يجب ان نبقى على بصيرة الى ان اي إقتراب من القرآن هو في الضرورة مخاطرة. وهذا قائم منذ القرن الثالث الهجري، العصر الذي اضطلعت فيه السلطة السياسية بدور اساسي في حسم الجدل الفكري الذي نشأ حول فكرة خلق القرآن
يعتبر الكثيرون ان الشيخ امين الخولي هو رائد التجديد في الدراسات القرآنية، وأنه اول من حاول تطبيق المنهج الادبي في مقاربة القرآن، ما طبيعة علاقتك بفكر امين الخولي وهل تعرفت اليه شخصياً؟
– لم اعرف الشيخ امين الخولي شخصياً، لكنه كان اول من نشر لي في مجلة “الادب” مقالة حول ازمة الاغنية المصرية، وكنت يومها لا ازال يافعاً. من هنا نشأت العلاقة الروحية مع هذا الاستاذ الكبير. بعد دخولي الجامعة وموت الخولي قرأت كتبه وكذلك ابحاث محمد احمد خلف الله، وكنت تالياً واعياً ازمة الدراسات الاسلامية في قسم اللغة العربية وواعياً مشكلة الجامعة المصرية. احد الاساتذة الذين درسوا لي وأثّروا فيّ تأثيراً عظيماً في الجامعة كان شكري عياد وهو تلميذ أمين الخولي وكان قد حصل على درجة الماجستير برسالة عن “يوم الحساب في القرآن” تحت اشراف الخولي، ولكنه اضطر الى تغيير تخصصه من الدراسات الاسلامية الى الدراسات النقدية عندما الغيت رسالة اخرى تحت اشراف الشيخ امين الخولي هي رسالة الدكتوراه لمحمد احمد خلف الله.
هذا الخط في الدراسات القرآنية يبدأ مع الشيخ محمد عبده الذي تكلم عن التمثيل في القرآن واعتبر ان القصص القرآني تمثيلات بما فيها قصة آدم وخروجه من الجنة. والتمثيل هنا مفهوم بلاغي. الشيخ محمد عبده، وان استخدم لغة تقليدية، فقد وضع الاساس لهذه التوجه وجاء بعده طه حسين ودفع المنهج الى الامام في كتبه كلها طبعاً، لكن في الاخص كتاب “في الشعر الجاهلي”، عندما اشار الى القصة القرآنية عن ابرهيم واسماعيل ليس من الضرورة اعتبارها واقعة تاريخية. وواصل بعده امين الخولي عندما اعتبر ان ادبية القرآن هي السمة الاساسية التي تسبق اي سمة اخرى، وان التحليل الادبي وفن القول يسبقان اي تحليل فلسفي او فقهي. هذا المنهج طبقته عائشة عبد الرحمن في “التفسير البياني” ومحمد احمد خلف الله في رسالته “الفن القصصي في القرآن” وشكري عياد في رسالة الماجستير، وأنا اعتبر نفسي تواصلاً مع هذا الخط، في سياق تطور النظرية الادبية وعلم النصوص. عندما كتبت “مفهوم النص” كان الشيخ امين الخولي مرجعية بالنسبة اليّ في ما يسمى ادبية القرآن.
ما هو في رأيك سبب فشل هذا المنهج في تثبيت أقدامه داخل الجامعة وتحقيق نوع من استمرار المؤسسات؟ هل السبب سياسي من خارج الجامعة، ام ان هناك ازمة داخل هذا الفكر نفسه؟
– هناك اسباب معقدة، ويجب ان نبقى على بصيرة الى ان اي إقتراب من القرآن هو في الضرورة مخاطرة. وهذا قائم منذ القرن الثالث الهجري، العصر الذي اضطلعت فيه السلطة السياسية بدور اساسي في حسم الجدل الفكري الذي نشأ حول فكرة خلق القرآن. فالخليفة المأمون تدخل في البداية وحاول فرض فكرة “خلق القرآن” بقوة الدولة، واضطهد من لا يؤمنون بهذه العقيدة، ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور الوثيقة المتوكلية في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنة، والتي تتضمن ان القرآن ازلي قديم، تجمدت المشكلة وأوقفت الاسئلة لصالح مؤسسة لاهوتية هي الى حد كبير اشعرية حنبلية. وبقي الامر على هذه الحال الى عصر النهضة ومشروع محمد عبده الاصلاحي الذي حاول ان يقترب من هذا السؤال لكن يبدو ان بعض المخاوف جعلته يتراجع.
لكن بعد الشيخ محمد عبده جاء طه حسين والشيخ امين الخولي وغيرهما كثيرون لكنهم تراجعوا عن هذا الطريق ولم يطرحوا الاسئلة حتى نهاياتها، ما هي الاسباب في رأيك؟
– يجب ان لا ننظر هنا الى كلمة تراجع في معناها السلبي، وان لا ننظر الى الفكر باعتباره يدور في فراغه الخاص بمعزل عن حركة المجتمع. اسباب عدة يمكن ايرادها في هذا السياق، اولها ان الجامعة الاهلية كمؤسسة مدنية نشأت ضعيفة، فمشروع النهضة ومشروع تحديث المجتمع قاما على بنية مزدوجة: هناك تحديث، لكن ليس هناك حداثة. لقد تم استيراد مؤسسات مثل الاوبرا والسكك الحديد والجامعة والبرلمان، لكن الممارسات استمرت وفق المنطق القديم. المجتمع المدني ومنه الجامعة بقي مجاوراً للمجتمع التقليدي ولم يتم تطوير المؤسسات التقليدية التي بقيت ممتنعة عن الحداثة التي جاءت في سياق اشكالي جعلها ملتبسة كونها حداثة غربية. وهذا واضح في اشكاليات مشروع الاصلاح الديني، كونه ولد مشروعاً ملتبساً يريد ان يحدث الاسلام حتى يتقبل الحداثة الغربية. وكأن التراث هنا خادم للحداثة وفق عناصر منتقاة من التراث. في اعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع، ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤول عليه.
اذاً، مشروع محمد عبده وبعده مشروع طه حسين، كان يحمل من داخله ازمة، هي ازمة ناتجة من ازمة النهضة نفسها ووقوعها في التباس “الأنا والآخر”. طه حسين عندما حذف العبارات الملتهبة من كتابه “في الشعر الجاهلي”، لم يتنازل عن منهج الشك الديكارتي وخط البرهان الذي اتبعه، لكنه بقي مسكوناً بهاجس دفاعي في ظل هجوم استشراقي. والمجال الذي يمكن ان نقيس فيه هذا التوتر، نجده في ترجمة الموسوعة الاسلامية في الثلاثينات من القرن المنصرم (امين الخولي كان احد المشرفين على هذا المشروع). فالمنهجية الصارمة والدقيقة للمستشرقين حظيت بالاحترام والتقدير عند علماء ذلك الزمن، الا اذا اقترب الامر من قداسة القرآن ومن شخصية النبي محمد، اذ ان الامر كان يُفهم آنذاك على انه عداء للاسلام ونبيه. هذا مع العلم ان المستشرق كان ينطلق من اطار مرجعي ناقد لكتابه المقدس ولشخصية المسيح وفق منهج النقد التاريخي.
اذاً اقترب الامر من النص القرآني، تولِّد نقاط الاحتقان حساسية تتبع من تماهي القرآن مع الذات والأنا. ومشكلة الهوية هنا، في ارتباطها الميكانيكي بالدين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الالتباس الحداثي وقضية الاستعمار.
فلنبتعد قليلاً عن مشكلة الهوية في علاقتها بالنص القرآني، من اجل اعادة صياغة بعض الاسئلة التي يطرحها المستشرقون، والتي لا تزال بعيدة عن النقاش والنقد لدى المختصين بالدراسات القرآنية داخل اطار الفكر العربي والاسلامي. كمثال: لماذا لم يأمر الرسول خلال كل فترة الوحي وحتى مماته بجمع ايات القرآن وحفظها داخل كتاب، بل تم ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ كيف تحوّل القرآن من نص شفاهي تحفظه الالباب الى نص موثق ومكتوب؟ ولماذا؟ وماذا يمكن القول عن حال اللغة العربية في ذلك الزمن وخلوها من التنقيط؟ وعن منزلتها كلغة بشرية لم تتوقف عن التطور والتبدل وعلاقة ذلك بقدسية النص القرآني باعتباره كلام الله المنزّل بلسان عربي؟ ما رأيك ألا يجب على المفكرين الاسلاميين ان يخوضوا في هذه القضايا ام يجب تركها حكراً على المستشرقين؟
– بالتأكيد يجب عودة الباحثين العرب الى هذه القضايا، وتغطية تاريخ القرآن وكيف تحوّل من نص شفاهي الى نص موثق ومكتوب، وليس فقط في عصر الخليفة عثمان حيث لم يكن النص مقروءاً بسهولة لكونه كان خالياً من التنقيط ومن علامات الحركات، وصولاً الى النسخة التي هي اليوم في ايدينا، بنقطها وعلامات الحركات. لكن هذا كله لا يزال يدخل في اطار اللامفكر فيه. وأنا كنت واعياً لهذا تماماً عندما كتبت “مفهوم النص”، لكنني استبعدته موقتاً، لأنني كنت مشغولاً ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم. وقد ظهر لي مفهوم التاريخ بمعنى ان القرآن نص تاريخي وثقافي، وهذا ولّد لدى البعض ازمة لا تزال مستمرة. اذ فهم من التاريخي انه زماني، ومن الثقافي فهم ان المقدس قد تأنسن. ومع ذلك هناك في كتاب “مفهوم النص”، اشارات واضحة لاحتمالات دراسة اوسع في المستقبل. فهذه الاسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه، اقوم اليوم بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، بدون احساس بالخوف او الخطر، لكن بمحاذير لا يمكن ان نقلل من شأنها،
لقد انفتح امامي أفق يفكك الأسطرة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهمة ان لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة.
نصل الى نقطة اساسية أشرت اليها في احدى مقالاتك الاخيرة من خلال ايراد رأي جلال الدين السيوطي بأن القرآن أوحي الى سيدنا محمد بالمعنى فقط وانه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية. هذا الرأي يفتح على آفاق واسعة ويحيلنا على فكرة جوهرية تقول ان القرآن مكتوب بلغة بشرية وهذه اللغة تتطور قبل القرآن وبعده وهي بمثابة كائن حي يتبدل بالاحتكاك مع الواقع من خلال تبدل دلالات الألفاظ ومعانيها واستخداماتها. لكن رغم ذلك تبدو اللغة العربية اليوم للبعض وكأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتمنع في قواعدها النحوية على التغيير، فكأنها شيء مقدس؟
– هذا وهم وغير صحيح، فالتركيب العربي اختلف وتبدلت بنيته، وان كان النحو المعياري قد بقي على حاله.
انا متفق معك تماماً، ويكفي ان نقارن لغة الصحافة والادب اليوم بلغة النصوص القديمة لندرك الكم الهائل للتبدل والتطور الذي عاشته وتعيشه اللغة العربية، وهذا خير دليل على كون اللغة كائناً حياً ومتغيراً. ولكن، لنعد الى السؤال الأساسي فأنت من خلال السيوطي وضعت يدك على جوهر المشكلة، ومع ذلك لدي احساس انك لا تزال متردداً في الذهاب بالاسئلة الى منتهاها، وهذا ما نلاحظه ايضاً عند مفكر آخر هو محمد أركون، وكأننا نطرق الأبواب ولكننا لا نعبرها الى صلب الاسئلة الحارقة، والتي بدونها لا مجال للخروج من النفق؟
– لا استطيع أن أنكر الذي تقوله. التردد موجود في داخلي، لكنه لا ينبع من خوف على شخصي، بل يأتي من كونك تعمل في اطار انموذج (براديم) ثقافي تحاول اختراقه. ومهمة اختراق النظام المعرفي السائد والمستقر تتطلب ان تؤسس لنظام معرفي جديد. هذه المهمة لا يقوم بها شخص بمفرده بل تتأسس من خلال التراكم، ونحن حتى هذه اللحظة نعمل على النظام المعرفي الذي أسسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على ان النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر، ومحاولة اختراق هذا النظام معناها ان تبيّن انه اذا كانت الرسالة إلهية فان اللغة ليست إلهية بل هي بشرية، وهذا ليس شأن القرآن وحده بل شأن الكتب المقدسة كلها. أما الوحي فهو مفهوم مرتبط تماماً بنظام من التواصل غير اللغوي، وتالياً فوحي القرآن للنبي محمد لم يكن عبر النظام اللغوي. وعليه، فان صياغة الرسالة انسانية. الآن، من أجل تأسيس فهم كهذا لا يكفي ان نتناول لغة القرآن ولكن يجب العودة الى تأسيس القواعد اللاهوتية التي تسمح بذلك.
لكن تأسيس قواعد لاهوتية كهذه، هل يدخل في اطار دور الباحث، أم هو منوط برجال الدين؟ ولماذا لا يزال منهج النقد التاريخي عاجزاً عن الدخول باسئلته الى داخل الفكر الديني، اذ نراه احياناً أسير محرّمات هذا الفكر؟
– بالنسبة الى الشق الأول من السؤال، فان تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث. نحن نخرج هنا من دائرة الاصلاح الديني وندخل في دائرة النقد التاريخي، وهذا الفرق حصل منذ .1967 أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالصورة تبدو كذلك، لكنها صورة خاطئة، وسأعطيك نموذجين لفكر ديني تقليدي يعمل وفق آلياته الخاصة لكنه متأثر بالتحدي الذي يطرحه منهج النقد التاريخي، وان لم يعترف بذلك. المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في خصوص علاقة الرجل بالمرأة وما يرتبط بحياة المسلم في اوروبا. فالقرضاوي، وان كان لا يسلّم بفكرة التاريخ لكونها خارج اطار وعيه، متأثر بالتحدي الذي تطرحه هذه الفكرة وهي فاعلة رغماً عنه في نطاق الفتاوى التي يصدرها من خلال المجلس الاوروبي للفتاوى. وهذا ما دفعه الى القول انه يجوز للمرأة غير المسلمة التي تحوّلت الى الاسلام ان تبقي زواجها من غير المسلم. واذا كان القرضاوي لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية في اللاهوت او على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة ومن أجل تحبيب الناس بالاسلام، فان داخل قاعدة الدعوة التي يعلنها وداخل هذه الفتوى توجد كل اجراءات النقد التاريخي.
المثال الثاني، هو رد شيخ الازهر الطنطاوي على مرشد “الاخوان المسلمين” مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية. فالشيخ الطنطاوي قال ان الجزية كانت ممارسة تاريخية. واذا انتَ جلستَ مع الشيخ الطنطاوي وسألته: “ممارسة تاريخية ازاي، ده قرآن؟”، بمعنى أن تسأله: هل تقول ان هذا النص القرآني اصبح غير صالح؟ فأنت تكشف له هنا ان مفهوم القرآن كنص تاريخي تسلل الى لاوعيه. ان العلاقة التي تبدو ساكنة بين الخطاب الديني ومنهج النقد التاريخي في افق الخطاب العام، مردها الى ان هذا الخطاب في يده مؤسسات وفي يده سلطة وهو متماه مع السلطة؟ مع ذلك، فالاسئلة التي تقول أنت بامتناعه عليها، هي نافذة اليه. وعلينا هنا ان نرى قدرة الهامش على اختراق المركز واحداث حراك فيه. بعد 11 ايلول، اصبح هناك حمّى اسمها تجديد الخطاب الديني. طبعاً داخل هذه الحمى، قد يكون هناك خطاب سجالي او دفاعي او اعتذاري، لكن على الاقل هناك تسليم بأن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود.
اذا كان الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود، فلماذا تردد الباحث الذي اشرت اليه قبل قليل؟
– السؤال الذي يطرحه البعض عليّ باستمرار، في هذه اللحظة، هو: ان الناس تموت باسم الاسطورة، وعدوك يوظف اسطورته في شكل أو آخر، فكأنك تريد ان تفكك لنا اسطورتنا، من أجل ان يهزمنا الآخر باسطورته؟ ويقولون: اننا الآن في خطر لا يحتمل ترف الاشتغال على النص والتأويل.
طبعاً، جوابي ان هذا ليس بالترف، وان الفشل الذي نحن فيه، عائد في جزء منه الى تجمّد وعينا. واذا كنا نريد ان نحارب بأسطورتنا، فأسطورتنا قائمة على اسطورة العدو، وهي تالياً أضعف لأنها قائمة على أسسه. فهو يحاربك بالاسطورة ايديولوجياً، لكنه يحاربك بالعلم والعقل والوعي فعلياً.
إذاً، أنا معك ان طرح الاسئلة يجب أن لا يتوقف ويجب ان نذهب بالاسئلة الى منتهاها. واذا كنت أنا أحد المترددين، وهذا ما لا أنكره، فلأني لست بالمدعي. ففي النهاية أنت تعمل في مناخ ثقافي لا تسلّم به كلية، لكنك لا تستطيع ان تتجاهل انك تريد ان تنتج خطاباً يجد قبولاً، وينفذ، وان كان لا يجد اعجاباً. وهذا ما يسمّيه محمد اركون بالترضيات الضمنية، أي ان تنتج نقداً لفكر، أنت تنتمي اليه في الضرورة. بمعنى أنك تنتج نقدك من داخله، وانت محكوم بقواعد انتاج المعرفة فيه، حتى لو كنت رافضاً القواعد. اذاً، نحن هنا في مأزق، وما أسهل الذي يكتبه صادق جلال العظم، على أهميته، لأنه يأتي من الخارج، أي من خارج دائرة الايمان.
نحن نتكلم هنا عن مجتمع وثقافة ومؤسسات، وانت تطلب من المفكر ان يخترق المؤسسات بكتاب او بمحاضرة او ببرنامج تلفزيوني يتكلم فيه خمس دقائق يحذف منها نصف الذي قاله، ومع ذلك فهو يقوم بهذا عملياً ولكن بامكانات هي أقل بكثير من امكانات هذه المؤسسات. فلنقل ان اي كتاب لا يمكنه ان يحدث اختراقاً اذا لم يتحول ثقافة عامة من طريق وسائط نقل المعرفة من مستواها الى مستوى وعي الناس. وهذا غير متحقق لنا، بسبب غياب الديموقراطية وغياب الحرية وغياب مؤسسات وسيطة حاملة وناقلة للمعرفة، وبسبب سيطرة السلطة في أشكالها المختلفة على وسائل الاعلام. طبعاً انا هنا لا أضع معوقات لنفسي، ولكن أكشف لك حدود تأثير ما أكتبه.
أعود لقولك بتاريخية النص القرآني وبأنها لا تعني زمنيته ولا تعني انكاراً لألوهيته، بل تعني ان القرآن نزل في التاريخ وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً وسيستمر عمله في التاريخ، وانه يحمل ملامح القرن السابع الميلادي ويدل على ممارسات العرب في ذلك القرن وعلى موقعهم في العالم القديم ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول. قولك هذا، يدعو الى التأسيس عليه ويفتح أفقاً واسعاً للنقاش ويسقط الكثير من الحواجز أمام العقل، فكيف لك بعد ذلك ان تطلب منا التروي في طرح الاسئلة؟
– اذا اتفقنا على اننا نشتغل من داخل دائرة الايمان، فاننا نخوض في مسلّمات راسخة يحتاج تحريكها الى التحلي بالصبر والى وقت طويل والى عدد كبير من الباحثين. تاريخية النص القرآن مثلاً، تعني ايضاً ان هناك اجزاء منه سقطت بحكم التاريخ واصبحت شاهداً تاريخياً، أي انها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة الى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوّل آيات الرق والاحكام المتعلقة بها الى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا. هذه الخطوة لا يكفي ان تقولها وتمضي. انها هنا عملية خلق للوعي، وعليك ان تعمّق هذا الوعي في استمرار بأمثلة وشواهد، وان تكرر في استمرار ما كتبته. اذاً، تاريخية النص وانتماؤه الى الثقافة وانفتاحه على التأويل في ثقافات مختلفة، هذه القضية كسبت ارضاً ولكنها لم تصبح مستقرة داخل الوعي العام. طبعاً أن لا أقول ان عليّ الانتظار، فأنا أتحرك، ولكني الآن اتحرك وحدي بعدما حُرمت تلامذتي وموقعي داخل الجامعة المصرية.
في السياق نفسه، أنت من الذين يشددون على ان القرآن هو مجموعة من النصوص التي رُتّبت ليس وفقاً لترتيب نزولها الزمني، ولكن وفقاً لتراتيب اخرى لم تُكتشف بعد، وان التساؤل لماذا لم يترتّب القرآن بحسب زمن نزول آياته، هو أمر مشروع في البحث العلمي لأنه لا يشكك في الحكمة الالهية ولا بقدسية النص.
– الحقيقة التاريخية الأكيدة، هي ان ترتيب القرآن الحالي، ليس هو ترتيب النزول. وان ترتيب القراءة الحالي احدث تغييباً للسياق، وتالياً فان أي مقاربة منهجية لتفسير القرآن عليها ان تستعيد هذا السياق. في تحليل القرآن هناك مقاربتان الـتعاقب Diacronic والـتزامن Syncronic، وجمع الاثنتين مهم جداً في أي مقاربة. فلو حلّلت القرآن فقط وفق ترتيب النزول، سأكون أتعامل مع القرآن على انه كتاب في التاريخ، وهو ليس كذلك. أما اذا رضيت فقط بترتيب القراءة فأكون قبلتُ باهمال الجانب التاريخي في التعامل مع القرآن. في عبارة اخرى، اذا كنا نقول ان القرآن تاريخي (بشري) وإلهي، فان بنيته نفسها توضح هذه الازدواجية وينعكس فيها هذان البعدان. فترتيبه المجزأ والمنجّم يعكس انه جزء من التاريخ وان هناك تطوراً داخلياً، أما أعادة ترتيبه وفق قواعد مغيّبة للتاريخ لم نكتشفها بعد، فتؤكد فكرة انه رسالة مقدسة.
اجراء أي مقارنة بين بنية القرآن التاريخية وبنيته اللاتاريخية، يحتاج الى دراسات واسعة ومعمقة والى فريق عمل جماعي يشترك فيه عدد كبير من الباحثين. هناك 114 سورة بينها المكي والمديني، عمل عليها في السابق المستشرقون، لكن لا بد من العمل على الآيات والرجوع الى المادة التاريخية والعمل على نقد المرويات الخاصة باسباب النزول، ولا بد من الاشتغال على البنية الداخلية للآيات، لأن الكشف لا يكون من خلال الوثائق الخارجية وحدها ولكن من خلال البنية الداخلية كذلك.
واذا كان طرح الاسئلة الجوهرية يمكن ان يتم بواسطة افراد، فان انتاج المعرفة في حاجة الى بنية علمية مؤسساتية. ويجب عدم تناسي ان النقد التاريخي للكتاب المقدس تحقق بثورة من داخل مؤسسة الكنيسة، اما مؤسساتنا الاسلامية فلا تزال تنتج ملايين الكتب عن الاعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية. ثم، هل عندنا فعلاً في العالم العربي والاسلامي دراسات اسلامية في المعنى العلمي للكلمة؟ لا. ليس هناك مؤسسة واحدة تدرس القرآن في اعتباره موضوع دراسة، بل في اعتباره موضوع ايمان ووعظ. الازهر، كمؤسسة، لا يدخل في نطاق مهمته ان يدرس القرآن تاريخياً ويحلله. ومهمته ان يعلّم القرآن ويفسره. لذا يجب علينا ان لا نطلب من مفكرين فرادى ان يقوموا بالمعجزات.
في العودة الى اسباب النزول نجد ان القرآن لم ينزل نصاً واحداً، بل نزل على الرسول خلال ما يزيد على العشرين سنة، واذا كنت أنت تذهب الى ان كل نص من القرآن يتعلق بواقعة وبسؤال نشأ من الواقع، فان ما يزيد على 80 في المئة من الآيات لا يوجد فيها اسباب نزول. فكيف يمكن الوصول اذاً الى هذه الوقائع التاريخية المرتبطة بسياق نزول الآيات؟
– دعنا في البداية نخرج من اطار المصطلحات الملتبسة، علينا التفريق بين أسباب النزول كمصطلح مستقر في المعنى الفقهي الوارد في المرويات التراثية، وما يمكن ان أسمّيه السياق التاريخي للوحي. هذا السياق لا يمكنه ان يتجاهل مفهوم اسباب النزول في المعنى الفقهي، لكنه يتعامل معه تعاملاً نقدياً، لأن بعض هذه الاسباب متناقض، وبعضها الآخر يأتي تبريراً لمعنى معيّن يريد المفسّر ان يفرضه. كما يجب عدم الاكتفاء باسباب النزول، لأنها كما ذكرت قليلة.
مثلاً عندما تبدأ سورة “البقرة” بالآية: {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه}، فهذا جواب عن سؤال لا نجده في الآيات التي تتبعها مباشرة، بل نجده في ما بعد حين يتكلم عن سؤال اليهود للنبي محمد ان يأتي بكتاب كألواح موسى. اذاً، فكرة الكتاب موجودة في النص القرآني ولها سياق نزول، لكن يصعب ربطه بالآية في افتتاح السورة، لأن السؤال موجود في آية أخرى وُضعت في مكان آخر وتالياً عملت تغييباً لسياق الآية الأولى. نقطة اخرى هي ضرورة التعامل مع النص القرآني ليس فقط من خلال اسباب النزول ولكن من خلال سياقه التاريخي في معناه الأشمل، ومن خلال شخصية النبي محمد وعلاقته بالمجتمع والثقافة، وهذه كلها لا تزال في اطار المحرمات.
منذ اللحظة التي اعتبر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنّة ليس كنص ثان او كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن
كيف تفهم اليوم علاقتنا بالسنّة النبوية، وميل البعض الى تقديسها واعتبارها جزءاً من الوحي؟
– أظن ان هذا الكلام تم تحليله في اسبابه التاريخية في شكل كاف، فمنذ اللحظة التي اعتبر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنّة ليس كنص ثان او كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن. حتى ان البعض يذهب الى حد القول ان القرآن أكثر حاجة الى السنّة من حاجة السنّة الى القرآن. اعتقد ان هناك جانباً مشروعاً في هذا، وجانباً تمت المبالغة فيه، فلو انت اقتلعت السنّة من تاريخ الفكر الاسلامي لما بقي هناك شيء.
مع ذلك، لا يعتبر اهل السنّة ان الاحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام الله
– لا، هذا غير صحيح، فهي تعتبر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد، اي انها كلام الله بلغة محمد. فالامام الشافعي يعتبر ان السنّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنّة المتجسدة اصلاً في الحديث، ان السنّة هي كلام الله الموحى الى محمد، لكنها ليست لغة الله بل لغة محمد. اي ان الفرق لدى الشافعي هو ان القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند الله، اما السنّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام الله ولغته في الوقت نفسه، ام لا؟ لذلك فان طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنّة، ومتى تكوّنت المفاهيم الاساسية داخلها، وهذا في رأىي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.
اذاً، الباحث في تعامله مع نصوص السنّة هو ايضاً امام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟
– طبعاً، فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى كونهما وحياً، وهذا يتطلب منا ان نستعيد ايضاً مفهوم الوحي. وهل الوحي وفق المفهوم الديني اغلق بقوله تعالى: “خاتم الانبياء”؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون ان الختم هو ختم وحي التشريع وليس وحي الفهم؟ حتى ان ابن العربي في تناوله حديث الرسول “لا نبي بعدي”، يقول: “ليس اشد على اهل الله من هذا الحديث”، لكنهم ذهبوا الى ان لا نبي يشرّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون ان توارث العلم عند الائمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.
مفهوم الوحي له مكانه ايضاً داخل الفلسفة الاسلامية، وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال او العقل الاول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي ولكن في تعبيرات الوحي، اي اللغة التي تعبر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل الى كل المعرفة التي وصل اليها الوحي الذي آمن به سلمان. لكن اللغة التي يعبّر فيها عن الحقيقة مختلفة وهذا يحيلنا على ابن رشد.
كل هذا يبين لنا ان المسلمين كانوا مشغولين بالاسئلة نفسها وحاولوا ان يجدوا حلولا لها. في عودتنا الى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمش، ونحن اليوم عندما نجد حلولا، لا نكون بدورنا خارج اطار الثقافة.
لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثا عن مشروعية تاريخية، وتتبنى احيانا الحلول التي يطرحونها كفكرة ان الوهية القرآن لا تعني ازليته. لأنه لا يمكن ان يقال ان القرآن ازلي بجانب الله، قديم مثل الله فهذه الفكرة معتزلية بامتياز.
– لا، هنا يجب ان تقرأ اعمالي في شكل تاريخي. ففي الاول كان هذا صحيحا لكني لا اعتقد ذلك الآن. انا اليوم استشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، اكثر مما استشهد بهم بحثا عن مشروعية لفكرة اريد ان اطرحها. اما فكرة ازلية القرآن فانا لا اتبناها في صيغتها الدينية وغالبا ما استخدمها في السياق السجالي، كما في كتاب “التفكير في زمن التكفير”، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وانت في ردك تحاول ان تبين تناقضه كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا اعتقد ان العودة الى خلق القرآن وقدم القرآن في الاطار المعرفي للمعتزلة يمكن ان يحل لنا اي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق اليها المعتزلة ابدا.
في اطار موضوع اللغة ومدلولاتها، هناك بعض النظريات البراغماتية في الفلسفة الانغلوساكسونية، وفي مقدمها الابحاث المتأخرة لفيتكنشتاين، وانت تحاول ان تبرهن ان الكلمات والتراكيب اللغوية لا تجد معناها الاول والحقيقي داخل بنية النص نفسه، ولكن في اطار الاستخدامات العملية التي يصنعها بها البشر داخل سيرورة واقعهم الاجتماعي.
– اللغة في مجال تداولها هي بمثابة عملة متداولة لكن النص يتم تداوله ايضا كدال وكعلامة ومجالات تداوله تختلف وهذا يعدد المعاني فيه. واذا كان اصحاب نظرية النص الخام يتصورون انهم يستطيعون العودة الى النص في مجال تداوله الاصلي، فان هذا مستحيل لأن اللغة كعملة تداول لا تصاب بالتلف كالاوراق المالية. وتاليا فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد. مثال: في التداول الاولي للنص القرآني لم يكن هناك تناقض بين “لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوء احد” وبين “يد الله فوق ايديهم”. اي لم يكن هناك تناقض داخل البراديم الثقافي لدى الجيل الاول بين اله منزه تماما ليس كمثله شيء وبين اله له عين ويد، يحب ويكره ويبغض. عندما تغير هذا البراديم لاسباب كثيرة جدا وتغير معه مجال التداول (العلاقة مع غير العرب وترجمة الفلسفة والاحتكاك مع الفكر اللاهوتي المسيحي، الخ) انكشف التناقض. الفكرة هنا انك يجب ان تكون مسلحا بنظرية في اللغة وبنظرية في النص وبنظرية في علم العلامات. لأن النص يتحول ككتلة الى علامات مثلا: كلمة السماء داخل العبارة القرآنية، “السموات والارض”، في تداولها الاصلي تعني اي شيء علا، اما كلمة السماء في تداولها اللاحق فباتت تحيل على عالم غني بالملائكة والجن والعرش الخ. اي تحولت المفردة اللغوية من خلال مجال التداول الى مفردة علاماتية.
اذا، النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة وهي قادرة على اعادة انتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور. والاكيد انها لا تقوم في ذلك بنفسها ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول.
استخدامك لمصطلح “البراديم”، يحيلني على علاقتك الاكاديمية ببعض النظريات الغربية وببعض المفكرين الغربيين، فنادراً ما نراك تستشهد بهم او تدخل في حوار مع بعض اطروحاتهم، رغم الانطباع المتولد لديّ بحضورهم الخفي في اعمالك.
– اذا كنت استفيد في ابحاثي من بعض النظريات في نصوصها الاصلية او في ترجماتها، فأنا في الحقيقة حريص أن أتمثل هذه المفاهيم الغربية في سياق الثقافة العربية، وأنا اكتبها باللغة العربية فلا يشعر القارئ بالرطانة التي تحيل على لغة اكاديمية عالية. وما أسهل أن أقوم باستشهادات من فوكو ودريدا مثلاً، لكن هذا يصبح قصاً ولصقاً.
لكن مصطلح “البراديم” الذي استخدمته، يحيل على ابحاث كون T.S Kuhn عن القطائع العلمية داخل فضاء الفكر الغربي، وأنت تسحبه من سياقه الى سياق آخر. والسؤال هنا، هل أنت تستخدمه بمعنى القطيعة العلمية لدى كون؟ ولماذا لا تحيل قارئ كتبك على مراجعك النظرية؟
– لا، ليس في الضرورة أن أكون استخدمت “براديم” في المعنى نفسه، ولكن في معنى التغاير في الأسس المعرفية على الاقل، اي ان “البراديم” بالنسبة اليّ هو الانتقالة الاساسية في مجال الثقافة والمعرفة، ولا يهمني كثيراً بعد ذلك مسائل تاريخ استخدام المفهوم النظري داخل الثقافة الغربية. أنا لا اشتغل بتاريخ الفكر الغربي او بتاريخ الفلسفة فأدخل في نقاش حول المفاهيم والاطروحات، واذا استخدمت بعض هذه المفاهيم، فأنا لا استخدمها قبل أن تصبح واضحة.
اما في موضوع المرجع، فأنا في الحقيقة لا أملك مرجعاً محدداً، لأنها قراءة تحولت الى جزء مني. والقارئ الواعي بالمصطلح يعرف مراجعه، وخصوصاً أنني لا أستخدم اي مصطلح وهو لا يزال في حال التباس داخل مجال اللغة العربية. وأنت هنا تلزمني في شكل او آخر ان أنخرط في هذه القضايا النظرية. محمد أركون مشغول بهذه القضايا، ويجب أن اقول لك اني مدين له كثيراً في موضوع المنهج. لكن انشغال أركون بهذا الموضوع، لا يسمح له بالاشتغال كثيراً بما وراء ذلك. أنت يمكن ان تبذل عمرك كله في الكلام عن الوصفة والمقادير، أنا أحب أن ادخل المطبخ وأجرّب.
انا شخص عاطفي، ولا اخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم “المصير” وسمعت لأول مرة اغنية “علّي صوتك بالغنى”، وجدتها طريفة وضحكت. لكن عندما غنّاها محمد منير هنا في دمشق، ولحظة قال: “لسه الاغاني ممكنة”، انتفضت ولم اعد استطيع ان اتحكم بدموعي، ورحت اسأل نفسي: افعلا هي ممكنة؟
هذا يحيلنا على وجودك منذ سنوات خارج العالم العربي كاستاذ زائر في جامعة ليدن يدرّس طلابه باللغة اللانكليزية، رغم ذلك معظم كتاباتك لا تزال تصدر باللغة العربية وتندرج في فضاء مسائل الثقافة العربية. وكأنك، روحاً وفكراً، لم تغادر قط العالم العربي.
– لا أرغب أن أبعد عن المجال الثقافي العربي، وخوفي الرهيب أن أبقى في الغربة فأنتمي الى المجال الثقافي الغربي. عمري كله أمضيته في القضايا الساخنة داخل الثقافة العربية، وأنا حريص جداً أن تبقى معظم كتاباتي باللغة العربية وأن لا أكتب الا القليل باللغة الانكليزية. رغم اني على اطلاع على القضايا الساخنة في الفضاء الفكري الغربي، لكني لست طرفاً فيها ولست جزءاً من حل مسائلها.
غالباً ما تستغل بعض الاوساط الثقافية والاعلامية في الغرب قضية التعاطف مع المثقفين المسلمين المضطهدين في بلادهم بسبب آرائهم النقدية من الفكر الديني، كغطاء من اجل شن حملات عنصرية ضد الاسلام كدين. ألم تتوجس حال وصولك الى اوروبا من أن تستخدم قضيتك في هذا الاتجاه؟
– هذه نقطة مهمة جداً، لكن دعني اقول أن السياق الذي سافرت فيه الى هولندا خلق عندي تخوفاً شديداً من أن يحتفي بي الغرب باعتباري ناقداً للاسلام كدين. هناك اغراء حقيقي بالنسبة الى اي انسان مضطهد ومظلوم تحت خيمة الحماية، ان يستطيب حكاية الاضطهاد والظلم هذه، وأنا كنت واعياً وحذراً جداً حيال هذه النقطة الى درجة انني رحت ابدأ محاضراتي هناك وأنهيها بطقوس الخطاب الاسلامي، الامر الذي لم أكن أفعله في العالم الاسلامي. وهذا ليس تظاهراً، بل عائد الى اني كنت متخوفاً حقيقة في البداية ان يحتفي بي الناس ويقدّروني لأنهم يرون اني أنقض الاسلام من خارجه، في حين كنت حريصاً ان أؤكد لهم اني ناقد للفكر الاسلامي من داخل الاسلام واني مسلم، وأن القضية ليست قضية دينية ولكنها قضية سياسية في الجوهر.
ثمة جانب آخر يتعلق ببعض الباحثين، فبمجرد أن يكون الواحد منهم في الغرب يصبح لديه ميل الى أن تعترف به المؤسسات الاكاديمية الغربية وتحتفي به وكأنه واحد منها. فتراه لا هو ينتمي تماماً الى المجال الثقافي الغربي، ولا هو قادر على المحافظة على انتمائه الى مجاله الثقافي الاصلي (اذا استثنينا طبعاً ادوارد سعيد). اما بالنسبة اليّ، فأنا هنا استاذ زائر وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسسة الاكاديمية ولكنك في الوقت نفسه تنتمي الى فضائك الثقافي الخاص. واذا كنت أنا نفسي ضد فكرة ان أعيش بإحساس الضحية، فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الاكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته.
في كتابك الاخير، “دوائر الخوف في خطاب المرأة”، نلاحظ تداخل الهم الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثرت الازمة التي اصابت زوجتك إبتهال يونس واصابتك في مسارك الفكري؟
– الهم الذاتي كان دائماً موجوداً في ابحاثي، لكنه في هذا الكتاب اصبح مفصحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الازمة التي تعرضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرض للاضطهاد، مع أنها في الاساس والجوهر ظلم فادح أرتكب في حق امرأة. نحن هنا امام شرف امرأة امتهن وهي لم تؤلف اي كتاب عن الاسلام، ومع ذلك لا تزال القضية تُطرح في الخطاب العام على انها قضية نصر حامد أبو زيد وحده، وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو لماذا لم ينفذوا في حربهم ضد ابحاثي، الا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الاحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض جزافاً ان ذلك المسمّى نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقب لأنه حسب ما يقولون اقترف منكر الردة. حسناً ليعاقب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل، وافضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسسات والقوانين. رغم ذلك كله لا أريد ان أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية، فأنا لو عشتها على هذا الشكل وعشت آلامها فردياً لكنت انتهيت منذ زمن.
بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كاستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة، وكأن معركتك الاساسية هي ايضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الاستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسسة المدنية؟
– (صارخاً) طبعاً، هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة “التفكير في زمن التكفير” عن دور الجامعة والاسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسسة، المفترض أنها مدنية وعلمانية، الى أن تصبح ضعيفة وهشة وأن تستسلم منذ بدايتها امام اي هجوم تشنه عليها المؤسسة التقليدية.
وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي الى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية الى مصر الا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير او دكتوراه من الجامعة المصرية. لكن الواضح ان الجامعة وصلت الى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لاستاذ لا يزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك، فقد حاول الدكتور صادق جلال العظم ان يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير او حتى للمشاركة في اسبوعها الثقافي وفشل في ذلك.
يقول البعض انه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد ابو زيد في جامعاتها، بدل ان يذهب الى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام وهل انت مستعد للعودة الى العالم العربي اذا عرض عليك التدريس في احدى جامعاته؟
– انا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية اولا، ولكن ايضا من اي جامعة عربية. ولو عُرض عليّ منصب استاذ في اي جامعة عربية، فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لاني سأكون مع ناسي واهلي. لكن اذا تحقق هذا، فمعناه ان الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لانهم لن يدعوني لاصمت ولكن لأعبّر بحرية عن خطابي وتفكيري.
هل تعتقد ان هناك املا في ان تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟
– يعني ايه اربحها؟ انا اليوم داخل على الستين وسأحال قريبا على التقاعد بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مفيش معركة، وعلى الاجيال الجديدة ان تخوض معركتها. الجامعة المصرية خربت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل، والفساد يسند بعضه بعضا. انا لا اتوقع ان تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية، فالوضع ليس احسن حالا هنا في دمشق. والمفارقة انني هنا في سوريا بمعنى ان المجتمع قبل بي وحتى السلطة السياسية ليست ضدي والدليل انها سمحت بقدومي، بما يعني ان الجامعة اكثر تخلفا من السلطة السياسية المستبدة، والاثنان اكثر تخلفا من المجتمع. هذه ظاهرة خطيرة، فالمفروض ان تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في اي مجتمع. الامر اصبح عندنا مختلفا. في السابق لم يكفّر طه حسين داخل الجامعة، انا كُفّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة.
هذا يقودنا الى سؤال عن الواقع الثقافي المتردي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحضن كبار كتابها؟
– دعنا من الكلام بمنطق الحنين. الواقع ان انهاك مصر لم يكن فقط لاسباب اقتصادية او عسكرية، انما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري – السعودي – الاميركي والهيمنة السعودية على المؤسسات الدينية، فتحولت المؤسسة الدينية في مصر الى مؤسسة وهابية بعدما كانت اشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جدا الى دول النفط فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق ايماني مختلط بالثراء. واذا كان مفهوم النفط نفسه كبنية اقتصادية، معناه ان تتحقق الثروة من دون عمل، اي ان الثروة موجودة تحت الارض ولا يحتاج استخراجها سوى الى الحفر، فان هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد ان المعرفة موجودة في الماضي وهي لا تحتاج الى اعمال العقل للوصول اليها، بل تحتاج فقط الى نبش الماضي بحثا عن حلول للحاضر. سيطرة هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول، جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المد التي كانت تخرج من مراكز الحضارة الى مراكز البداوة، انقلبت بفعل البترول وازمات الحروب، واصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا في رأيي ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلا.
من يتحدث معك يشعر ان لديك قلقا ان لا تعود الى مصر.
– آه طبعا. ليس القلق بل الحزن. كنت اتصور انني تجاوزت هذا الموضوع، لكني صرت افكر فيه كثيرا. هو ليس الحنين الى مصر او القاهرة او حتى الى الجامعة، ولكن رغبتي ان ازور قريتي والتقي اخوتي الذين لم تتح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز اروح اسلّم عليهم وامشي. لكن لن يكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. اروح القاهرة اعمل ايه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد، اما الوطن الواسع فلا احد يستطيع ان يحرمني منه غير انني بتّ احمله داخلي.
في الحفلة الغنائية التي قدّمها الفنان محمد منير في دمشق ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنت جالسا في الصف الاول ولاحظ الجميع ان دموعك انهمرت فجأة، ما السبب؟
– اريد ان اقول لك شيئا، لكن لا اعرف كيف اقوله! انا شخص عاطفي، ولا اخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم “المصير” وسمعت لأول مرة اغنية “علّي صوتك بالغنى”، وجدتها طريفة وضحكت. لكن عندما غنّاها محمد منير هنا في دمشق، ولحظة قال: “لسه الاغاني ممكنة”، انتفضت ولم اعد استطيع ان اتحكم بدموعي، ورحت اسأل نفسي: افعلا هي ممكنة؟
مرة دعتني جمعية اهلية اسمها “فضاءات ثقافية” الى مدينة طنجة في المغرب، وفي ليلة الوداع اقيم عشاء وراح بعض الاصدقاء يغنّي للشيخ امام فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء واخذوا يعتذروا متخيلين انهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون انه الالم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي، هي بمثابة غسيل لي.
ما سبب اصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟
– ان موت شاعر كبير كنزار قباني في انكلترا، بعيدا عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن عندما رفض بعض المتطرفين ادخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له اثر في نفسي، فحدث نوع من التماهي تخيلت فيه ان الامر نفسه يحدث مع زوجتي ان هي قررت اخذ جثماني الى مصر. طبعا، هناك ايضا الالم لفقدان شاعر كبير اغنى وعينا بشعره الانساني العميق جدا والبسيط جدا. شاعر عظيم عاش في الغربة وعندما مات باتت السلطة مهتمة بالجثمان وعرضت طائرة عسكرية من اجل نقله الى وطنه. هذه الحادثة ايضا مست الما في داخلي.
زرت ايضا قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم استطع ان اتوقف من مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبهة الاضرحة لبعض القادة العرب. لا انكر اني في الآونة الاخيرة رحت اتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقا، تمنيت على زوجتي ان تدفنني حيث اموت، ولا تتجثم عناء نقل جثماني الى مصر. الارض كلها ارض الله، ولا اريد لزوجتي الى جانب الحزن الذي ستعيشه، ان يقول احدهم كلمة او يكتب مقالا، يجرحها ويزيد عناءها. وحتى اذا عدت الى مصر ميتا واحتفي بجثماني، فما معنى ذلك اذا كنت سأموت وحيدا وبعيدا عن وطني؟!
هل انت مجروح من وطنك؟
– نعم، بمعنى الغضب، ولا اخجل من ذلك. فمن حقي ان اكون غضبان. اعتقد ان غضبي احيانا يحميني، وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. احب مصر الى درجة اني لا اريدها ان تكون مقبرة لي. مصر وطن حرمت العيش داخله فلماذا ادفن فيه. اذا كان وطنك لا يريدك حيا، يجب ان تحرمه منك ميتا.
انا اميز بين مصر الناس ومصر المؤسسات، لكن مع ذلك هي علاقة غريبة جدا. احيانا افكر بمصر وكأنها امي، لكنها امي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جدا الى درجة اني، وكنت لم اغادر مصر بعد، قلت لها: يا مصر انا عاوز افتح للضوء كوة وانت مش عايزة، فبخاطرك يا مصر.
انا بعيد عن المكان وليس عن الناس، احمل حبي للمصريين وغضبي من مصر… الجامعة. الجامعة جرحي.
عن الحوار المتمدن
أجرى الحوار: مـحـمـد عـلـي الأتـاسـي
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري