كشف
ما الذي يستر حقيقتها؟! أهو المنديل أم اختراع شخصية نوووون والاختباء خلفها؟ فتحت دفتراً أوراقه صفراء معروقة وأغلقته؛ زوجها ضرير ولا يستطيع قراءة قصصها. يسخر منها دائما ويسألها، “عشانك بتقري كتير، فكرت حالك بتقدري تكتبي وأنت ما خلصتِ حتى صف عاشر!؟” هذا الدفتر وغيره يستر حقيقتها. ضحكت أمام المرآة، فالستر عادة للعيوب وليس للحقيقة، وفكرت قليلاً: الجميع يطلبون الستر ويفعلون فضائح، وقالت في نفسها ان لديها من العيوب ما يحتاج الى غربال كبير، فكم تمنت ان تنزع هذا المنديل وتطلق شعرها حراً طليقاً لكنها وجدت نفسها ترتديه بحركة آلية. ليس لديها مال لشراء عطر ولا مكياج، ولن يكونا ما يستراها أو يفضحاها ولن يزيداها جمالاً، فابتسمت، خلعت منديلها، والتقطت دفترها وزرعته في حقيبتها وخرجت إلى الشمس تنشر قصصها.
حساسية
عاد فصل الربيع قصير العمر الى القدس مرة أخرى ففرش سجادته الخضراء على أراضي الخلاء والمقابر، فوجد انه يكمم منخريه من امواج الطلع التي تصيبه بحساسية لا يقوى بسببها على ان يفتح عينيه، ويضطر ان يضع نظارات الطيارين القديمة على عينيه، وهو يعاني أيضاً من حساسية من العطر والطيب ولا يستطيع بسببها السيطرة على معدته وأمعاءه، فيضطر أن يتكمم بقناع مضاد للغازات السامة، ولديه حساسية من القدس الغربية ومركب خليط من الخوف والحساسية إزاء الجنود اليهود لأنهم كلما رأؤوه ظنوا انه يتكمم ليخفي شخصيته الحقيقية بكونه ينتمي لتنظيم “جيم كاري” أو لأنه لا يعبأ بربيع القدس، وقد تكالب عليه جنود المشمار غڤول وعناصر الشرطة وتمكنوا من محاصرته هو وحساسياته كلها وفتشوه ولم يجدوا لديه اسباباً معقولة لصمته ولا لكمامة الغاز ولا نظاراته البلهاء. وقد فطسوا ضاحكين، الأمر الذي اعتبروه عملاً عدوانياً وإرهابياً صادراً من ذلك السائق الفلسطيني العربي، يستحق عليه الضرب المبرح والتنكيل.
قائمة
امرأة جميلة رآها تصعد الى سيارته الأجرة وتشير بيدها له أن ينطلق باتجاه الطريق وهي تحادث شخصاً في جوالها قائلةً انها نسيت رقم صديقتها الجديدة معلقاً على الثلاجة، وعندما أنهت مكالمتها سألته كم يريد الى شعفاط، فقال لها ان تدفع ما تريد. لوت شفتيها تبرماً وقرفاً، وتأكدت من انه نسونجي وندمت حين قالت له: “شكلك تبع نسوان ومش تبع رزقة؟”
ندمت لأنه نفخ صدره وجلخ صوته الذكوري قائلاً، “أنا نسونجي؟ الله يسامحك؟..هات خمسين شيكل!”
هي تعلم ان الأجرة ثلاثين شيكل ولكنها ألقت خمسين شيكل وهي في منتصف الطريق، وطلبت منه إيقاف السيارة. سألها: ليش مستعجلة؟
قالت له: “مش شغلك! نزلني!”
قال لها:”بدري!”
قالت لها: “وبعدين؟!”
قال لها: “ولا قبلين!”
وجدت نفسها تضحك لأنه نسونجي ونفسه خضراء وتعجبت من نفسها وهي تقول له: “نسيت تلفون صديقتي الجديدة؟”
قال لها وهو يعالج جواله، “شو اسمها، هلأ بقول لك رقمها..”
ضحكت غير مصدقة، وأشفقت عليه لأنه أراد أن يرضيها ويجذب انتباهها بأي شكل، سألها ثانيةً بصوت واثق، “شو اسمها؟” ولكنها لم تخبره باسم صديقتها لأنها ببساطة لا تميز رقمها حتى لو رأته، وأرادت أن تتحداه فقالت له نهى وهو اسم طبيبتها، فسألها عما إذا كانت تقصد السكرتيرة ام الطبيبة ام المعلمة، ونقلها رقم الطبيبة، وحينما ذكرت اسم حماتها مزنة، كان الرقم صحيحاً، أيضاً. وسرعان ما سجلت ارقام صديقات كانت قد انقطعت بينهم الصلات: فوفو، وميسون، وازدهار، وليلي، وليلى، وسعاد ومنى ومنى الطويلة، وشكرته لأنه أضاع وقتاً طويلاً وهو يستخرج ارقام صديقاتها، ولم يتركها تنزل من سيارته الأجرة إلا بعد أن أخذ رقمها…
جهنم
تشاجرت مع زوجها. قليلة هي الأيام التي لا يتشاجران فيها هذه الأيام. أرادت ان تعمل لتساهم في تحسين وضعهم الاقتصادي. وهي بكل الأحوال لم تعد تطيق هذا البيت الذي يستأجرانه في قرية العيسوية التي أضحت بيوتها متلاصقة وشوارعها ضيقة كمخيم لاجئين. كثير من الناس يسرقون الكهرباء والماء من الخطوط العامة، وهذا دليل على فاقة ويأس. وقد استأجر زوجها بيتاً يشمل غرفة وصالة ومطبخاً صغيراً بألف وخمسمائة شيكل، ويشمل ذلك الماء والكهرباء، وقد أفاقت ذات صباح على صفارة الجيب العسكري الإسرائيلي وهو يرافق عمَّال شركة كهرباء القدس الذين أتوا لقطع ساعة الكهرباء ومطالبة المالك بدفع أموال طائلة. لكن المالك سرعان ما يسرق كهرباء من خط عام آخر. قطعوها مرتين بعد ذلك، ودائماً تلعن الساعة التي سكنت فيها ذلك البيت وتذكِّر زوجها بضرورة البحث عن بيت آخر. هي تحت رحمة زوجها الضرير، والكهرباء المقطوعة، وحتى مزاج المالك وطبيعة علاقته بزوجته الغيورة… وزوجها ضرير مسكين قلبه أبيض ويضحك عليه الجميع، اصدقاؤه واقرباؤه وحتى أجيره.
حلم
الزوجة التي اكتشفت ان زوجها الضرير قد تزوج عليها حردت في بيت أهلها. هناك تذكرت انها طلبت منه ان يتزوج لأنها لم تخلف له قروداً تتقافز حوله ولا غزلان يطاردها عبثاً. لم يشجعها أهلها على الطلاق منه، ووجدت انها تعود الى بيت زوجها عند المغرب. سائق الباص “اللي نفسه خضراء” – كما تحب أن تصفه- تظارف معها خلال العودة الى البيت، بل وحاول أن يطلب رقم زوجها او بيتهم لأمر بالغ الأهمية، فأهملته، وكذلك تجاهلت شبان الحارة الذين نفخوا صدورهم وشحذوا حناجرهم واستعرضوا بطولاتهم وصافرات حناجرهم؛ عادت لتنام وحدها في البيت تلك الليلة بلا زوجها، الذي من المؤكد انه سيقضي الليلة مع زوجته الجديدة في فندق. الزوجة تلك الليلة تركت أضواء البيت مضاءة وشبابيك الدار كلها مفتوحة على غير العادة، تماماً كما تتمنَّى دائماً.. وليلتئذٍ راودها حلم غريب ترى فيه رجالاً يموتون في سبيلها، يتصارعون، يقتلعون عيون بعضهم، يتسايفون وتشبع عينيها الدماء الداكنة التي ترتوي منها النصال والأنياب؛ لكنها تلذذت بضرير جريح مرتمٍ أرضاً يرجوها شربة ماء، وينتظر صلوات أصابعها الأنثوية على جبينه أو ناصيته.
انا الطريق
كان يحلم بامرأة جميلة تقع في حبه ويتزوجها. كثيراً ما رغب في أن يكون محبوباً من زوجة عاشقة مجنونة به، وتخيَّل انه مثل يوسف يتمنَّع ولكن يتمنى وصالها، يعذبها بكل لمسة، يضايقها بكبريائه ونفسه الأبية وينتظر، ينتظر بفارغ الصبر أن ترجوه مثل سجينة أن يحرِّرها من صمتها وحرمانها وثيابها ومن قدميها المشرشتين في أرض الحرمان، فتطير بين يديه، وينتظر، بفارغ الصبر، ان ترتمي كتينة ترجو أن يقشرها ويقضمها، يلوكها ببطء، مرة ومراراً؛ وقد رأى نساءً جميلات بعدد شعره في سيارات الأجرة لكن في الغالب لم تعطِهِ الواحدة منهن أكثر من نظرة واحدة وحافظن على مسافة منه وجلافة في الرد.
هكذا بقي يحلم ان يلتقي بامرأة في سيارة الأجرة الجديدة التي بدأ يعمل عليها مؤخراً كأجير لرجل ضرير كان له امرأة سليطة اللسان وتظن سوءاً بالبشر، حتى زوجها، فتتخيل انه يخونها حتى بعماه وتخيلاته الجامحة، بتخبئة دخل التاكسي الحقيقي عنها ورغبته في تطليقها والاقتران بأخرى. وهكذا كان يراودها حلم غريب ترى فيه رجالاً يموتون في سبيلها، يتصارعون، يقتلعون عيون بعضهم، يتسايفون وتشبع عينيها الدماء الداكنة التي ترتوي منها النصال والأنياب؛ كانت تحلم بجريح ضرير كل مرة مرتمٍ أرضاً يرجوها شربة ماء، صلاة أصابع أنثوية على جبينه أو ناصيته.
في الساعة العاشرة صباحاً، قبل اشتداد لهيب شمس أيار، في الشارع المقابل للمدرسة الرشيدية، بجانب باب الساهرة، في هذا اليوم الأياري المعتدل الحرارة، وقفت تنتظر سيارة الأجرة التي يمتلكونها؛ وانتظرت على مبعدة من سيارات الأجرة لتنتظر دور سيارتهم التي تميِّزها. وصعدت اليها، رمقت السائق بنظرة عميقة قصيرة، وجلست بجانبه.
لم يكد يسألها، “أين؟” حتى فتحت صدمتُه بجمالها ساحات روحه وعيونه وشفتيه كي تعمِّرها عذابات الرغبات الدفينة وشوق العين لكحل الجمال، واشرأبت أذناه لتلتقطا أخفض حفيف لفستانها الأزرق ونقرات صندلها على السجادة الكاوتشوكية، واتسعت فتحتا منخريه لتضخَّ مزيداً من حطب الهواء في محرقة صدره، فأي جمال جمالها!! لطالما اعتبر الشعر الطويل تاج الجمال، فماذا يقول عن صباح ذلك الوجه المشرق ذي العينيين العسليتين الرائقتين! امرأة بسيطة، بلا مكياج، بلا أقراط، بلا ذهب ولا فضة، بلا ادعاءات خرقاء ولا عطر فواح يضطر فيه هذا السائق أن يتكمم بقناع مضاد للغازات السامة، امرأة عادية تحمل حقيبة رخيصة صينية الصنع من المؤكد ان سعرها لا يتجاوز الثلاثين شيكلاً، تنتعل صندلاً يظهر أصابعها البضة؛ هي امرأة بدت له من ثوبه الاجتماعي.
أية جاذبية لهذه المرأة! وأية شقاوة تجعلها تجلس بجانبه، بجانبه بالضبط! هذا أمر لم يألفه في كل سنوات سياقته مع كل معلميه وسياراتهم الكثيرة، إلا من فتيات غرات مشاكسات كانت احلامهن ان يركبن سيارات بيضاء ولو بقوة حصان واحد واكتشفن حالاً ان السائق يعوزه كل شيء ما عدا القبح.
قالت له، “معبر قلنديا،” ثم أكملت حديثها في جوالها، “شو بقول لك اعمل! شو بتستنى؟ أنا بسكر الخط وانت بتتصل عليه، خلينا نشوف ميته! اسأله زي ما قلت لك! أيوة، هلأ، بس اسكر الخط…”
وسمعت زوجها يصرخ فيها، “انت مجنونة!! مجنونة! ما تحكي مع حدا! والله بطلقك الليلة اذا مشِّيتِ اللي براسك، شكاكة، مجنونة، ارجعي ع البيت، ارجعي..” فأغلقت الجوال في وجه زوجها الضرير الذي يضحك عليه الناس كلهم، وهي لن تسمح لهذا السائق وهو أجيرُهم الجديد، أن يستغل طيبة زوجها ويسرقهم؛ كلا منذ اليوم فصاعداً لن تسمح لأحد أن يسرق قوتهم.
وقد تشاجرت مع زوجها أمس حول العمل، عملها التي تصرّ على ان تبدأ به منذ الأسبوع القادم لتساعد زوجها وتحسِّن من وضعهما قليلاً، خاصة انهما بلا أطفال منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وليس لديها ما تفعله في البيت إلا القراءة وسماع فيروز ومشاهدة التلفاز ومجالسة نساء الحارة خاصة العجائز وكتابة قصصهن المضحكة والمؤلمة. لكن زوجها صرخ فيها، “شغل ثماني ساعات على ألف شيكل في حضانة أطفال بس عشان ما عندك شهادة توجيهي وعشان معك هوية ضفة، ولك بستغلوك يا هبلة.. هدا ظلم.. ظلم.. بنت معها هوية قدس بتاخذ ٣٥٠٠ على الأقل..”
-” يبقى لازم تقسى على أجيرك، ولك كلهم بسرقوك!!”
-” ما حدا بسرقني أنا!”
-” أكيد بياخذ اكتر من الثلث!”
-” طبعاً راح ياخد اكثر من الثلث! تذكري: ثلث لنا، ثلث له وثلث للسيارة.. شو بدك بهالكلام.. خلص بوعدك ازيد مصاري الشهر…”
-” يبقى بتسمح لي أشتغل!”
-” مرتي ما بتشتغل.. مرتي بحب تستناني في الدار…”
-” يبقى لازم تعصر الشوفير الجديد. اكيد حرامي وشراني…”
-” حرام عليكِ، بكفي ظنّ بالناس! الزلمة مسكين وع باب الله.. بضلّوا صافف عند الرشيدية، وبخاف يطلع ع القدس الغربية يشتغل عند اليهود، تصوري!؟ منظره بحزن، انا مش عارف كيف بزبط أموره..”
-” بزبط أموره زي كل الناس: بسرقوا الكهربا والمي، وبكبوا مجاريهم ع جيرانهم.. أو الله ببعث له واحد ضرير زيك يضحك عليه..”
-” خلص، خلص، أنا راح اتعامل معه بشكل مختلف..”
-” يبقى لازم تعصره، لازم حدا يفحص ميته..” قالت له.
-” يفحص ميته، قه قه قه،” قهقه زوجها، “ولك هو سيارة عشان تفحصي ميته؟ الله يقطعك ما انغشك، تعالي، تعالي،” وفتح ذراعية فألقمته جسدها وزرع وجهه في شعرها وأخذ يتنشق نفسها الدافئ ورائحة ثيابها حتى تنشقها شعرة شعرة، خلية خلية.
وقع هاتف السائق من يده، بينما كانت يداه تحسسان عليه، كانت عيناه تنزلقان على ساقيها اللذين تبرز عليهما عروق النسا، فترحم على شبابها وهي بهذا الجمال. سعلت المرأة بخشونة فالتقط الهاتف سريعا واعتذر، “ما تآخذيني!”
– “شو بتستنى؟”
أخرسه جمالها. وجودها بجانبه أطاح بعقله وسرعة بديهته. كم أراد ان يكتحل بجمال وجهها، لكنه لم يجرؤ على ان ينظر اليها، فليس على الرجال من طينته ان ينظرن الى النساء من هذا القرب الشديد، وكأنهم في خلوة، هكذا بالضبط فكر وتقنَّع بالجلافة والكشرة، وأشغل أصابعه بالبحث عن إذاعة تبثُّ أخباراً.
-” خليه، خليه ع فيروز، هذه أغنية حلوة.. قديش بدك؟”
تأكد من خلو يديها من دبلة، فارتاح قليلاً، لكنه تضايق من فيروز، شتم فيروز وصوتها وكل من يحب صوتها وأغانيها. ماذا يعمل؟ كم يطلب؟ كيف يتصرف؟ كيف يبدو امامها؟ كريماً؟ مسكيناًً؟ مساوماً؟ اللعنة انها جميلة..
صارلي شي مية سنه مشلوح بهالدكان
ضجرت مني الحيطان، ومن صبحيه بقوم
وانا عيني عل الحلى، والحلى عل الطرقات
بغنيلو غنيات وهو بحالو مشغووول
نطرت مواعيد الارض، وما حدا نطرني
-“قديش بدك؟ احكِ!! شو بتستنَّى؟ بتمشي من هون وبتقنص الأجرة اللي بدك اياها.. بعرفكم، سواقين الأيام هاي..”
-” أدفعي اللي بدك إياه..” أفضل إجابة خرجت من فمه.
صارلي شي مية سنه عم ألف عناوين مش معروفه لمين
ووديلهون اخبار، بكره لابد السما لتشتيلي عل الباب
شمسيات واحباب، بياخدوني بشي نهار
والي تزكر كل الناس بالاخر زكرني
وكانت كلمات أغنية فيروز قد تسللت إلى اعماقه وشعر بأن الأغنية ألفتها فيروز من أجله وله حصرياً دون غيره؛ وتعجَّب كيف انه لم يسمعها من قبل ولماذا لا يحب فيروز، وود لو يعرف اسم الأغنية، أغنيته هو وحده.
سألها، “بلا مؤاخذة، ممكن أسألك شو اسم الاغنية؟”
ضحكت فجأة، “قديش كان في ناس!”
لم يقل شيئاً. لم ينظر اليها. كان مسحوراً بالأغنية وسعيداً وممتناً.
-” أنت -أمبين- شوفير مرّ!” قالت وهي تنظر إليه وكأنها صفعته، وهو لم يتوقع جوابها، فغر فاهُ، وفكر بأن جوابها قد أعطاه فرصة لكسر الجليد وجسر المسافات، ولكنها امرأة جميلة سليطة اللسان سرعان ما أعقبت الصفعة بلطمة أخرى، “شكلك تبع نسوان ومش تبع رزقة؟”
غطّى حيرته بما يعمل بضحكة قصيرة هازئة، ورنَّ جوال السيارة ولمح رقم معلمه، فماذا يفعل؟! قال لها، “أنا نسونجي؟ الله يسامحك.. باخذ منك ثمانين شيكل، منيح؟”
فكرت بالثمانين شيكل: طلب سيارة أجرة خلال خمس عشرة دقيقة بثمانين شيكل، وهو يعمل ساعات دوام مفتوحة، إذن، لا بُدّ من انه يسرقهم.
وسمعته وهو يتكلم مع زوجها.
-” ألو، أيوة معلمي، مين أنا؟! أنا… هيَّك عرفتني.. هو أعطاني اياه، اليوم مريض ماكل لفحة هوا جامدة، اتصل علي وطلب مني آخذ بلفونه.. أيوة انا مشغول، معي طلب.. بلقط رزقي، ما الك تسألني وين أنا! مين؟ شو!؟ كان تعبان اليوم، بقول لك كان تعبان، هو اعطاني اياه، هيُّو معي، بحكي منه.. يا عمي، ما إلك تسألني وين أنا.. يا عمي بالصدفة.. والله البلفون معي بالصدفة.. انت احكي معه، وقول له ما يعطيني اياه مرة تانية!! يا زلمة وبعدين معك!؟ شو اتفاقنا!؟ اتفاقنا الك مبلغ مقطوع، بغض النظر اشتغلت كتير او قليل، ارجوك انا هلأ مشغول ومعي طلب، اذا الشغل معك وجع راس، بديش هالشغل، تحت رجلي، والله وما علي يمين برجعلك السيارة خلال ساعة، انا زلمة الكلمة ما بتصير عندي ثنتين.. لأ، اسمح لي، مش راح اقول لك قديش راح آخد، ممكن عشانها ست ما اخد أغورة واحدة… سلام…”
نظرت إليه ملياً وهي مقتنعة بأنه شوفير مرّ ومنيِّب ونسونجي. لكنه يعرف مصلحته ورزقته. لقد أدركت المرأة الجميلة أيضاً ان زوجها نقطة ضعفها، بل شحطة ضعفها، ودعت عليه في سرِّها، “نقطة تجيه!” إذن، اتفق زوجها فعلاً مع السائق على مبلغ شهري مقطوع، لكن كم؟! كذب عليها زوجها وقال لها انهم ينالون ثلث الدخل. شعرت انها مهزومة أمام زوجها وأمام هذا السائق الداهية، وهي لا تريد ان تكشف له من تكون.. وقد لاحظ السائق توترها وسرحانها في ملكوت الفكر، فأسعفته بديهته وقال لها، “إذا ثمانين شيكل كتير، ادفعي اللي بتقدري عليه!”
-” نزلني هون!” قالت له عند مفترق قرب مستشفى العيون.
-” قلتِ على المعبر؟”
-” لأ، نزلني هون،” قالت وقد أوقف السيارة عند التمثال الأبيض في الشيخ جراح، وتركت على الكرسي مائة شيكل، ولم تشأ أن تنتظره يعيد لها البقية، ففتحت باب السيارة وخرجت.
-” لحظة،” ناداها لكنها لم تطق صوته ولا خلقته، “اسمعي، خذي،” قال لها وقد ترك سيارته والسيارة شغالة والمفاتيح فيها، ولحق بها على الرصيف وهو يزعق، “خذي، خذي!” وحين دنا منها، ناولها ثمانين شيكل.
قالت له، “بدي عشرين.”
-” لأ بدك ثمانين.. عشرين لمستشفى العيون ثمانين لمعبر قلنديا! خذي، خذي!”
قالت له، “شكلك بجد مش تبع رزقة!”
قال لها، “شكلي تبع نسوان، يعني!؟ الله يسامحك!!”
حاولت ان تداري ابتسامتها فنجحت لكنها لم تستطع كتم ضحكتها.
-” خذي مصاريك يا بنت، خوف الحرام والحلال!”
أخذت مالها وشكرته باقتضاب، وجنَّ جنونه وهو يراها تدير ظهرها لها وتبتعد عنه، فقد شعر انه سيفقدها للأبد ويمكن ان تكون هي المرأة الجميلة التي يبحث عنها.
-” اذا بدك،” قال لها، وهو يتبعها بضع خطوات أخرى، “بستناك لتخلصي زيارتك عشان اوصلك وين بدك!”
-” ما تستنى.”
-” خليني اترزق كمان طلب!”
-” الله معك!”
-” طب، ايش رأيك تعطيني رقم جوالك؟!”
عند المنحنى وقفت، استدارت لتنظر اليه، رأت نظرة تحنان في عينيه وسيارة شرطة قد وقفت قرب سيارته الفارغة ذات المحرك الشغال، وأشارت له بيدها نحو سيارته، فاستدار ونظر نحو سيارته على بعد نحو خمسة عشر متراً فوجد نفسه يركض عائداً الى سيارة الأجرة ليتجنب المخالفة وسحب الرخصة. رأته يتجادل لدقائق مع شرطي، ثم أخيراً رأته يستلم مخالفة.
كان انطباعها الأول، “الله لا يرده!” ولكنها سرعان ما قلقت عليه. حزنت عليه. ضحكت عليه، ليس كشماتة، بل بدا لها ممثلاً كوميدياً ناجحاً. وفجأة استدار ولاحظت انه نظر باتجاهها، شعرت بحرجٍ كبير وهي تقف على الرصيف حيث تركها بالضبط، شعرت بالذنب من محنته مع شرطة السير الإسرائيلية، وتمنت الأرض أن تبلعها بسبب الخجل الذي كسا وجنتيها بطفحٍ أحمر، وحالما توقف باص خط قلنديا خلف سيارة الأجرة تماماً، صعدت مع فتاة وعجوز الى الباص وكادت تنقد سائقه الوسيم ستة شواكل او أقل، لكنها غيرت رأيها في آخر لحظة، ونزلت درجتي الباص وصعدت إلى الكرسي الخلفي في التاكسي الذي ما زال شوفيره يتجادل ويتماحك مع الشرطي.
اتصلت بزوجها، “شو مخبي عليَّ، هه؟ وليش ما قلت لي انكم متفقين ع مبلغ مقطوع يا مقطوع!؟ الله يقطعك من شرشك! نسيت تحكيلي؟! وامبارح بتقولي: تلت النا وتلت له وتلت للسيارة.. انت مسكين يا حرام.. امبين! قديش المبلغ؟ المبلغ الشهري المقطوع المسخمط، قديش؟ ٥٨٠٠ شيكل؟! يسم بدنك، انا جاي في الطريق، عدني مروحة!” وأغلقت الهاتف وهي ترى السائق الداهية يمسك المخالفة بيده اليسرى ويضربها باليمنى محتجاً حانقاً.
رن جوال السائق، خطر ببالها ان زوجها هو المتصل، شمت رائحة مؤامرة. تقدمت قليلاً لتبحث عن الهاتف، كان على كرسي السائق، التقطته، وقرأت اسم المتصلة: ياسمين.
خطر لها انه يمكن ان تكون “ياسمين” اسماً مستعاراً لزوجها، لكنها لاحظت انه ليس رقم زوجها، بل يشبه رقم جوال صديقة لها، اسمها ياسمين، أهي ياسمين نفسها؟ نعم، هي ياسمين نفسها ورقمها نفسه! اهما قريبان؟ بحثت عن رقم زوجها تحت حرف ع:علاء، لكنها وجدت رقم جوال عُلا، عمار، عيد… أضحكتها ريبتها بكل شيء، لكن، لحظة، أليس هذا رقم جوال علا صديقتها؟! أهي قريبته أيضاً؟! أم قريبة ياسمين؟! لمحته يتجه الى السيارة، فألقت الجوال مكانه، وتظاهرت بالبحث عن شيء ما في حقيبتها، داعبت الدفتر الذي تكتب فيه قصصاً والجزدان الصغير الذي يحوي هويتها الحمراء حتى وجدت دبلتها ونظارتها الشمسية، وضعتهما.
-” أنت هنا… الله يستر! تكتبين؟”سمعته يتنهد ويشتم ويضرب التابلو بمخالفته.
-” مش رايحة ع المعبر، أمشِ، مش عارفة وين بدي أروح!” قالت له.
-” ع وين رايحة يا ست؟”
-” بس أمشِ…”
-” شو بس أمشِ، هاي؟! يا ستي أنا مش تبع نسوان، والله مش تبع نسوان، مش فاضي لك..”
ضحكت في أعماقها: ‘مش تبع نسوان؟! ياسمين وعلا، وبدُّو رقم جوالي.’
سألته ساخرة، ” تبع رزقة، إذن!”
-” تبع خخخ…” وضبط نفسه ولسانه؛ وقدرت المرأة الجميلة انه قصد ان يقول: “تبع خرا،” وقدَّرت ان سيطرته على نفسه دليل على دهائه، كم تمنت أن يخطئ في حقها، “شو فارق عندك!؟ في فواتير ولازم ندفعها؟!” صرخ وهو يخبط المخالفة على التابلوه.
كانت نبرة صوته قد أصبحت حادة ومرتفعة لدرجة انها لم تطقه، أرادت ان تفتح الباب وتخرج لكنها لم تفعل، جلست ملتفعة بالهدوء، امرأة سليطة اللسان، شكاكة، مهزومة وعاجزة. وجدت نفسها تخلع نظارات الشمس، وتسأله، “كم كانت المخالفة؟”
-” ٥٠٠ شيكل.. يا رب، رحمتك.. حريقة الدنيا.. مخالفات وشوب..”
-” بتجمع في يومك ٥٠٠ شيكل؟!”
-” ممكن آ، ممكن لأ.. بس انت ليش قعدت ورا؟! كنتِ قاعدة هون…”
-” قلت في نفسي ممكن شوفير تبع نسوان احزري منه يا بنت..”
-” أرجوك ما تقولي تبع نسوان!؟”
-” أنا قلت ممكن…”
-” وصرت لابسة دبلة، أنتِ متجوزة؟ ما كنتِ لابسة دبلة من قبل..”
-” بنسى البسها مرات.”
-” الدبلة ما انخلقت عشان نلبسها ونقيمها وقت ما بدنا..”
-” وانت مش نسونجي؟!”
-” طبعا، لأ.”
-” بس انت طلبت رقم جوالي؟! هيك أكيد بتعمل مع كتير نسوان.”
-” فهمتيني غلط. انا بحفظ قائمة زبائن، اسمك عندي، بشوفه لازم اجيكِ. اي وقت، اي ساعة، شوفي انت جميلة، عندي تلفونات لناس حلوين وناس بشعين، بس هدولا زباين، زباين وبس، انا ما بشتغل مع مكتب، انا بشتغل مع الشارع، الشارع معلمي الحقيقي ورزقتي ولعنتي… انتِ بجد متجوزة؟”
-” شو بفرق عندك: متجوزة او لأ؟!”
-” اذا متجوزة، جمالك ما بعني لي ايشي، ولا انتِ بتعني ايشي اكتر من زبونة لازم اخدمها واحميها واستفيد منها لأنها رزقتي.. عمي المرة المتجوزة والشارع ملك القانون، وانا مش حمل مخالفة القانون… اذا مش متجوزة، وفي نصيب بتجوزك، انا مطلق، وعندي اربعة أصغرهم هلأ صار عمره تسع سنوات، ورزقتي ع قدي، وزلمة بدور ع مرة حلوة. قولي لي: انتِ متجوزة!؟”
-” قل لي: ليش طلقت مرتك؟!”
-” والله يا بنت الناس، باكل أصابعي ندم من ثمن سنوات.. كنت عصبي كتير، وهي عصبية، كلمتي ما بتصير كلمتين، وهي عنيدة، بضحك وجهل رمت الولاد في وجهي وحردت؛ طلقتها فورا.. تشحرنا والله..”
-” ما رجعتها!؟”
-” أخوتها خافوا ع البيت، قالوا بكرة بتجيب ولادها وبتاخد أوضة في بيت أبوها، لما عقلي رجعلي في راسي واقتنعت ارجعها كانوا اخوتها مجوزينها..” قال وعضَّ على شفتيه وتحرَّك رأسه بحركة لاإرادية تنمّ عن ندم وأسىً وذنب وحنق وعذابات استطاعت المرأة ان تقرأها على صفحة محياه؛ شعرت انه مرتاح في الفضفضة لها عما بداخله وحسدته على ذلك فهي تتمنى ان يكون ثمة شخص تستسره ببساطة هكذا. شعرت ان السائق ربما كان بسيطاً، وليس بذلك الدهاء الذي كانت تظنه!؟ يا لظنونها!! وخطر ببالها انه ما دام السائق صريحاً معها، فلتستغل ذلك، ولتأخذ منه الأجوبة التي تريدها، وأول سؤال وجهته له: “قديش بتدفع مبلغ مقطوع لصاحب السيارة؟!”
-” ٦٠٠٠ شيكل. كيف عرفتِ اني اتفقت معه ع مبلغ مقطوع؟!”
-” سمعتك قبل شوي. مش قليل عليه ٦٠٠٠ شيكل؟”
ضحك. “كل يوم لازم اكسب أول ٢٠٠ شيكل لصاحب السيارة، هدولا فتوح الشغل للمعلم، و١٠٠ شيكل يوميا للبنزين، استفتاحي انا ببلش بعد مصاري المعلم والبنزين، طبعاً المخالفات علي، أجار بيت، كهرباء، ماء، ارنونة، ضريبة دخل، تأمين صحي، كم سيبقى؟ وبنقول الحمد لله مستورة، لا بسرق، ولا بنصب، وعزيز نفس ما بمد ايدي لقريب او صديق..”
ردت عليه، “وصاحب السيارة بياخد منك في السنة ٧٢ الف شيكل، بدفع تأمين السيارة الشامل:١٠٠٠٠شيكل، بدفع حوالي ٥٠٠٠ شيكل تصليحات السيارة اللي ما بتغطيها بوليصة التأمين، بدفع الف شيكل صيانة سنوية زيت وفلاتر ضواوي، كمان الف ونص للترخيص، ٥٠٠٠ لضريبة الدخل والتأمين الصحي عن صاحب السيارة وزوجته، قديش بضل؟!حوالي خمسين الف شيكل في السنة، يعني معاش ٤٠٠٠ شيكل شهرياً، بروح منهم 1500 اجار بيت، يبقى 2500 شيكل شهرياً… أغورات.. ما حسبنا ماء، كهربا، طعام، مواصلات، ضريبة ارنونة، تلفون، بلفونات، هدايا مناسبات… ” قالت له.
-” كأنك صاحبة السيارة. وهدا بالزبط وضعي انا.. أنتِ متأكدة انك متجوزة؟!”
ضحكت، وخلعت الدبلة من اصبعها، “ممكن آ، ممكن لأ… احسن لك اصرف نظر عني: لا زوجة ولا زبونة!؟”
جحرها من خلال المرآة وهو يسوق مبتسماً فها هي تستعمل جملته وترد الصاع صاعين والسؤال بكومة من الحيرة والضياع، مفكراً بهذه المرأة الصعبة المراس والهوجاء ولكنها جميلة، جذابة؛ لاك مسبة في باله يشتم بها النسوان وعرق حواء. أوجعه رأسه.
قال لها، “انتو النسوان وجع راس!”
قالت له، “انتو الرجال خونة كزابين وسرسرية!”
تمنى ان يصرخ في وجهها بحرية وأريحية، “كس ام النسوان!”
تمنت ان تصرخ في وجهه، “يقطعكم! قارين ع شيخ واحد!!”
رن جوالها، إنه زوجها فتركت جوالها يزعق حتى انقطعت الرنة. رن جواله، فالتقطه والقى نظرة على الرقم والقاه عند غيار السيارة.
-” وين بالزبط انزلك؟” سألها قبل معبر قلنديا بكيلومتر، عند عمارة الطحان.
-” وين ما بدك!” قالت وعينيها على جدار الفصل العنصري، وألقت على الكرسي أمامها ستين شيكلاً.
-” شو هالجواب هدا؟! لا حول ولا قوة الا بالله!”
-” ناقص تلبس عمة وقفطان!”
-” والله بخاف ربي.. انا انسان منيح..”
-” أمبين…”
-” اللهم ربي.. شو بدك مني؟!..”
-” شكلي بدي أصير زبونتك…”
-” شو يعني؟!”
-” سجل رقمي…”
تنهد مزعوجاً ونفخ متبرماً، نظر اليها شزراً في المرآة؛ لو تأخر ثانية أخرى في تسجيل رقمها، لكادت كما قررت لحظتئذ ان تطلب منه التوقف، تفتح باب السيارة وتخرج، لكنها رأته يخرج جوالاً آخر من جيب قميصه ليسجل فيه رقمها.
-” جوالين معك، اثنين؟!” سألته ساخرة.
قال،”هذا لي، أما ذلك فهو لصديقي! خذي هذا رقمي.. شو رقمك؟!”
تملكها الفضول: من صديقه الذي لديه رقمي صديقتيها ياسمين وعلا!؟
-” عفوا، شو اسم صديقك؟!” سألته وهي تضحك ضحكة شقية عذبة.
-” الله اكبر… شو بدك باسمه؟!”
-” كيد نسوان…”
ضحك، “رضا…”
-” رضا حامد؟!”
-” بتعرفيه؟!” سألها مندهشاً، أما هي فقد بدأت تحل لغز صديقتيها والجوال. رضا صديق زوجها وعمل سائقاً لديهم قبل هذا السائق الداهية لسنوات، ولا بد انه تعرَّف على صديقتيها مع الوقت؛ لم يعد الأمر يهمها.
كان السائق قد أوقف سيارته قبل دوار معبر قلنديا واستعد لأخذ رقمها، سجله على جواله، ونظر اليها لتخبره باسمها.
-” نووون، اكتب نوووون!”
حملق بها متعجباً، معجباً بتمنعها حتى عن كشف اسمها، راغباً فيها راغباً عنها، كارهاً لأنفتها كارهاً لنفسه وعجزه عن كسب ثقتها.
-” اذا انت عزابية، الليلة بطلب ايدك من اهلك…”
-” واذا متجوزة؟”
تنهد تنهيدة كبيرة لم يفلح في سترها، وقد فاجأها عجزه وقلة حيلته معها. ونظرت اليه وهو يشيح بوجهه عنها قائلاً، “بتكوني بس زبونة ورزقة، لا أكتر ولا اقل… واذا انا ما بشتغل ببعتلك سيارة صاحبي!”
-” شهم وتبع رزقة!”
-” ما تضحكي علي، بترجاك.. انا مش نسونجي ومش تبع تلات ورقات.. انا ما بحكي حلو وما بصف كلام مزوق… ولا متعلم… انا ابن شوارع وما الي بالدشارة والهمالة… الشارع قاسي يابا.. المرة الها جوزها والشارع الو قوانينه.. والطريق مليان خيانات وغبرة وضجة.. الشوفرية يا بنت الناس شارع، والشارع خيانة وما له أمان، والرصيف ما حدا بمشي عليه، شوفي، شوفي، بتشوفي الناس ماشية على الرصيف؟! الرصيف غربة، بابا، والمشاة اللي على الرصيف يا اما أجانب غُربا او غريبين..”
-” انا مش فاهمة عليك!؟”
-” وقتيش حدا فهم عليّ أصلاً؟.. انا هيك يابا.. بعرفش احكي الا اللي ع لساني.. يللا، معلش، قصدي.. صار الواحد اللي بمشي ع الرصيف اليوم يا بقولو عنه يا مجنون يا غريب، كل الناس بتمشي في نص الشارع، وبقول الواحد فيكم: شوفوا هداك ماشي ع الرصيف، إنسان غريب مجنون خايف… “
– ” وانتَ ملاك بتحنّ ع النسوان!؟..”
-” مرة متجوزة بترمي حالها ع زلمة غير زوجها ما الها أمان.. وجع راس.. بتخرب بيوت.. نسوان من هالنوع ما الهم قيمة، بلا مؤاخذة.. معروف بابا مين بمشي ع الرصيف ومين ع الشارع.. دنب الكلب اعوج..”
-” بس انت شوفير ابن حلال..”
-” الحمد لله أنا نضيف.. مش محظوظ بس والله تبع رزقة…”
أعجبها كلامه عن الشارع والطريق والشوفرية والنسوان؛ ووجدت نفسها تكرر مقولته:
انا الطريق! انا خيانات الطريق وغربة الأرصفة وحيرة محطات الباصات!
انا الطريق! انا خيانات الطريق وغربة الأرصفة وحيرة محطات الباصات!
انا الطريق! انا خيانات الطريق وغربة الأرصفة وحيرة محطات الباصات!
أرادت أن تريحه وتخبره بأنها متزوجة، لكنها لاحظت انه قد فرغ من تسجيل رقمها على جوال صديقه السائق الآخر بل شاهدته يضغط على الزر الأخضر، لغطت بألفاظ أرادت ان تقول له بها لا تتصل بي من جوال صديقك، لكنه لم يفهم عليها. فجأة تبادل كلاهما نظرة اندهاش. كان جوالها يرن وهو يحاول أن يفهم ما قرأه على شاشة جوال صديقه: نووون-زوجة المعلم؛ ومع ان الكلمات الثلاث كانت واضحة ومقروءة، لكنه في العشر ثوان الأولى لم يفهم معانيها بل كان يفكر بالسحر او الخلل الذي جعل اسمها يظهر على جوال صديقه، حتى أدرك من تكون؛ أما هي فقد صدر على شاشة جوالها رقم جوال كانت تألفه وأخذت تتذكر وتتذكر حتى أدركت انه رقم زوجها القديم، بل عندئذ فقط استطاعت ان تقرأ: علاء١.
صمتا. لم ترغب ان تغادر التاكسي. لقد شلتها الدهشة وهزتها اسئلة كثيرة. أما السائق فلم يشأ أن يكون فظاً وتساءل في نفسه عما إذا عرفت انه أدرك من تكون.
بادرته بسؤال، “هل صدقت الآن اني متجوزة؟”
-” حتى ما بتنفعي تكوني زبونتي!”
-” العزا، ليش!”
-” مزبوط ما الكم عليّ، بس بضلي زوجة معلمي: بتأمريني أمر….”
-” هاي تمانين شيكل ونزلني عند الواي YMCA؟ رجعني ع القدس..”
-” مش ممكن آخذ! قسماً…”
فتحت باب السيارة وخرجت تزرع خطواتها العريضة على الشارع المزدحم بالسيارات قبيل دوار معبر قلنديا، تنهدت ونشقت في رئتيها موجات ساخنة من الهواء المحمل بالرمل، وكانت مصممة على اجتياز المعبر رغم انها ليس لديها الوثائق التي لن يسمح لها الجنود بدخول القدس دونها، ولم تعرف اين تذهب بعد المعبر ولا عند من. ثم خطر لها ان تصعد إلى باص قلنديا القدس، وبه تعود الى البيت، لكن اي حاجز طيار للجيش الاسرائيلي تقيمه وحدات المشمار غڤول العسكرية بإمكانه وقف الباص وتفتيش ركابه ووثائقهم الثبوتية، فكيف هي وهي ليس لديها إقامة ولا حتى تصريح يسمح لها بدخول القدس لتعيش مع زوجها؟! خلال أمتار قليلة كانت في عالم آخر، ضعيفة، غريبة وبلا هدف، وحمدت الله وهي تسمع أجير زوجها الضرير، الذي تعتقد ان جميع الناس يضحكون عليه وتسلبه قوتهم، وقد تناهى إليها زعيقه بل رأته خلفها تماما، “طب اسمعي، اسمعي..” وقد لحق بها راكضاً بين السيارات، تاركاً سيارته مفتوحة الأبواب ومحرِّكها شغالاً مرة ثانية في زحمة السيارات امام كاميرات المعبر وأبراج الجنود والقناصة الإسرائيليين اليهود، “خلص، والله لآخذ مصاري، ارجعي، ارجعي بلاش يخالفوني كمان ٥٠٠ شيكل..!”
على بعد نحو عشرين سيارة تقف في طابور السيارات التي تتسابق وتتزاحم ويتشاجر سائقوها ويتبادلون المسبات ويعلمون احدهم الآخر قوانين التجاوز والمسموح والممنوع، قبل المعبر، وجدت نفسها تبتسم، تستدير وتعود الى السيارة. ومشى أمامها، مطأطئ الرأس، لاهثاً حنقه وقلة حيلته! وأدركت ان ثمة بذرة خير في ذلك الشوفير الفج الصريح؛ ها هي تتأكد من ضميره الحي، ولكنها تصمت ولا تظهر له شيئاً، بل لأول مرة أحست بالخوف من أن يناله ضرر بسببها؛ فالحقيقة انه سيكون في وضع لا يحسده عليه أحد إذا ضبطها جندي اسرائيلي مشمارغڤول في تاكسيه وهي ضفة ودون تصريح: سيصادرون سيارته لمدة شهر وسيدفع غرامة قد تصل عشرين الف شيكل. كان مطأطئ الرأس مشغول البال، يكبرها بعشر سنوات او خمسة عشر عاماً.
اللعنة، فكر، احلم بامرأة مثلها بل بها، ها هي متزوجة من آخر، أخص علي وعلى أفكاري، الشيطان يوسوس في أذني. وكان طائراً باجنحة السعادة وهو يسمعها وراءه تتهادى خطواتها عائدة الى تاكسيه، لكنه كشر ليبدو مهنياً ويعود لقناع جلافته. لم يهمه اين تجلس؛ زوجة معلمه في سيارته، هذا هو المهم. أما هي فقد حيرتها شخصيته النادرة، فهي لا تستطيع ان تذكر أمراً سيئا واحداً بشأنه: حتى طلاقه اعترف بأن الحق عليه وعلى عصبيته وطيشه، فهل تذكر رجلاً مثله اعترف بأنه أخطأ ذات يوم بما آلت إليه حياته!؟ حتى أبوها ترك أمها وأخوتها والقدس وهاجر الى امريكا وهو ما يزال يقول: “الحق على امكم، خلَّتني اهجَّ من البلد ومن حالي!” ولا تذكر انه أرسل لها بطاقة معايدة يعتذر فيها عن هجره لهم أو تعزية بأمهم؛ أما حسين، أخوها، فاعتاد في صغرها استغلالها جسدياً، وكبرت وهي تخافه وتكرهه، ولم يعترف بأي ذنب حتى بعد أن استقام واستشيخ وزجَّ به في السجن بتهمة أمنية.
-” أعطيني رقم تلفون رضا… صاحبك؟!”
-” انه صاحب زوجك أيضاً… وأجيره.. اكتر من عشر سنوات..”
كيف تسأله عما إذا كان زوجها ورضا على صلة وصداقة.
-” بتسهر معهم؟!”
-” ما الي باللوتو ولا التوتو؟! قه قه قه… ولا شمات الهوا..”
-” ما الك بالنسوان؟!”
ضحك ببراءة لكنه قمع ضحكته، “انا مش تبع نسوان! النسوان بلاء.. النسوان وجع راس.”
ضحكت.
-” بقدر أحكي لك ايشي توعديني ما تجيبي سيرته لحدا؟” سألها، فهزت رأسها موافقةً، “والله، المرة اللي بتقلق على رزقة جوزها وقوت عيالها هي مرة بنت زلمة واخت رجال… الله يحيِّيك لأنك صاينة بيتك وساترة حالك مع جوزك… يا ريت لو عندي مرة زيك.. كنت بكون اسعد زلمة ع الأرض…”
خجلت من كلامه ونظرت ليديها في حضنها.
-” بس بترجاك، موضوع طلب إيدك ما تذكريها لزوجك.. والله ما اني خايف ع رزقتي.. وما بخاف ع رقبتي إلا من اللي ركبها.. بس موضوع طلبة إيد واحدة متجوزة منقصة بحقي كرجال.. بكرة بعلكوني زي النكتة في تم اللي بسوى واللي ما بسواش…”
-” ما تقلق.. ما تقلق.. أنتَ بتعرف انو السيارة هاي والرقم اصلاً ملكي، وكل دخل السيارة هاي لألي أنا!”
سيارة الأجرة هذه، المفترضة أن تكون مسجلةً في الضريبة باسمها، ولكنها طبعاً تمتلكه بالأسم وليس على الورق، لأن نوووون لا تحمل هوية زرقاء مثل أختها سامية وأخيها سامي المسجون منذ أكثر من ست سنوات، وأمها بل تحمل هوية ضفة مثل أبيها. حتى محاولات علاء للم شملها وطلب استصدار هوية مقدسية لها باءت كلها بالخيبة والرفض. بعمرها لم تأخذ حتى إقامة مؤقتة، ومعها تصريح منتهي الصلاحية مفتوح لثماني ساعات فقط لا غير صادر قبل سنتين لتراجع مستشفى العيون؛ لو اجتازت معبر قلنديا فلن يسمحوا لها بالعودة الى بيتها وزوجها في القدس إلا بتصريح جديد؛ وعلاء يستغل ذلك دائماً لمصلحته، طبعاً.
-” خليني ما آخذ أجرة منك، والله كتير هيك..”
-” ما تقلق.. حقك..”
كانت رحلة العودة من معبر قلنديا إلى القدس قد بدأت، تفقدت حقيبة يدها وأصابها هلع فجائي فقد اكتشفت ان معها أربعة وثمانين شيكلاً لا غير، الأمر الذي يعني انه ليس لديها ثمن تذكرة باص من باب العمود الى بيتها في العيسوية أو ان عليها ان تطلب منه ان ينزلها قرب الجامعة العبرية لكي تعود الى بيتها مشياً في العيسوية. وقد عجبت ولم تتخيل بعمرها ان تدفع مئة شيكل لقاء مواصلة كان يمكن ان تدفع لقاءها حوالي اثني عشر شيكلاً لو ركبت الباص.
وعجبت كيف يكون رضا حامد صديق زوجها وقد تشاجرا منذ سنوات ولم يعد يعمل لديهما سائقاً أو أجيراً. تذكرت كم مرة شكته لزوجها علاء بأنه يتحرش بها، ينظر لجسدها، يدنو منها في المناسبات، وكذلك يستفزها بالإيحاء لها انه يرى عائلة سامية أختها وانه على صلة معها.. فرد عليها علاء انها تتوهم كل شيء وتكرهه وتريد حرمانه من أصدقائه. تذكرت الطوشة في بيتها، كيف ترجاها رضا صاغراً لتثني زوجها عن نقل ملكية السيارة، وتذكرت كيف طرده علاء من بيته وعن زوجته نوووون، وتذكرت الصفعة التي طرّزها رضا على وجنة علاء، “يا اللي ما تستحي، ولك نوووون هذه اختي!”
وتذكرت كيف قبل ست سنوات نقل زوجها الضرير علاء ملكية السيارة من صديقه رضا إلى ملكية أختها سامية لأنها تحمل هوية القدس الزرقاء، وفتح لها ملفاً ضريبياً للتهرب كالعادة من الضريبة، كما قال لها علاء؛ وجن جنون صديقه وأجيره رضا وانقطعت بينهما الصلات. وها هي تكتشف انه لم ينقل أبداً ملكية سيارته القديمة لأحد آخر ولا حتى لسامية بل بقيت باسم رضا حامد نفسه. وشعرت بقليل من الذنب إزاء أختها سامية التي اتهمتها بأنها تحاول سرقة زوجها منها وانها تغازله أحياناً ورأتها مراراً تبادر وتتطوع لتساعد زوجها بامساك يده والتشبث بساعده وذات يوم رأت سامية تمسح بقايا الطعام عن شفتيه براحتها. تذكرت كيف ضعفت علاقتها بأختها بعد زفاف نووون بأربع سنوات، وهي تراها تلعب الشطرنج مع زوجها وتتلامس بنان أصابعهما وهي تدله في أول اللعبة على البيادق وقياس مساحات المربعات، وهي تقرأ عليه او تناقشه في مواد الدراسات الثقافية وهي احدى مساقات الجامعة؛ كانت تحسد اختها سامية على شهاداتها وهوية القدس وثقتها بنفسها وحتى بقربها من زوجها. وها هي تكتشف ان زوجها علاء كذب عليها وأوغر صدرها ضد أختها التي كان يدعي انها كانت تسلبهم دخل التاكسي لأنها تستغل واقع أن السيارة مسجلة باسمها، ومرة أخبرها بأن اختها سامية تخون زوجها مع رضا، “أخص، أخص!!”
كم أرادت ان تعتذر من سامية، تسمع صوتها، تزورها في بيتها التي لم تدخله منذ ان تزوجت سامية قبل كثير من السنين، كم رغبت في التعرف على أطفال سامية الأربعة، الذين لا يعرفون خالتهم أبداً، كم أرادت ان تبكي.
-” ممكن أطلب منك ايشي؟”
-” تفضلي..”
-” دوِّر لي عن رقم بلفون سامية في بلفون رضا…”
نقرت رقم سامية وصدرها يضجّ بوجيب رهيب، ولسانها معقود على خيانة ما تعودت على إقناع نفسها به من شكوك وترهات. كيف تقول لها ما تود قوله؟ هل ستميِّز صوت أختها!؟ انها اختها التي تكبرها هي بعامين فقط، وكبرتا معاً. وتعلم نووون ان جوالها-الكرت بقي فيه حوالي عشرين شيكل مكالمات. إذن، ستكفي لتتحدث مع سامية عشرين دقيقة، فهل تكفي عشرون دقيقة؟! رن جوال سامية كثيراً. لا جواب. لا أحد. كم أرادت ان تبكي، كم احتاجت الى شخص قريب تستسره على ضعفها وهشاشتها وعصير عينيها وارتخاء ركبتيها، وخيبة عمرها! وهذا السائق الفج الخام حتى درجة الصدق الأعمى ذكرتها كلماته بحقيقة غريبة عن الشارع والحياة: “انا الطريق! انا خيانات الطريق وغربة الأرصفة وحيرة المحطات وانتظاراتها.” ووجدت نفسها تحقد على انسان واحد في هذه الدنيا، ليس علاء زوجها، بل رضا صديقه، صديقه الذي كان يضايقها ويتحداها ويحرض أهلها عليها ويراودها عن نفسها..
-” رضا ابن حلال.. على سلامته.. هو اللي شغلك عند علاء، زوجي؟!”
-” شغلني وشغل محمود وجورج عند علاء..”
-” علاء طبعاً سجل الرقم والسيارة باسمك؟!” سألته.
-” كيف يعني سجلها باسمي؟!”
-” عشان يتهرب من الضريبة!؟”
-” وليش يتهرّب من الضريبة!؟ جوزك بستفيد كتير من الضريبة.. كتير مصاريف بخصمها من الضريبة!؟”
-” ومسجل باسمه تكسيات رضا، ومحمود… و… واسكندر؟!”
-” قصدك جورج؟!”
-” آيوة، جورج، جورج…”
-” طبعاً، باسمه، جوزك الكل بالكل…”
وجدت نفسها تأخذ جرعات متزايدة من الهواء، وكانت تحاول ان تفهم ما تسمعه. لم تصدق ان زوجها كان يمتلك اربع سيارات، بما فيهم هذه السيارة. تساءلت من يكون محمود وجورج؟! لم تسأله، انما كان السؤال زوبعة في ذهنها. منذ مدة طويلة كانت تعتقد ان زوجها علاء يستغلها وهو يضع ملكية التاكسي والرقم باسم أختها في ملف الضريبة، والآن تكتشف ان لديه ثلاث سيارات أخرى تدرُّ الواحدة منها ستة آلاف شيكل شهرياً كربح صافٍ؛ هي وزوجها يعيشان بألفي شيكل وديون وحرقة أعصاب، وزوجها يحتفظ في نهاية الشهر بثمانية عشر ألف شيكل، فأين يذهب بها!؟ وخطر ببالها أن تحادث صديقتها ياسمين، التي قطعت صلتها بها إثر كلمة عفوية صدرت عنها في معرض حديث بينهما تغزلت فيه بزوجها الضرير، وحاولت نوووون ان تتذكر الكلمة وهي تعضّ بشفتيها سبابتها اليمنى وسرعان ما اطلقت آهة وضحكة خفيفة، ‘يقبرني!’ أمعقول ان تنهي صداقة من أجل كلمة واحدة ‘يقبرني؟’ صدرت بلا وعي من صديقتها!؟
-” ممكن أطلب منك اشوف جوال رضا.. في يوم هدا كان جوال زوجي…”
-” تفضلي، ستي…”
-” ممكن الواحد يتصل منه؟”
-” هو كرت باقي فيه شيكلين..”
-” بتعرف واحدة اسمها ياسمين؟!”
-” طويلة، شعرها مجعد…”
اندهشت انه يعرف ياسمين صديقتها. وأمعنت النظر في قائمة الأسماء في جوال علاء١: قرأت اسماء جيرانها، وجاراتها، اخوتها، اخواتها وأولهن سامية، بنات عمها، صديقاتها. أحست بشيء غريب وهي تقلِّب قائمة الأسماء.
“يخرب بيتك يا علاء، من كبر مصيبتي بطلت أشك بحدا. ما في حدا بالبلد بعرفه الا واسمه موجود، حتى ستي الحجة!”
-” تفضل،” ناولته الجوال، “تنساش بدي رقم رضا..”
نقلها الرقم فسجلته في جوالها. وحين انتهت من حفظه، لاحظت ان السائق قد وصل قرب المصرارة، في شارع رقم واحد، فانزعجت لأنها نسيت أن تطلب منه أن ينزلها قرب الجامعة العبرية في العيسوية.
-” ست نوووون، ست نوووون، هون منيح!؟ منيح هون!؟” سألها عند باب العمود.
-” شكراً، شكراً…”
توقف قبل دوار باب العمود، وضعت ثمانين شيكلاً عند الغيار، وحمدت الله انها لا تعرف اسمه فقد خجلت من النظر في عينيه ووجهه، فكيف لها ان تناديه باسمه؛ سيبدو الأمر شخصياً جداً ولن تتحمل أن يكون الأمر كذلك. كل ما تمكنت ان تقول له كان، “الله يرزقك ويعافيك…”
-” الله يسلمك.”
على بعد امتار، شعرت بغربة قاتلة، وأخذت تنشج، ولم تدرِ ماذا ستفعل ولا اين ستذهب. وتذكرت ان لديها اربعة شواقل لا تكفي لركوب الباص الى الطور. كم أحبت أن ترى أختها سامية، كم اشتاقت لصوتها لكن سامية ما تزال لا ترد على مكالماتها. إذن، ستذهب الى بيتها مشياً، ستحب ذلك، لكنها لن تتصل بزوجها وتطلب منه أن يقلَّها الى البيت في احدى سياراته ولن تشحذ منه مالاً. وانتبهت فجأة ان ثمة صوتاً يناديها من ورائها، “اسمعي، اسمعي،” ثم رأت السائق الجديد وكأنه قفز من غيمة ضباب كانت أمامها وكان هو أمامها ولم ترهما من قبل أبداً، وهو يقسم ويلح،”خذي، خذي، والله ما بأخذهم، يحرموا عليّ مصاريكِ، طالعين من ذمتي، خذي، خذي، الله يرضى عليك!!” ودس شيئاً في حقيبتها وهو قريب منها على نحو لم تستطع أن لا تنتبه للمرة الأولى من نفاذ رائحة عرق السائق يزكم أنفها. وكانت ما تزال لم تفهم بعد ما يجري، فتفقدت الشنطة فإذا به قد أعاد مئة شيكل لها.
-” هدولا مش إلي..” قالت له.
-” تحرم علي رزقتي، إذا أخذتهم، تحرم علي عيشتي…”
-” حقك، حقك…”
-” تحرم علي عيوني، إذا أخذتهم…”
-” بعيد الشر عنك…” قالت له، وتمنت أن تقول له: ‘بلاش عينيك مشان الله، بلاش تصير بلا قلب مثل زوجي،’ ولكنها لم تقل شيئاً، وإنما وجدت نفسها تضحك، فشكرته، ولم تستطع ان تحبس وساوسها وأخذت تفكر بالسبب الذي يجعلها لا تتذكر يوماً واحداً شمت فيه عرق زوجها وهو عائد الى البيت؛ أثمة بيت آخر يذهب إليه ويستحم فيه!؟ أتراه متزوج من امرأة أخرى تحمل هوية قدس!؟ الى متى سيبقى عقلها يعمل وحده هكذا!؟ امرأة شكاكة أنا، قالت في نفسها. أحست بالامتنان والتعب والضعف والرغبة في السيطرة على نفسها، وقفت فجأة ولم تستطع كبح دموعها، سترت دموعها ووجهها براحتيها، ثم انتبهت الى صوت السائق نفسه، “لأ يا بنت الناس، ما تبكي..”
-” خلص، ما تقلق، ما تقلق…”
ووجدت نفسها تدير ظهرها له ووجهه مطأطئ صاغر على الأرض، وتضحك ضحكاً مختلطاً بدموع وآهات، وكانت رغم كل شيء سعيدة، سعيدة، ومثارة وجائعة ومتعبة. لم تصدق انه هو الآخر ضعيف وهش ولكنه يكابر بكبريائه الذكوري.
التفتت لتراه مرة أخيرة؛ بين چروب سياحي يتجه نحو باب العمود، رأته يمشي كأنه عجوز بائس مسكين يبحث عن وجبة ساخنة من التكية، رجل من طراز منقرض من رجال زمان، الرجل اللي ما بتصير كلمته اثنتين، النخوتلي، الذي يفتح ساعديه لأي عابر سبيل ويساعده ويجير من يطنب عليه. وترحمت عليه أسفةً، وترحمت على نفسها أيضاً، فهي وهو في القدس مُحارَبان وغير مرغوب فيهما في هذه القدس وقوانينها الإسرائيلية التي لا ترحم احداً من أهلها، هؤلاء السياح تفتح لهم الأبواب ولكن أمامها وأمام ذلك السائق البائس تُغلَق بوجهيهما. تراه يسألهم: تاكسي؟! تاكسي!؟
حسدتهم. القدس يأتونها الناس أفواجاً وجماعات وجروبات سياحية وجيوشاً ورحلات مدرسية وقوافل حجاج قبارصة، وأقباط، وأثيوبيين، وروس، وماليزيين، واندونيسيين، وقوافل زوار من فلسطينيي الداخل، ومسيرات للمستوطنين اليهود، ومستكشفين لوحدات الجيش الإسرائيلي وبعثات دولية، تستقبلهم قوانين اسرائيل جميعاً. فكيف ليس لها الحق في التنقل او العمل وهي ابنة القدس وولدت فيها وتعلمت في مدارسها؟ ولكن خطيئتها ان أمها حين خلفتها كان عمرها خمسة عشر عاماً ولم يكن لديها بطاقة هوية بعد، فالحقوها في هوية أبيها الحمراء، هوية ضفة، وكان هو الآخر قد أخذ هوية ضفة لأنه تم احصاؤه في الضفة بعد عام ٦٧، رغم انه مقدسي ومولود في القدس أيضاً. أحست برغبة في ان تتجه للحرم الشريف لتصلي في قبة الصخرة؛ تمشي في ساحاته وتتنفس هواءً نظيفاً، ورن جوالها. ردت.
-” نوووون؟.. ما سمعتِ كلامي…” سألها زوجها.
-” شو في علاء؟!” سألته، كانت ثمة نبرة جديدة لم يألفها في صوتها. نبرة يائسة منخفضة هادئة متعقلة لا تناسب هذا المرأة التي تزوجها وهي ابنة سبعة عشر عاماً قبل عقد ونيف؛ لكنه كان آملاً أن تفقد أعصابها ويخرج لسانها السليط يقود طوشة الحوار.
-” شو في!؟ سلامتك، ولا ايشي..” تساءل ساخراً.
-” شو بدك تحكي لي…”
-” نووون، لازم نكمل حياتنا بطريقة تانية، احنا الاثنين بنتعذب..”
-” خلص طبيخ امبارحة، واليوم ما طبخت.. اجيب لك معي ساندويشات فلافل؟”
-” لأ، أنا طالع..”
-” اطلع.”
-” واعد صاحب احضر حفلة ع شرفه!!”
-” رضا حامد؟!”
-” من زمان ما بتطيقيه؟! ما قدرتِ تفرقينا…”
-” الله يوفقكم..”
-” …”
-” كزبت علي كتير، علاء…”
لم تقوَ ركبتاها على حملها، فوجدت نفسها تجلس بجانب الدوار قبيل التلفونات العمومية في باب العمود. بقي علاء صامتاً.
-” حرمتني كتير، عيشتني بفقر، عيشتني خرا، حرمتني اهلي وصاحباتي… عندك أربع تكاسي وبتلعب بالمصاري..” قالت وكم تمنّت أن تسأله: ‘انت متجوز؟’ ولم تفعل.
-” علاء، انا مش مجنونة!”
-” وانا مش مضحكة للعالم.. خلِّيتِ حتة أجير يتمسخر عليّ هلأ..”
-” عشان ما أخليه يسرقنا!! وبدي اشتغل عشان يصير مصاري زيادة معنا…”
-” أنت متسلطة.. عنيدة.. بتكرهي كل الناس..”
-” انا حبيتك طول الوقت، ليش… ليش خدعتني!؟… صحيح عندك اربع تكاسي!؟.. مصاري كتير.. وينها؟… أنا خايفة المصاري تعميك.. هه هه هه…”
-” أرجوكِ، تجرحيش مشاعري…”
وجدت نفسها تضحك من سخريتها اللاذعة وجوابه الحزايني..
قالت له، “صحتين، طول عمرك ذكي، بتستاهل!”
أما علاء فبقي صامتاً وتمنّى أن يخونها فقدان السيطرة. لكنها بقيت هادئة تنتظره ليتكلم.
-” لازم نكمل حياتنا بطريقة تانية، نووون!”
-” بنحكي.. بس بستنا منك كلمة ‘آسف،’ بالأول..”
-” كلمة ‘آسف،’ موجودة بس في قصصك الخيالية وأفلام الفضائيات.. مش غلطان معك لاعتذر.. بنحكي بعدين..”
-” بنحكي!” وأنهيا المكالمة.
شعرت بسعادة غامرة انها قالت له ما تشعر. لن ينتظرها في البيت، ولم ترغب في العودة اليه. من المصرارة، اشترت ساندويش فلافل وعلبة عصير عنب من مطعم العايد، وطلبت خمس حبَّات فلافل ساخنة أشتهته مع رشة ملح وكمون، تنقرشت عليها قبل وجبة السندويش العُمَّالية. كانت المرة الأولى التي تنهي فيها ساندويش فلافل كاملاً وهي تجلس على طرف مقعد خشبي أول شارع المصرارة وأمامها باب العمود.
هل تذهب الى البيت!؟ تنتظره هناك، امام التلفزيون!؟ تشاهد أفلاماً مُعادة؟ تنزل على الحرم، تصلي؟ تستخير؟ تستسر الملائكة والأولياء؟ رن جوالها. رن طويلاً حتى صمت. سيقول لها انه سيأتي متأخراً واحسن لها ان تنام. أخرجت دفترها وكتبت وخربشت وكتبت. رن الجوال مرة أخرى.
-” ألو… ألو مين معي؟!” أتاها صوت أنثوي.
-” سامية؟” تساءلت نووووون.
-” ايوة، سامية، مين حضرتك؟”
خناق، احتقان مشاعر اصابها، كوتها دموع في عينيها احتبست؛ وغرق صوتها في بحر الصمت، ثم بعد لأي ومجاهدة مع عضلات معدتها تمكن صوتها أخيراً من الوصول لسطح حنجرتها في قارب كلمة وحيدة، “سامحيني…”
-” عفواً؟”
-” سام… سامحيني، حبيبتي، … أنا ندى…”
-” ….”
-” أنا ندى، سامية…. أنا نووون.. سامية؟…”
-” ….”
-” انا مش هيك سامية، انا مش هيك، حبيبتي، سامحيني، سامحيني!! انا ولا ايشي.. بس مش هيك بستاهل…”
-” ألو؟ ألو، مين؟” أتاها صوت ذكوري مُحقّقاً.
-” أنا ندى….”
-” ندى مين…”
-” ندى، نووون….”
-” ندى أختها! أهلاً نووون…” أدركت انه زوج أختها، المحامي، الذي رأته مرة واحدة في ليلة الزفاف في قاعة الأعراس حين قالت لهما مبروك وغادرت القاعة. “ندى، سامية مش قادرة تحكي من الصدمة، أنا بقول أعطيها وقت.. رقمك معها.. إن شاء الله خير.. وما تنسي عمر الدم ما بصير مي…” وسكت وسمح لها ان تنهي بكاءها ونحيبها وتمخيطها لأنفها..
قالت له، “ما تقلق.. إن شاء خير… ما تقلق…”
وجدت نفسها تربِّت على دفترها بحنوٍ كأنها تخيلت انها مع سامية؛ ظنت أن كل الناس في المصرارة يتابعونها بعيونهم الفضولية، وأخذت تتفحصهم وتنثر نظراتها هنا وهناك، لكن احداً لم يعرها اهتماماً لا لها ولا لجمالها ولا لدفترها ولا لقصصها، فكل شخص في همه وشأنه، عمال وأجانب وتجار وعتّالة وطلاب وشرطة ويهود سكناج.
شربت قليلاً من العصير وهي سعيدة من نفسها لأنها حاولت ان تحادث سامية، وقررت انها لن تغضب منها لو رفضت سامية الا تراها بحياتهـا؛ انها تحبها وقد أخطأت بحق أختها كثيراً. فكرت بأنها تستحق العقاب، وتشردقت وسعلت وعادت وشربت مزيداً من العصير لتذهب هذا العطش الذي لا يُروَى؛ وهزت رأسها شاكرة، باكية، ماخطة أنفها بمحارم ورقية رطبة، وقامت لتغادر، عائدة الى البيت، متجهة الى محطة الباصات وهي تمشي ببطءٍ بين بسطات الباعة وبضاعاتهم البراقة الصينية الصنع، تحف وزينة للبيوت وأدوات للطبخ وألعاب للأطفال وزجاج كثير معظمة كؤوس وفناجين، وكثيراً ما ودت ان تشتري بعضاً منها ولكن هي تعلم ان لا احد يزورها منذ زمن طويل، وكثيراً ما تعوَّدت في الماضي انه ليس من المنطق ان تبذِّر مالاً ليس من السهل أن يجنيه زوجها. لكنه كذب عليها، وخدعها كثيراً.
رن جوالها، رن كثيراً. لم ترغب في سماع زوجها. هو الوحيد الذي يتصل بها. رن الجوال ثانية. استغرقها إخراج الجوال من حقيبتها الملأى معظم وقت الرنة، ولم تضع وقتاً لترى رقم الجوال، وفتحت الجوال، وقالت، “ألو؟”
-” نوووون؟”
-” مين معي!؟”
-” أنا جوز سامية، نووون!؟”
-” اذا بدهاش احكي معها بالمرة…”
-” نووووون.. أنا جاي أخدك عنا ع البيت. انتِ وين!؟” سألها زوج أختها.
-” أنا؟…. أنا!…”
-” أنتِ وين!؟”
-” في المصرارة…”
-” ربع ساعة بكون عندك، جاي بسيارة سامية: أونو خضرا، استني عندك…”
عادت عشرين متراً للوراء لتنتظر في أول شارع المصرارة، امرأةً مختلفةً غير تلك المرأة التي كانت تمشي بتؤدة ومهل، عادت بلا عيون، وفي قدميها إيقاع فوضوي يشتت قدرتها على النظر والتحقُّق من الناس والأمكنة والمسافات، وتهيّأ لها انها ستقع مغشياً عليها. أهذا ما يدعونه الصدمة!؟ أمعقول انها سترى سامية؟ ستدخل بيتها!؟ كأنها تشاهد فيلماً أجنبياً، مثل تلك الأفلام التي أدمنت عليها طوال تلك السنوات، وتخيلت ان زوجها علاء يحيك مؤامرة مع زوج اختها ومع رضا صديق زوجها وحتى مع أبيها في أمريكا لخطفها. لماذا سيخطفونها!؟ ضحكت من نفسها ومن ذلك الشيطان الذي يعمل موظفاً في عقلها… متى ستقلعه من عقلها وتخلعه من شروشه؟ ثم كتمت ضحكتها: اللعنة! ماذا سيرى الناس!؟ امرأة شابة في مطلع الثلاثينات من عمرها تجلس وحدها على مقعد في المصرارة مع شخص آخر: مرة عتال ومرة أخرى أجنبية شقراء تقرأ خارطة، وتضحك بلا سبب. والناس لا ترحم، وهي تعرف المثل الذي يقول: الضحك بغير سبب قلة أدب… لكن أحداً لم يكن متفرغاً لينتبه اليها او الى ضحكها، وهكذا بقيت تنتظر حتى وقف أمامها رجل في منتصف الاربعينات، طويل، أنحنى وسألها، “نوووون؟ أنا طارق، جوز سامية.. فيك شبه كبير من سامية.. يللا، السيارة لفوق شوي، ما لقينا صفّة للسيارة هون وما شفناك وأحنا في السيارة…”
لم تخرج منها الا كلمة “سلام” تقطر مشاعر الذنب والضعة والخجل من الذات والاحساس بالتقصير بواجباتها تجاه اختها الأصغر منها. أحقاً تمشي مع زوچ أختها وذاهبة لترى سامية؟! سامية التي طالما كانت سليطة اللسان معها، وطردتها من البيت مراراً وهي تشتمها بأقذع المسبات والاتهمامات!؟ سامية التي أصرَّت ألا تحادثها حتى في عزاء والدتهما ولم تعزِّها!؟
فجأة وقف زوج أختها وسألها، “كل شي تمام؟”
-” تمام.. تمام..”
-” شو أول ايشي بدك تحكيه لسامية؟”
فلوت شفتيها لا تدري واتسعت عيناها حيرةً.
-” خذي نفس عميق.. بتستناك سامية في السيارة..”
ضحكت وأخذت نفساً عميقاً ولكنها لم تسمع إلا جملته الأولى، وتتبّعت إشارةً من يد زوج أختها نحو سيارة خضراء صغيرة الحجم، كانت سامية آتية معه في السيارة، لكنها لم تستطع الوقوف على قدميها حين وصلا الى المصرارة؛ وحينما اقترب طارق ونووووون من السيارة، وجدت نفسها تقف وهي تفتح ذراعيها ووجها منقوع بماء الفرح وصوتها مخنوق وعلى وجهها ابتسامة عريضة. اما نوووون فقد رأت السيارة الخضراء ولم تلاحظ ان ثمة امرأة كانت تجلس قرب كرسي السائق وقفت أمامها وفتحت ذراعيها لها، سرعان ما شعرت انها عانقتها وأخذت تقبّل رأسها وجبينها وشعرها، وتهمهمان وتنشجان… تعتذران حيناً، “معلش”، “آسفة،” تتعانقان احياناً..
-” اطلعوا، اركبوا ورا…” قال لهما طارق وقد فتح باب السيارة الخلفي، ثم شغّل السيارة أخيراً.
-” سامحيني، سامية…”
-” ندى حبيبتي، مش مصدقة… مش معقول، أنا… بحلم…”
-” أنا بقول نكمل كلام في البيت..” قال طارق.
-” لأ، لأ..” تمتمت، “وصلوني ع البيت وتعالوا عندي! العيسوية قريبة…”
تنهدت سامية، لم تعرف ماذا تقول. “أنتِ هلأ. ساكنة في العيسوية!؟ تركتوا الطور!؟”
-” من تلات سنوات.. بيت الطور كان غالي أجرته ٦٠٠ دولار، هلأ بيتنا صغير غرفة وصالة ب 350 دولار… بس سامية أنا وسخة كتير لأدخل عندكم، حسودة وشكاكة؟!…”
-” نووون، ممكن شكاكة.. بس انتِ مش حسودة… هو مقنعك انك حسودة؟! ولك هو السوسة!!”
-” سامية، أنا.. أنا مريضة… أنا تعبانة،” قالت نوووون، وقدَّرت أنها أصلاً ليست في وضع لترى علاء وحدها فكيف لو شاءت الصدف والتقته واختها، التي كان يوغر صدرها ضدها، كانت معها. “خلص، بنروح عندكم، خليني أشوف الصغار…”
-” اطلعي، نووون، وصلناهم عند جدتهم من الظهر، يضلوا هناك، أحسن عشان نقعد معاكي وناخد راحتنا بالكلام، بلاش يوجعوا لنا راسنا… بروح أنا وبجيبهم كمان ساعتين..”
كان بيت سامية وطارق قريباً، على بعد كيلومترين. امسكت سامية يدي أختها الكبرى وربتت عليها لتطمئنها. عادت لتقول لها انها ليست مريضة بل مضغوطة اجتماعياً ونفسياً وتحتاج الى قليل من الراحة؛ فردت عليها نوووون، “سامية، أنا بعرف انو انا مريضة. انا متأكدة.. هه هه هه..”
-” سيبك من هالكلام..”
-” سامية انا بحلم.. بحلم بنومي دايما اني بعمي رجال وبقلع عيونهم وبتلزز بدمهم، شكلي مريضة، سامية..”
-” هدولا اكيد رجال بستاهلوا.. معلش، عيني، اللي شفتيه بحياتك مش قليل..”
-” انا فضحتك قدام الناس والقرايب…”
-” يا نياله اللي عند ربه مظلوم ومش ظالم.. انت شفتيني بخون طارق؟ انا متأكدة انو هالكلام منه. ما في حدا إلا وبعدك عنه…”
ووجدت نوووون تستسر سامية على رغبتها في التوجه للحرم الشريف والصلاة قائلة لها انها شعرت بالخجل من ربها لأنها متسخة من ذنوبها وخافت انها لن تجد ماء كافياً ليطهرها. فقالت سامية، “أحسن لك ما رحتِ!؟”
فنظرت نوووون الى سامية نظرة عتاب، “ليش احسنلي؟ أنتِ لسة قليلة دين!”
-” أنا لسة قليلة دين… بس انا فكرت هوية ضفة، منيح اللي ما دخلتِ الحرم وكمشوك الجيش هناك..”
-” ما تزكريني بالتصريح… التصريح معي منتهي من سنتين…”
-” مش راح اقول لك: ‘الحق على علاء!’ السؤال هو: ليش هو مش معني يطلع لك تصريح؟”
وجد طارق زوج سامية نفسه يضحك كلما ضحكتا ويبكي كلما بكتا. كان البيت خلف الجسر في شعفاط، صفّ السيارة في موقف للعمارة، وأحكم اغلاق السيارة وتبع زوجته ونووون.
-” والله أهلا وسهلا، شرفتينا ندى، حبيبتي، الحمد لله ع السلامة…”
-” نفسي ما اقوم من هالحلم…” قالت نوووون.
-” نفسي أنام وأفيق وألاقيكِ قدامي…” قالت سامية، وضحكتا.
-” انا نفسي مش مصدقة، سامية، اني بحكي معك وفي بيتك… مستحية منكم، والله..” قالت نووون.
-” ندى هدا بيتك…” قال طارق.
ودنت سامية من نووون، وقفت أمامها ومعها صينية عليها اكواب وكرتونة عصير، ألقت نظرة عميقة نحو نووون وقالت، “أصلاً ما الك رجعة عنده، أنا مش عارفة كيف لسة عايشة معه؟”
-” سامية، شو بتحكي!؟ بلاش….” ترجتها نوووون معترضة.
-” سامية، بلاش كلام هلأ، روقي!…” قال طارق.
وأصرَّت سامية، “ندى، فهميني بس ليش بدك ترجعي له!؟”
-” شو ليش، هدا جوزي!”
كان جواباً مفحماً ولم تستطع سامية أن ترد.
طارق هز راسه، وقال، “سامية، إذا ندى موافقة وقابلة حياتها زي ما هيّه، مش من حقك ولا حق حدا انو يتدخل، معلش تزعليش مني…”
-” انت موافقة على هيك عيشة!؟”
-” موافقة ع ايش!؟”
-” موافقة انك تكوني عنده جارية، تكوني عبدة؟! ولك انت في عبودية..” سألتها سامية بحدة.
-” أنا مش عبدة حدا.. انا مرته، سامية..”
قال طارق، “ما دامها موافقة، سامية، انتهى الموضوع..”
-” وبتشوفيها؟ بتزورك!؟ هي مرته ع الورق وفي الهوية، وانت مرته كيف كيف كيف؟ نفسي افهم!” قالت سامية.
وجدت نوووون نفسها غاضبة لأول مرة، ولم تهمِ من عينيها دمعة واحدة، وأسلمت رأسها لصدر سامية ويديها، وكانت تحاول أن تفهم ما قالته سامية.
-” شو بتحكوا انتو!؟ بدو يتجوز؟ ولا تجوز!؟” تساءلت نوووون وفي قلبها حدس بأنه متزوج منذ زمن، ولكن هي ليست الأولى او الأخيرة التي يتزوج عليها زوجها، فكّرت، أصابها خوف غامض.
-” ليش! انتِ بتعرفيش!؟” سألها طارق، فرفعت نووون رأسها، هزته دلالة نفي وهي تلوي شفتيها. “حكى لي بنفسه انك موافقة على زواجه!”
-” بجد؟! أنا مش قادرة أعطيه خلفة.. معاه حق.. حتى هو ما حكالي..” قالت نوووون ودفنت رأسها بين يديها، فحضنتها سامية وهي تهدهدها.
-” ندى، علاء سيء، انا متفهم انه زوجك، بس صعب علينا نشوفه بعاملك هيك وما نعمل ايشي…” قال طارق. “لو انا مكانك، بشكيه للشرطة، وبرفع قضية تعدد زوجات، الله لا يرده، يحبسوه!!”
-” لأ، طبعاً.. هدا بضل جوزي..”
-” لأ يا طارق، مش حل اننا ندخل شرطة اليهود في هيك موضوع.. وإلا يقولوا عنا الناس إنّا عملاء..؟؟” تساءلت سامية.
-” هدا موضوع مدني، معاشي، لوقتيش بدنا نضل نطبطب ونطبطب ونقول: بلاش شرطة، بلاش نشكي حدا للشرطة، للبلدية، للشؤون، لا شرطة اسرائيلية الها دور، ولا السلطة الفلسطينية الها دور… لوقتيش؟!”
-” ساعتها بلقطوها اليهود وبزتوها ورا الجدار في الضفة، ومش بعيد يحاكموها لأنها في القدس من غير تصريح… انا مش فاهمة ليش كل هالسنوات ما عمل لك إقامة وسحب لك هوية؟!”
-” لأنه ببساطة عمره ما قدم طلب إقامة لندى.. هاي الحقيقة! انا سمعت هالكلام منه..” قال طارق وعاد وسألها، “حكيتِ لعلاء انك جاية عنا؟”
-” لأ..”
-” انتو متزاعلين ايشي!؟”
-” كنت حاسة اليوم انه قرر يعاقبني…”
سألها طارق، “ليش يعاقبك؟”
-” عصيت أوامره، اكتشفت اليوم بالصدفة انه دخله شهرياً عشرين ألف شيكل… كنا عايشين على الفين وخمسمية شيكل غير مخصصاته من التأمين…”
-” كيف بدو يقدر يشتري شقة العمر للمدام؟!” قالت سامية.
-” …..”
-” حكيتي معه؟ شو قلتِ له!” سألتها سامية.
-” قلت له خايفة المصاري تعميك!!…”
-” هه هه هه..” انفجروا ضاحكين، سامية سترت فمها لتخفض صوتها العالي اما طارق فأخذ يضرب فخذه على نحو آلي وهو يقهقه طرباً وسلطنة.
وحينما هدؤوا قليلاً، سألها طارق، “ماذا قال لك علاء؟!”
ابتسمت نوووون، وقالت، “أرجوكِ، تجرحيش مشاعري…”
فأصابتهم نوبة ضحك وبكاء أخرى. واستأذن طارق ليذهب ويحضر أطفاله من بيت أهله في بيت حنينا.
-” ارتاحي، نامي شوي اذا بدك، نوووون، بدي أروح أطبخ!”
-” قايمة معك، مش راح اقدر ابعد عنك!”
مع ان الدنيا دارت في نوووون، إلا انها كانت سعيدة لقربها من سامية، صديقة الطفولة والمراهقة وأختها التي ليس لها مثيل حتى أمها. حمدت الله انها قريبة من احد تعرفه هذا اليوم. وجدت نفسها تبتسم وهي تتذكر السائق وافتقدت صدقه اللانهائي في رغبته في التعبير عن أفكاره. أتراه ذهب ليبحث عن أغنية ‘قديش كان في ناس؟’ رأت نفسها تتذكر جملة سمعتها على لسانه: انا الطريق! انا خيانات الطريق وغربة الأرصفة وحيرة محطات الباصات. لم تصدق انها تجالس سامية.
لم تصدق ما يحدث معها. استسرت سامية وكرَّت لها كل ما حدث معها اليوم.
قالت لها سامية، “شو؟”
-“تخيلي؟ والله استحيت اليوم من السواق وانا بشم ريحة عرقه، شفته زلمة واشتهيت اشوف جوزي عرقان زيه… هه هه هه…”
-” قصدك اشتهيتِ السواق يا مقرومة!”
-” شششششش.. اسكتي واستري عليّ.. بلاش يسمعنا حدا… يقطعني.. لسة كمان كتبت عنه…”
-” شو كتبتِ عنه؟”
-” تخيلي؟ كتبت عنه ثلاث قصص من خمسة…”
-” انت بتكتبي قصص، ندى؟!”
-” بس ما بكتب الحقيقة دايماً.. بخاف، بخفيها، بسترها، بحلِّيها.. بتتزكري واحنا صغار دفاتر اوتغرافاتنا ومزكراتنا؟!”
-” بزكر منيح.. لما تخلصي دفتر مزكراتك، تعملي حفلة حرق ع طول!! يا الله زمان عنك…”
تحدثتا عن سامي أخيها وعن أطفالها وحتى عن طارق وكيف شكّت فيه حينما أتى ليرافقها الى السيارة.
-” توسوست وشكِّيت…”
-” أنتِ اذا ما شكيتِ بحدا، بتشكِ بنفسك، ندى.. طول عمرك يا زبيبة!”
-” هسسس.. تفضحيناش.. شو هالكلام!؟”
ضحكتا وانشغلتا في إعداد الطعام. لم يعد يهمها أن تعرف شيئاً، لم ترغب حتى بسماع اسم علاء. حتى لم ترغب ان تسمع سامية تقول لها من تكون زوجته. وتطوعت سامية وقالت لها ان زوجته هي ياسمين أعز صديقاتها. لو أخبرها علاء، من المرجح انها لن توافق على زواجه، ولكنها لن تعترض على أهمية الخلفة له. ولكن هل سيجد من تحبه وتدلله أكثر منها!؟ شكّت بذلك. أحست بشيء في داخلها قد انكسر لا يمكن اصلاحه، وأحست بالتعب الشديد وووجدت نفسها تقول لسامية، “سامية، بدي أنام حبيبتي.. تعبانة وراسي بوجعني.”
نامت خمس ساعات متواصلة. استيقظت لتجد نفسها في غرفة أختها وشعرت بالحرج وسرعان ما بددته سامية، التي رأتها تقوم من السرير، وقالت لها، “الأكل جاهز، يللا.”
لكن الليل والاستيقاظ من النوم في بيت أختها جعلها تشعر بنوعٍ من الضياع.
-” لازم أروِّح؟!”
للحظات وقف طارق وسامية أمامها تمثالين.
-” تروحي فين!؟”
-” ع البيت!”
-” لازم نحكي ونعرف شو بدك تعملي…” قال طارق.
-” أعمل مع علاء؟ شو بدي اعمل يعني؟ راح ارجع له… تجوز، ومخبي كتير مصاري، وشاري شقة ملك، كل الأشياء هاي مش مهمة.. المهم انو انا مرته…”
-” يبقى ورقة عقد الزواج اللي بتربطكم؟! نووووون، خليك الليلة عنا… لازم نحكي..” قال طارق.
-” ولازم تحكي مع علاء، حاول مرتين ثلاث يحكي معك، قلنا لازم انت اللي تردي..” قالت سامية..”خلينا ناكل اولاً.. بعدين احكي معاه، شو رأيك؟”
لكنها اتصلت به قبل ان تأكل..
-” اتصلت عليك كتير؛ ما ردّيتِ علي…”
-” كنت نايمة..”
-” اسمعيني، ما في معي وقت، اسمعيني: انا اليوم قلت لك: لازم نكمل حياتنا بطريقة تانية! ممكن أكون تسرَّعت وخليتك تقلقي.. طلبتِ مني أعتذر.. حقك عليّ، أنا أسف..”
-” آسف ع أيش؟”
-” اسمعيني!”
-” آسف ع أيش؟”
-” بس أنتِ أهنتيني مع خلقة أجير عندي.. مش سهلة والله.. وبدك مصاري راح أصير أدبر لك أكتر.. إسمعيني، إسمعيني.. وبترجاك ما تبقي تجرحي مشاعري لأني ضرير.. ماشي؟ بدي اقول لك اني راجع بعد اربعة ايام.. انا مع اصحابي في ايلات.. هدا ما اله علاقة بزعلنا اليوم.. ماشي؟! اسمعي، إسمعي، إسمعيني، في مية شيكل في درج الكومدينا بتقدري تستعمليهم… انت وين في غرفة النوم ولا في الصالة؟!”
-“….”
-” سامعتيني؟!”
-” سامعتك… كنت بتساءل بس كيف ممكن يروح زلمة متجوز زيك ع رحلة من غير ما ياخد مرته معه!؟”
-” أنت اصلاً -بتعرفي- صعب عليك وانت ضفة تدخلي ع ايلات..”
-” وليش مش صعب مع ياسمين؟!”
-” ….”
-” علاء، شكلك متقتل مع ياسمين؟!”
-“….”
-” ولاَّ ماخذها معك ومبعِّد عنها عشان تاخد حريتك بالكلام معي؟ دير بالك، أوعَ تكون ياسمين حواليك ومقربة منك عشان تتسمَّع ع كلامك.. مسكين انت، ضرير وما بتشوف..”
-” انت وين!!!!”
-” ما تقلق.. ما تقلق..”
-” انت وين!!!!”
-” مش ببيتك.. لا بيت الآجار في العيسوية ولا بيت الملك في شعفاط..”
-” انت وين!!!!”
-” عند صاحبتي..”
-” عندك صاحبات؟!”
-” تصور؟ أنا عند صاحبات..”
لم يقل شيئاً. كان مصدوماً من هدوئها وموضوع صاحبتها وياسمين وبيته الملك.
-” ندى، سيبك من كل هالمشاكل، أنا بحبك ومش راح اسيبك!”
-” كيِّف اربعة ايام في إيلات، بترجع وبنحكي!”
-” أنا بحبك، ندى، بحبك… بحبك أنتِ..”
-” علاء، أنت كزبت علي كتير…”
-” عشاني بحبك…”
-” يبقى لازم نكمل حياتنا بطريقة تانية، زي ما قلت! بطريقة جديدة!”
-” موافق… بطريقة جديدة!.. ممكن أخلِّيكِ تشتغلي!…”
-” تصبح ع خير!”
-” تصبحي ع خير… تصبحي ع خير ندى…”
امرأة جميلة كانت، حتى بعروق النسا وعينيها المتعبتين وشعرها المتقصف وملابسها غير الجديدة. امرأة جميلة كانت تحلم دائماً برجل وهو مرتمٍ أرضاً وقد فُقِئَتْ عيناه، وكانت تستلذ بمرأى الدم، وكان الجريح يستغيث بها وكانت دائماً تسقيه شربة ماء فيرتوي موتاً وصمتاً. ذات ليلة لم تعرف فيها طعم النوم، قررت انها ستزرع في عينيها أحلاماً جديدة وتسقيها بكثير من ماء الأمل وقليل من ندى الشك….
١٨ أيار٢٠١١
جمال القواسمي
شكر خاص للشاعر المقدسي فوزي البكري لأهتمامه بتدقيق النص لغوياً.
السن الذهبية / ادريس خالي
نصوص / تغريد عبد العال
مختارات من “ومخالب إذا لزم الأمر” / خالد أبو بكر