ليس غريبا ان تكون النصوص الادبية منجما من المادة الخام لعلم النفس التحليلي، وحين كتب فرويد عن عُقد من طراز الكترا واوديب لم يكن هو من كتب حكايات هؤلاء، ولدينا في تراثنا الأدبي والشعري منه بشكل اخص مادة غزيرة تصلح للاستقراء السايكولوجي
باستثناءات نادرة، وقد تكون بمقياس ما تكريسا للقاعدة، بقي المشتغلون في علمي النفس والاجتماع من الاكاديميين العرب داخل الشرانق في جامعاتهم او ابحاثهم النظرية.
وهنا نذكر على سبيل المثال عددا من عملاء الاجتماع العرب الذين ترجلوا الى الواقع منهم د. علي الوردي الذي كتب في ‘لمحات اجتماعية عن تاريخ العراق’ ما كان من قبل مسكوتا عنه، ومحظورا الاقتراب من حدوده، واذا كان الرجل قد دفع ثمن جرأته ومنع من النشر لفترة طويلة وهو في ذروة سني النضج، فإن هناك آخرين عوقبوا بطرق مختلفة، منهم د. صادق جلال العظم الذي لم ينتبه من عاقبوه على كتابه نقد الفكر الديني الى انه نشر فصلا هو الفصل الاشكالي في الكتاب عن مأساة ابليس في مجلة لبنانية قبل بضع اعوام من صدور الكتاب، كما لم ينتبه هؤلاء الذين لا يرون من المشهد ابعد من سطحه ان لصادق العظم كتبا اخرى سبقت كتابه عن التأثيم منها النقد الذاتي بعد الهزيمة والحب العذري، ففي النقد الذاتي حمل صادق العظم العربي مسؤولية هزائمه، لأنه كما صوره كان اشبه بالسلحفاة التي فقدت صدفتها وصارت في مهب العراء، كما تحدث عن الفهلوية والانتهازية وثقافة النميمة والاستعداء باعتبارها مرجعيات اخلاقية مضادة للمهزومين، ولعل ما كتبه الراحل هشام شرابي عن تكوين المجتمع العربي كان علامة اخرى فارقة في هذا السياق، ففي رأي شرابي ان العربي من الناحية السايكولوجية يعاني من عدة تشوهات واختصر المسألة كلها بعبارة واحدة هي فشل اخي نجاحي، وقد أدت هذه المراذلة او النسبية البائسة الى مقايسات بين الفقير والأفقر والقبيح والآقبح، فالمهم ان يتدنى مستوى الآخرين كي يتاح للفرد المصاب بهذه الجرثومة ان يحقق ذاته ولو على صعيد الوهم، ولأن موضوعنا يتعلق بالمخذولين، فان اول ما يجب التذكير به هو كتاب د.مصطفى حجازي ‘سايكولوجيا الانسان المقهور’، وقد رأى د. حجازي ان آفات القهر لا تحصى، لكنه اختار عيّنة منها هي التعامل الذكوري مع المرأة، وهو تعامل يعد نموذجيا في الاختزال، فالمقهور يبحث عمن يقهره كتعويض نفسي، وهذا ما دفع الماركسيين وفي مقدمتهم لينين الى وصف المرأة في المجتمع المقهور بأنها عبدة العبد، فهي تعاني من عبودية مزدوجة حتى لو لم تدرك ذلك، فالدمية في مسرحية ابسن الشهيرة ‘بيت الدمية’ لا تعي شرطها الذي يحاصرها، وكذلك المرأة التي جرّها الوعي السالب من شعرها وانفها لتكون حليفة الذكر في التنكيل بها، فألد اعداء النساء الساعيات الى التحرر هن نساء اخريات يقدمن نموذجا مضادا في الامتثال والتأقلم مع القهر الى حد الماسوشية، واذا كان تعريف المقهور بات محفوظا عن ظهر قيد لا عن ظهر قلب، لفرط ما كتب عن القهر وتوأمه الزّجر في مجتمعات باترياركية محرومة من الفطام وبلوغ سن الرشد فإن المخذول له حكاية اخرى. انه مقهور ايضا لكن ليس من نظام او ايديولوجيا او رقيب، وقد يكون الشاعر الالماني رينر ريلكة افضل من جسّد هذا الخذلان في عبارة واحدة، هي كل من اقترب مني اغتنى وهجرني، فكأن الاخرين ليسوا فقط جحيما حسب التعبير الشهير لسارتر، انهم لصوص من طراز آخر، يسطو على الخبرات لا على المال وينجذب كبرادة الحديد الى مغناطيس القوة والحضور، لكنه سرعان ما يعثر على اسلوب للفرار كي يتشكل كالبقة من الدماء التي امتصها، حيث ما من محتوى لها غير ما تسلبه. والخذلان رغم وجوده كظاهرة في الحياة الاجتماعية، الا ان هناك شريحة من البشر هي من حول الشكوى منه الى الحاح درامي. فما قاله ريلكة سبق ان قاله المتني مرارا خصوصا وهو يشكو ممن اختلط عليهم الامر فلم يفرقوا بين الورم والشحم، وقبل المتنبي بقرون كتب امرىء القيس شكواه من الخذلان عندما قال:
كذلك جدي ما اصاحب صاحبا الا خانني وتغيرا.. وكان هذا الاحساس بالخذلان اثر تجربة عاشها الملك الضليل مع صاحبه الذي ذهب معه الى قيصر الذي استغاث به ضد ذويه فأهداه حلة مسمومة، وتقرح جلده في الطريق قبل الوصول الى من اراد الثأر منهم ودفن في جبل عسيب.
والشاعر العربي الذي كان يستدعي صاحبيه للبكاء على الاطلال وهما على الاغلب مُتَخيليْن واقرب الى ضرورة يفرضها طقس شعري جاهلي، خذله صاحبه الواقعي، لكأن كل مفهوم مجرد يحتاج الى اختبار.
* * * * * * *
يروي اصدقاء الشاعر ازرا باوند انه في الفترة التي عاشها في باريس لم يتأخر لحظة في تقديم العون المادي او النفسي لمن حوله من المثقفين، لكن لم يبق واحد منهم الا طعنه من الخلف عندما ازفت اللحظة المناسبة.
ان الخذلان رغم مرونته كمفهوم واحيانا غموضه، هو في النهاية تعبير عن صدمة ما، وهي ناجمة بالضرورة عن توقع مبالغ فيه او نمط مما يسمى التفكير الرغائبي او الاسقاطي، فالفعل هنا يواجه برد فعل مضاد.
ورغم ان ثقافات العالم كله لا تخلو من شكوى المخذولين، الا ان العرب ذهبوا الى اقصى تعبير عن الخذلان، عندما حشدوا خبراتهم المريرة في هذا السياق في كبسولة واحدة هي ‘اتق شر من احسنت اليه’ فالاصل والطبيعي تبعا لهذه المقولة هو ان يواجه الاحسان بالشر، اما عكس ذلك فهو الطارىء والشاذ والاستثنائي.
لم يقل يوليوس قيصر لأي من اعوانه او حاشيته حتى انت يا فلان!! بل قالها لرجل واحد هو بروتوس، لأنه الوحيد الذي لم يتوقع منه خيانته وطعنه من الخلف، لكن لبروتوس شكسبير تجليات اخرى خارج المسرح والثقافة بصورة أعمّ، وبروتوس هو اسم حركي او مستعار لكل هؤلاء الذين يخلعون اصحابهم او اولياء نعمتهم، ويقلبون ظهر المجنّ عندما ينتهي نفوذهم او يغربون.
وبالنسبة للخذلان في مثاله العربي، فإن من تعلمه الرماية يرميك عندما يشتد ساعده، وتجليات هذا الخذلان قدر تعلقه بالرماية نجدها في حياتنا السياسية اكثر من اي مجال آخر، لكأن كل اقتراب او انجذاب هو الاقوى مشوب بشيء من الضغينة او الكراهية المكتومة، وهذا ما يحول الانجذاب القديم الى شماتة لحظة السقوط.
* * * * * * * **
امتاز المتنبي على سواه ممن شكوا من الخذلان باشتراطه صفة اخلاقية للخاذل، فهو يقول ان اللئيم هو الذي يخذل من يكرمه، اما الكريم فيصبح مملوكا لم يكرمه، لهذا ليس غريبا ان تكون النصوص الادبية منجما من المادة الخام لعلم النفس التحليلي، وحين كتب فرويد عن عُقد من طراز الكترا واوديب لم يكن هو من كتب حكايات هؤلاء، ولدينا في تراثنا الأدبي والشعري منه بشكل اخص مادة غزيرة تصلح للاستقراء السايكولوجي، فالاخرون في هذا الموروث ليسوا نعيما على الاطلاق، بل هم احيانا انكى من اي جحيم، فهم مصدر الحسد والغيرة، وقد فاض هذا الموروث السايكولوجي عن النصوص الادبية الى الفولكلور، وهنا لا بد من البحث عن المشترك التاريخي والاجتماعي بين القهر والخذلان، فالمقهورون يصابون بالعمى لفرط الانكفاء اذا قرروا التسليم بالأمر الواقع، والضحية لا تتعاطف مع توأمها، بل ما يحدث هو العكس، لأنها ترى فيها المرآة التي تعكس صورتها الشائهة.
فكيف سيكون الحال اذا تحالف القهر والخذلان؟ وأية مسوخ اخرى سوف تولد من هذا التزاوج؟
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري