اذا كانت الفنون التشكيلية، وكذلك فنون الغناء والموسيقى، تمثل اشكالية فعلية في الخطاب الديني كله، بحكم اصراره على التمسك الحرفي بالنصوص الثانوية، فإن هذه الإشكالية يجب أن لا يكون لها وجود في مجال النصوص الأدبية في خطاب يفترض أنه يتأسس على نص “معجز” أدبيا بشكل خاص. ومع ذلك فللخطاب الديني معاركه التي لا تنتهي مع نصوص أدبية، يستحيل أن يقال عنها أنها “تثير الغرائز” أو “تخاطب الحواس”، أقرب هذه المعارك – وأقدمها في الوقت نفسه- معركته مع رواية “أولاد حارتنا” للكاتب نجيب محفوظ، التي صودرت ومنع نشرها في مصر منذ ما يزيد على أربعين عاما. وبعد أن منح الكاتب جائزة نوبل وتضمن قرار لجنة منح الجوائز اشادة خاصة بالرواية، أمل البعض في الأزهر أن يعيد النظر في قرار المصادرة والمنع، ولكن أصوات “المعتدلين” ارتفعت احتجاجا و استنكارا لهذا المطلب، وتهدد الشيخ محمد الغزالي وتوعد في عموده بالصفحة الأخيرة من جريدة” الشعب” : “هذا ديننا” متمثلا بالقرآن الكريم في وجه المطالبين بذلك قائلا “وان عدتم عدنا”. لقد قرر الخطاب الديني الرسمي منذ ما يقرب من نصف قرن- أن هناك تعارضا بين الرواية والعقيدة، وها هو الخطاب “المعتدل” يرفض مجرد استئناف الحكم، أو اعادة النظر في القرار، يرفض بكل حسم ويقين وقطع.
وليس هذا حال الخطاب الديني في مصر وحدها، أو في العالم العربي وحده، بل هذا ديدن الخطاب الديني في العالم الإسلامي كله، فقد أحدثت رواية نشرت بالانجليزية في بريطانيا دويا هائلا في هذا العالم، خاصة في الهند وباكستان وايران، هذا فضلا عن ثورة المسلمين في كل من انجلترا وأمريكا وتظاهرهم ضد دار النشر والمؤلف، ومطالبتهم بمصادرة الرواية. وقد قامت في كل من الهند وباكستان مظاهرات قتل فيها -فيما نقلت وكالات الأنباء- عدد من المتظاهرين. وقد أصدر الإمام الخميني -الزعيم الروحي للثورة الإيرانية- بيانا تضمن فتوى بإهدار دم المؤلف، واعتبر ذلك واجبا على كل مسلم يتمكن منه، والمسلم الذي يقتل في سبيل أداء هذا الواجب يعد شهيدا وينال الخلود في الجنة. وقد رد المؤلف الهندي الأصل -واسمه سلمان رشدي- على الإتهام قائلا :
“ليس في الرواية هجوم على الإسلام، ولا تتضمن أي استهزاء بالعقيدة، كما أنها لا تعني توجيه اهانة لأحد. وأنا أشك أن يكون الإمام الخميني أو أحد من المعترضين في ايران قد قرأ الرواية، بل هم في الغالب يستندون في أحكامهم على الرواية الى العبارات أو الجمل المنتزعة من سياقها … وأنه لأمر مخيف أن يكون رد فعل الناس بهذه الدرجة من العنف ضد رواية مجرد رواية- يتصورون أنها تهدد العقيدة، وتقف ضد التاريخ الإسلامي كله”.
في هذه الجملة الأخيرة من حديث مؤلف رواية “آيات شيطانية” -وهي شبيهة بما صرح به نجيب محفوظ مرارا بلغته الهادئة المسالمة- تكمن وبالأحرى تتكشف معضلة الخطاب الديني وأزمته. ولسنا هنا بصدد مناقشة القيمة الأدبية لهذه الرواية أو تلك، فهذا أمر له مجاله وله علماؤه المختصون. ومن المؤكد أن رجال الدين وعلماءه ليسوا من أهل الاختصاص في هذا المجال، لكنهم -رغم ذلك- يقيمون من أنفسهم حراسا مدافعين عن العقيدة ضد أخطار من صنع أوهامهم وخيالهم. ومع افتراض صحة وجود تناقض ما بين تأويلهم وفهمهم للعقيدة وبين بعض الأعمال الأدبية أو الفنية فهل معنى ذلك أن العقيدة هي بالضرورة الأضعف والقابلة دائما للانكسار والهزيمة؟ ألا يعني هذا التصور المبني على الخوف الدائم أن الضعف والتهافت كامن في بنية الخطاب الديني ذاته؟
من كتاب نقد الخطاب الديني. نصر حامد أبو زيد
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو