طابعا دينيا، قدسيا فمن أجل طمس تلك الدلالة أو إخفاء ذلك البعد ومنع نقاشه وجعل التقديس مدخلا لفرض سياسة رجعية على النساء العربيات والمسلمات (تعدد الزوجات، حرمان المرأة من حقوقها المدنية والسياسية، إن جزئيا أو كليا…).
استلاب الحجاب لا يبرّر قمع المتحجبات
ولكن أن يكون ذلك هو المغزى الموضوعي للحجاب، فهو لا يمثل مبرّرا لمنع الفتيات والنساء من ارتدائه وإكراههن على نزعه أو حرمانهن، في صورة تشبثهن به، من حقوقهن الأساسية كالذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو إلى مراكز العمل من إدارة ومؤسسات عمومية. إن هذا الموقف القسري، التعسفي، يتعارض مع المبدأ العلماني القاضي باحترام حرية العقيدة. فمهما كان الحجاب/الخمار مهينا من الناحية الموضوعية للمرأة، فإنه توجد من المتحجّبات من تعتقد أنه “فريضة” و”جزء من العقيدة”. كما أن من بينهن من ترى فيه “جزءا من شخصيتها الإسلامية”. وهذا الموقف الشخصي لا يمكن معالجته بالقمع، إذ لا يجوز قمع النساء المتحجّبات بدعوى أن ذلك من “مصلحتهن” وفيه “دفاع عن تحررهن” ويهدف إلى “إنقاذهن من الاستعباد الذاتي” أو من “استعباد الرجل والمجتمع”.
إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا. لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم. والمرأة التي تلبس اليوم الحجاب/الخمار يمكن أن تتخلى عنه غدا إذا اقتنعت بأنه لا يلائمها وأنه مناف لحريتها وتحررها. أما القمع فيولـّد الخوف، ولا يخلق قناعات جديدة، بل على العكس من ذلك، يعمّق العقائد والقناعات القديمة التي تبقى تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها بشكل مكثف أكثر من ذي قبل.
ومن نافل القول إن لباس الحجاب/الخمار يكفّ عن أن يكون حرية شخصية إذا كان ناجما عن إكراه، لأن الإكراه يمثل اعتداءً على تلك الحرية. وإذا كان للقانون أن يتدخل، في نظام ديمقراطي تُضمن فيه الحريات الفردية، ففي هذا المستوى، وذلك لمنع الإكراه وتجريمه ومعاقبة مرتكبيه صيانة للحرية الشخصية. وفي مناخ كهذا فقط، يمكن أن تتوفر للفتيات والنساء إمكانية اختيار لباسهن بحرية، وفقا لقناعاتهن الشخصية وهن يعرفن أنه بإمكانهن اللجوء إلى القانون إذا حاول طرف ما إرغامهن على ارتداء هذا اللباس أو ذاك.
أما على المستوى الفكري فالأمر يختلف. إن الديمقراطي، التقدمي، المتماسك فكرا وممارسة، الذي يتصدّى سياسيا لقمع المتحجّبات ويندد به ويدافع عن حريتهن الشخصية، طالما أنهن يعتبرن ارتداء الخمار قناعة أو “عقيدة”، إن هذا الديمقراطي من حقه، بل من واجبه أن يخوض معركة مبدئية وعميقة ضد هذا اللباس لإبراز المضامين الرجعية للمنظومة القيميّة و الاجتماعية التي يندرج ضمنها و التي تستنقص المرأة. وهذه المعركة ينبغي له أن يخوضها بأسلحة فكرية وفكرية فقط، بعيدا عن كل إرهاب إيديولوجي، لأن العلمانية، كما بيّنا، فضاء للمساعدة على الحوار/النقاش الحر والديمقراطي.
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري
رهائن في عقل زوكربرغ / زادي سميث
الكاتب والمحَرَّم – مع راجي بطحيش