كانت التجربة الباطنية – الصوفية تعني على صعيد الأدب واللغة، الفصل بين الإسم والمسمى، والتوكيد على أن العبارة “الإسم” لا تساوي المعبر عنه “المسمى”، فالعلاقة بينهما علاقة اشارة ورمز، لا علاقة مطابقة وهوية. أو هي بتعبير آخر، علاقة احتمال لا علاقة يقين. وقد أدى القول بالعلاقة اليقينية الى الأخذ بحرفية الكلمات، ومحاكمة الشعر منطقيا وأخلاقيا. بل أن هذا كان من أهم القصص النقدية التقليدية. من هنا كان النقاد يسمون الشعر الذي يوحي بعلاقات احتمالية شعرا غامضا.
فحين وصف عبدالله بن قيس الرقيات ناقته في سيرها الى ممدوحه، قائلا : “سواء عليها ليلها ونهارها”، علق ابن أبي عتيق، ناقد الحجاز، قائلا : “هذه يا أبن أم، فيما أرى عمياء”؟ وقيل أن الشاعر رآه فسلم عليه، فرد ابن أبي عتيق بقوله “وعليك السلام يا فارس العمياء”. فقال له : “ما هذا الإسم الحادث يا أبا محمد، بأبي أنت؟” قال “أنت سميت نفسك حيث تقول: سواء عليها ليلها ونهارها”، فما يستوي الليل والنهار الا على عمياء. قال : “أنما عنيت التعب”. قال ابن أبي عتيق: “فبيتك هذا يحتاج الى ترجمان ليترجم عنه”.
فالناقد هنا يريد مطابقة مباشرة بين الإسم والمسمى، بين العبارة وما تعبر عنه. والا كان الكلام غامضا ويحتاج الى ترجمان. وهذا الموقف النقدي هو في أساس النظرة التي أنكرت على الشعر المحدث اتجاهه الى اقامة علاقات احتمالية بلجوئه الى المجاز والتخييل، مما بلبل يقينية الذوق التقليدي. وقد عبر عن هذا الموقف، بشكل استقصاء منظم، الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري. وقد نفى الآمدي أن تكون دقة المعاني مقياسا صالحا لتقييم الشعر، لأن هذه الدقة موجودة في كل لغة وكل أمة. المقياس أذن ما تنفرد به اللغة العربية، وهو البيان والفصاحة. ولهذا كان أفضل الشعراء أكثرهم بيانا وفصاحة. ولا يكون البيان والفصاحة الا بالبعد عن دقيق المعاني. وهكذا يكون الشعر الحقيقي هو ما كانت ألفاظه في مواضعها، قريبة المأخذ، وما كانت معانيه واردة بالألفاظ المعتادة المستعملة في أمثال هذه المعاني. واذا كان الشعر بيانا في الدرجة الأولى، وكان البيان خاصية عربية فإن الشعر في المقام الأول، بنية ألفاظ، “فصنعة الألفاظ قائمة بنفسها مستغنية عما سواها”. “واذا لم يسلك الشاعر في شعره هذه الطريقة سمي حكيما وفيلسوفا، لكنه لا يكون شاعرا ولا بليغا، لأن طريقته التي سلكها ليست على طريقة العرب ولا على مذاهبهم”.
لكن أبا نواس وأبا تمام أقاما أسسا للجديد، فلم يعد بالنسبة اليهما تنويع على القديم، أو ترميما له، أو صهرا لعناصره في صيغة جديدة. أي أن الجديد لا يكون جديدا الا أذا كان نفيا للقديم – فنيا. لكن لا ينفي هذا النفي الفني أن يكون الجديد كامنا في القديم، أعني أن يكون من ممكنات القديم. لكن الدليل على أنه لم ينتقل من الإمكان الى الفعل الا في هذه اللحظة هو أن القديم كان يحول دون انتقاله، ودون تحققه – أي كان ينفيه. ولذلك لا يقدر الجديد أن يتحقق الا أذا نفى القوة التي كانت تنفيه، أعني القديم.
الكاتب والمحَرَّم – مع ناصر الظفيري
رهائن في عقل زوكربرغ / زادي سميث
الكاتب والمحَرَّم – مع راجي بطحيش