ترجمة / أحمد فاضل
سيليا رين*
لديّ صديق يعمل قاضيا مغرم بالأدب الروسي وهو دائم التشجيع لليو تولستوي ، تشجيعه هذا جاء لأسباب ثقافية وأدبية بالدرجة الأولى وقد حاول دراسة اللغة الروسية ليكون أكثر معرفة بتولستوي وأعماله التي يدافع عنها بقوة ، لذا فقد التحقنا سوية بدورة مكثفة للغة الروسية حملت عنوان ” آنا كارنينا وصانعها” من أجل الفوز بقرائتها بلغتها الأصلية وإثراء معلوماتنا عن كاتبها تولستوي والتعرف على الكيفية التي كان يكتب بها ، وكيف كان يعيش ، وآراؤه السياسية ، وتطور فكره أثناء كتابته لها ، وبطبيعة الحال فقد بدأت تلك الدورة منذ اليوم الأول عنه وبدأنا نتعرف على أولى حروف الرواية التي وجدنا صفحاتها قد بلغت 862 وكان لزاما علينا التقيد بالوقت حتى نستطيع قرائتها وأن نكون أكثر صبرا من أوستن التي شغفت هي الأخرى بها .
بعد قراءة طويلة للرواية وجدتني مخطئا في أحكامي الأولى عنها خاصة فيما يتعلق بالأجواء النفسية التي حاول تولستوي إثارتها والتي أستطيع أن أرى الأشكال الرئيسية لهذه الأجواء أو الأفكار التي كان يأمل من ورائها إيجاد أرضية أخلاقية قوية تحتاجها البشرية مبنية على وعي شخصياتها ومنها شخصيتها الرئيسة آنا كارنينا ، وواحدة من السمات الأكثر إثارة للإعجاب في هذه الرواية هو كيف استطاع تولستوي أن يكون قادرا على الخوض عميقا في الحياة الداخلية لشخصياته ، ومع أننا قد لانتابع التحولات المعقدة والمتناقضة في عقولنا والدخول اليها في ممرات طويلة ، نبدو أحيانا أقرب إلى الحقيقة مع أنفسنا في سؤالها عن كيفية عمل كل هذه العواطف من خلال حياتنا وهي أي الرواية فيها الكثير من التحليل الدقيق عن ما هية هذه الحياة التي أحاول جاهدا تأشيرها في مخيلتي لكنها تحتاج مني وقتا طويلا لتثبيتها على الورق عند محاولتي الكتابة عنها .
كنت أود التركيز على قسم آخر من الرواية غير التي تكلم بها عن مشاكل آنا كارنينا واعتقد أن الجزء الثامن منها لايناسبها بشكل جيد للغاية مع بقية أجزاء الرواية وغالبا ما أشعر أنه وضع مصطنع ومضاد لما كانت تحياه آنا ، لكنه بدا صحيحا من الناحية النفسية بعد عودتها الى البلاد ، إنها في هذا الجزء من الرواية يظهر تولستوي أكثر اندفاعا لنشر العديد من الأفكار التي تم تبنيها في قرننا الحالي في علم النفس المعرفي على وجه التحديد ، حيث ينخرط في ذلك النوع من عمليات التفكير التي حددتها البحوث الحالية دون أن يكون بلغة علم الأعصاب الحديث ، تولستوي وضع دراسة شخصية مقنعة لأسس التماثل الساكن بدهاء مع العاطفة دون المساس بالدين ، فالتحول الروحي عنده يعطي شعورا بأهمية وجود الدين والإيمان به قد لايعتمد على لاهوت ولكن على نوع من الاندفاع الفطري نحو الخير ، في آنا كارنينا يقول تولستوي إن القوة يمكن أن تكون سببا في ضياع الإنسانية التي وهبها الله في النفوس ، أو تكون في غير محلها على الأقل وهي حقيقة ليست بحاجة إلى ألعاب العقل كما في فوضى الأفكار أو في فلسفة تشكو جفافا في العلم ، بل هي تجربة تصقلها الحياة في مواضع كثيرة ، والذي أريد أن أركز عليه هنا ليس الإيمان المحدد في الله عند تولستوي بل على علم النفس الذي عبر عنه غريزيا والذي هو من صميم عمليات الوعي البشري كما يقول وكانت رؤيته في ذلك العلم لاتتوقف عند قبول أو رفض الواقع الخارجي الدنيوي الذي يدافع عنه ، لكنه موقف محدد على أساس الدين في آنا كارنينا وهو الموقف القريب من حياته الخاصة والإبقاء على قوة الدفع المعنوي للخير في حين يرفض كل ما له علاقة بالخوارق أو المعجزات .
2
الرواية شهدت في نهايتها وعيا دينيا تطور في المراحل التي توازي التفسير الأكثر إقناعا لها لتطوير وتشغيل الوعي الذاتي ، تولستوي هنا في آنا يكتب عن هذه المشاعر التي هي أسس تأتي بعائدات العقل ووعيه بدأ من مشاعره البدائية التي هي جزء من أنظمة التماثل الساكن في أعقاب تسلسل مناقشتها في النفس العاطفية والتي هي ركيزة سلوكية ودوافع للتفاعل مع العالم الخارجي أو لتغيير تلك الركيزة الداخلية للجسم من أجل تحقيق الحفاظ على التوازن العاطفي المعقد إلى حد بعيد والذي يعمل تلقائيا بسبب تعرضه للتطور ، فالعواطف مثل ( الخوف والغضب والمفاجأة ) موجودة في كل مكان تحياه النفس البشرية كما هي موجودة في كل الثقافات ، ومع ذلك هناك عواطف خارجية وعواطف دفينة مثل ( الرضا وعدم الرضا ) وعواطف اجتماعية مثل ( الخجل ، والشعور بالذنب ، والإعجاب ، والرحمة ) التي هي أكثر وعيا بمحيطها وتأثرها به وأكثر ليونة ، إلا أنها تعمل دائما بنفس الطريقة وردود الفعل على الجسم وما يحيطه من تقلبات في بيئته ، هذه الإنعكاسات حملها تولستوي بشخص ليفين أحد أبطال الرواية الذي أعاد فيه الإيقاع الطبيعي للحياة مستعيدا فيها ما تعلمه منها في نهاية المطاف على الرغم من أنه ولفترة طويلة لايعترف بها ، لكنه أخيرا يعد بإقامة التوازن لحياته من الإرتباك والتصنع في المدينة والمجتمع ، تولستوي نراه مندفعا بتحليل كل ذلك من داخل ليفين حيث يبدأ ببناء تفسير آخر لحياته وهو لذلك يسرد سيرته الذاتية والخاصة من خلاله في الرواية وكما لوكان لاإراديا نراه كمن يسير في أعمق أعماق الأرض وكأنه شفرة حادة لمحراث قاطع لايمكن الخروج دونه .
تولستوي في آنا كارنينا يعطينا طريقة أخرى لعودة ليفين إلى الإيمان وذلك بتقديمه نظرية نفسية تكمن في أنه يمنح أسبابا للإعتقاد بذلك الإيمان ، ومع أنه احتضن إيمانه عندما كان شابا فإنه يعطي معنى لعالمه ، إنه يشعر بقوة لدرجة لايمكن أن يعيش بدون معنى فيصور ذلك بإخفاء حبل له لئلا يقع في إغراء مخيف قد يقتل نفسه دون شعور منه وبعد أن يعثر على رضا دائم في كلمات ونظريات الفلاسفة وعلماء الحديث ، هنا ليفين يتخلى أخيرا عن الأسباب التي كانت تحول وإيمانه متخليا بالوقت نفسه عن كل الذي كان يمنعه أن يكون راشدا في عودته لواقعه .
عندما فكر ليفين كيف كان ولماذا كان يعيش ؟ قال في نفسه إنه لم يجد جوابا لذلك مما دفعه إلى اليأس ، ولكن يبدو أنه عندما عاد ليسأل نفسه هذه الأسئلة مرة أخرى عرف كيف عاش حياته بثباته على الإيمان ، وهو مستلقيا على ظهره يحدق في السماء التي خلت من الغيوم قال :
– لاأعرف أن هذا يمكن أن يكون هو الفضاء اللانهائي ؟ وليس بمقدوري القفز فيه ؟ لكن مع ذلك أشعر أن مسمارا ضرب عيني فتوتر بصري فلا يسعني رؤية ذلك الفضاء على الرغم من معرفتي أنه مساحة هائلة لاحدود لها ، وأكثر من ذلك تخونني رؤية ما وراءه ؟
أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهن ليفين :
– ماذا لو أتممت قراءة هذه الفلسفات في مدة عام كامل ؟ وإذا ما قرأت كل ما في هذه الكتب هل يمكن فهمها جميعا ؟ وهل يعقل أن كل ما يقولونه فيها غير صحيح ؟ إذن لماذا نقرأ لهم ؟
هو يقول عن نفسه أنه يود لو يعتقد في كل الذي يقولونه ، ثم لماذا لايعتقد ذلك ؟ يجب أن يكون كذلك لأنه يرى أكثر مما نراه ، الحاجة لفهم معنى الحياة هي التي تدفعه للبحث عنها وهو أمر خارج عن نفسه وقوي لدرجة يدفعه للبحث عن عدة أسباب للإيمان بذلك ، هذه الخطوات من التفكير كانت مفيدة للغاية لأغراض فهم العقلية التي تسير كل هذه الكائنات الحية أو تدمرها ، أما الأخذ بالمصطلحات التي حلت محل هذه المعتقدات فإنها لم تعط توجيهات لحياته ، بل شعر ليفين فجأة أنه مثل شخص استبدل معطفا مصنوع من الفرو السميك بثوب آخر مصنوع من الشاش الرقيق يواجه صقيعا لأول مرة ، لذا فهو أصبح أكثر اقتناعا بشكل واضح وليس بواسطة الحجج وإلا وجب عليه الفشل أو الموت .
ليفين يعتبر كل ذلك مشكلة بالنسبة له فيقول في إحدى صفحات الرواية :
– إذا أنا لاأقبل الردود التي تقدمها المسيحية على أسئلتي الخاصة بحياتي ، ومع ذلك لاأقبل حتى حلولها ؟ وقال انه ليس فشل في العثور على ترسانة كاملة للإجابة على قناعاته ، بل حتى لايستطيع أن يجد ما يشبه جوابا على ذلك .
ليفين يحسم أمر كل تلك التساؤلات ليسأل نفسه :
– كيف يمكن أن يكون هنالك خير من دون الله ؟ والدافع له ليس لديه مصدرا خارجيا إذا كان لنا أن نرى دافعا آخرا وإلا فإنه يجب أن يأتي من مكان ما ، فإذا جاء من مكان ما فليس فيه خيرا حقيقيا ، هذا الخط من التفكير تثيره فكرة أن الله الذي يراه ليفين لهو دليل كاف على وجوده .
التحول الذي طرأ على ليفين إذا ما أردنا أن نقرأه قراءة نفسية حديثة فإنه يتبع نمطا مألوفا حيث أن مشاعره البدائية تخبره أنه قادم إلى توازن التماثل الساكن في جسده وبيئته ، هذه الحالة الإيجابية تؤشر أنه يواجه مشاعر هادئة سرعان ما تنتشر بسهولة وأنه يستجيب لها خاصة إذا كانت مشاعر حب ومحبة .
ليفين وبعد أن عرفنا كيف يحصل على هذه المشاعر يقول أنه يعطي لحالته الراهنة سببا في أن إحساسه الداخلي كان يدعوه للخير مع أن بقية حواسه تكون غير مرئية واستعادة السيطرة على السعادة تكون بعيدة المنال إذا لم تقرن بالمحبة وهي الكلمة الأخيرة التي يقولها على لسان تولستوي ، ومع أنها لايرقى لها الشك أبدا فهذا يعني أن الخير الذي يغمره قادر أن يستثمره دائما.
* سيليا رين كاتبة أمريكية عملت في مجال النشر منذ عام 1989 وشغلت مناصب عديدة في مجلات أمريكية منها هاركورت والمسرح وتعمل حاليا كاتبة وناقدة في صحيفة الواشنطن بوست وتنشر مقالاتها كذلك في نيويورك تايمز ونيوز داي وبوسطن غلوب وأماكن أخرى ، وهي تتحدث الفرنسية بطلاقة وقليل من الروسية وقد عاشت فترة في موسكو والقاهرة وبكين وأتاوا وجوهانسبرغ ، كذلك سافرت إلى أكثر من 20 بلدا في أفريقيا وآسيا وأوربا ، هي حاصلة على شهادة البكالوريوس في الأدب من جامعة هارفارد وعلى درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة جونز هوبكنز ، تهوى الرياضة وقد حصلت على الحزام الأسود من الدرجة الثانية في الكاراتيه شوتوكان.
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا