وصفه الناقد إبراهيم فتحي، مرة، بأنه «شاعر عابر للأجيال»، وهو وصف محكم ودقيق، فقارئ شعر مطر سيجد فيه ملمحاً من ملامح كل جيل: بدءاً من المدرسة الرومنطيقية السابقة على حركة الشعر الحر، وانتهاء بالقصيدة الشابة الراهنة، مروراً بقصيدة التفعيلة، وحداثة السبعينات. انه ضارب في كل حلبة منها بسهم «إذا استثنينا موقفه المحافظ في الفترة الأخيرة من قصيدة النثر»
محمد عفيفي مطر تجربة عريضة عميقة، متشابكة ومتراكبة: من شهقة الطين المغموسة بقهر القرية المصرية، إلى تصفح كتاب الأرض والدم، حيث «العالم متر في مترين» من جراء العنت والاستبداد، ومن التغلف المقنع بالفيلسوف الاغريقي أنبادوقليس إلى إيقاعات النمل حين تدب ببساطة الخرافة الريفية وتراجيدياها، ومن قشرة الليل المدلهم إلى تكنولوجيا التعذيب بأحدث الأدوات في ليمان طرة، ومن رصد تطوّحات عمر إلى عالم الأطفال حيث «غزالة المعنى» وسيرة «زيارات الدهشة» في الطفولة البعيدة.
وفي كل ذلك، هناك النسيج المعشق، والغوص في أحشاء التراث لتفكيكه وتركيبه، والأبنية الكبيرة المتواشجة التي تعز على المتساهلين والعابرين. وهناك الاحتفاء بشعائر القرية وشعرها، بمحاصيلها وجنونها، وهناك تقديس العمل واليد الصانعة.
على مدى يزيد على خمسين سنة قدّم مطر (المولود في قرية رملة الأنجب في محافظة المنوفية عام 1935) دواوين: «مجمرة البدايات»، «الجوع والقمر»، «يتحدث الطمي»، «دفتر الصمت»، «رسوم على قشرة الليل»، «كتاب الأرض والدم»، «شهادة البكاء في زمن الضحك»، «ملامح من الوجه الأنبادقليسي»، «النهر يلبس الأقنعة»، «رباعية الفرح»، «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، «فاصلة إيقاعات النمل»، «احتفاليات المومياء المتوحشة»، و«رعويات عبدالله».
وتضع هذه المسيرة الثرية أيدينا على ثلاثة ملامح كبرى رافقت تجربة شاعر الحرث والزروع – كما أطلقت عليه من قبل – عبر مراحلها المختلفة.
الأول: هو سطوع الطابع الفلسفي في شعره، وقد درس مطر الفلسفة، ثم درّسها طيلة عشرين سنة في المدارس الثانوية، ويهيمن هذا الملمح، في شكل أكثر بروزاً على ديواني «ملامح من الوجه الأنبادوقليسي» و «رباعية الفرح»، الذي يقوم على أربع قصائد طويلة تتعلق كل واحدة منها بأصل من أصول الحياة في الفلسفة اليونانية القديمة: الماء والنار والهواء والتراب.
أما الثاني فهو الاستناد الشامل على التراث العربي الإسلامي، حتي ليخيل إليك أن تجربة مطر هي مغامرة الغوص في التاريخ العربي القديم، لتقديم إحالة، أو مساءلة معاصرة. لذا نواجه الحسن بن الهيثم وغيلان الدمشقي وعلي بن أبي طالب وأبا ذر الغفاري وعمر بن الخطاب، والأخير بطل أساسي في ديوانين كاملين: هما «كتاب الأرض والدم» و «شهادة البكاء في زمن الضحك».
ونواجه المتصوفة المسلمين الذين كان مطر واحداً من المبكرين في كشف نبعهم الثرّ المكنون لنا وللأجيال التالية، في «تطوّحات عمر» يقول: «هذا حصاد القمر:/ الحارس الذي أقمته في هذه المدينة/ خربها كي يبتني بوابة للقصر/ رأيته منتفخ العينين (عله يفسق في الظلام)/ رأيته مرتعش اليدين (عله يبسط كفّه في المال أو في الجسد الحرام)/ رأيتني أنام/ على مكائد الإمارة – الجيفة/ والحبالة التي تنصب لي في طرق الخيبة والجحيم».
والثالث هو النهل من ميثولوجيا القرية وتجسيد الأمثولة الريفية، مع تحويل شعري لطقوس الفلاحة وشعائر الحرث والغرس. يقول في «نوبة رجوع : «ثقلت على عباءة الدم والرماد/ والريح تصفر في بوالي العظم/ أدّكر التصاريف التي عُلّمت من لغة الصفير إلى البهائم والحمائم والكلاب/ فنفخة بين القواطع لاستقاء الخيل والأغنام/ أخرى – بين تقطيع ومدٍّ – فالحمائم وقع فوق الذراع/ ونفخة في هيئة التقبيل تصفر من مقام العشق فالأبواب تُفتح والنوافذُ/ بين إبهامين في الشفتين أو سبابتين يهر كلب أو تفر دجاجة/ أو تؤذن النوق العصية بالحليب أو السِّفاد». وهكذا، نسج مطر من الأسطورة اليونانية والأسطورة العربية والأسطورة الريفية سبيكة أسطورته الفريدة.
وصفه الناقد إبراهيم فتحي، مرة، بأنه «شاعر عابر للأجيال»، وهو وصف محكم ودقيق، فقارئ شعر مطر سيجد فيه ملمحاً من ملامح كل جيل: بدءاً من المدرسة الرومنطيقية السابقة على حركة الشعر الحر، وانتهاء بالقصيدة الشابة الراهنة، مروراً بقصيدة التفعيلة، وحداثة السبعينات. انه ضارب في كل حلبة منها بسهم «إذا استثنينا موقفه المحافظ في الفترة الأخيرة من قصيدة النثر».
والحق أن مطر بنى بيته الشعري الشاهق (الذي شرح الناقد محمد عبد المطلب طوابقه وحجراته وشرفاته في دراسة ضافية) من غير مساندة من السلطة، ومن غير مساندة من المعارضة، على السواء. بل لعله اصطلى بنارهما جميعاً (السلطة والمعارضة معاً)، ولذا كنت أعيد عليه جملة جميلة من شعره، أردها عليه كلما مرّ بعنت: «احتملْ غُمّةَ البرمكيّين». وحينما منحته المؤسسة الثقافية، قبل سنوات قليلة، جائزة الدولة التقديرية كانت قد تأخرت في اعترافها كثيراً، وكانت قد منحتها قبله لشعراء هم أصغر منه قيمة وقامة.
يقول الشاعر الذي عاد لبارئه للتو: «الحق قد يقال مرتين:/ فمرة يقوله العراف/ ومرة يقوله السياف»، وقد خبر مطر الحالتين: قولة العراف أو الشاعر أو المفكر أو الفيلسوف، وقولة الجلاد. الأولى حينما قدم للحياة الشعرية العربية عطاء عميقاً من خصيب الشعر، والثانية حينما اعتقل في مطلع التسعينات، إبان حرب الخليج الأولى، ومورست عليه ألوان بشعة من التعذيب، صورها بعد ذلك في «طقوس متقابلة» بقوله: «إنني الظمأ المرفوف في رخام لا يبيد/ فليس من شيء لشيء غير عصف الروح في عصف الرماد/ مستحدث التعذيب بالكيمياء يكشط من ظلامك طينة للخلق فالملكوت يسطع/ والحشود المبهمات».
سلاماً أيها الرجل الذي علمنا ذات يوم أن «الشعر ملزم لا ملتزم»، فعرفنا أن الشعر أعلى من أي غرض أو منفعة أو وظيفة. وسلاماً أيها الرجل الذي لن نستطيع أن نقول له مجدداً: «احتمل غمة البرمكيين» لأنه صار أخف من كل قبيلة، وأرفع من كل عسف. وسلاماً أيها الرجل الذي قال في بدء مساره: «لو كنت شاعراً يا سادتي القراء/ لاغتسلت في أحرفي قوالب الأشياء»، وها قد حدث: صار شاعراً، واغتسلت في أحرفه قوالب الأشياء. وأسميناه: شاعر مئذنة الدمع.
عن جهة الشعر
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني