ان الحياة العامة العصرية ، عندما ينظر اليها كرواية أو كمسرحية ، لا كتجارة أو مادة خام لدراسة اجتماعية ، هي التي تتيح لنا ان نرى ونفهم بأكبر قدر من اليسر كيف يكون المثقفون نموذجا ، ليس فقط لحركة سرية أو اجتماعية كبرى ، وأنما لأسلوب حياة وأداء اجتماعي غريب الأطوار فعلا، بل خشن ، يتفردون به. وهل ثمة مكان لإيجاد أول وصف لذاك الدور أفضل من بعض الروايات العظيمة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين – مثل “الآباء والبنون” لتورغنيف و”التربية العاطفية” لفلوبير، و “صورة الفنان شابا” لجويس – التي يتأثر فيها تمثيل الواقع الاجتماعي بعمق، لا بل يتغير على نحو حاسم، بفعل الظهور المفاجئ لممثل جديد، هو المثقف الشاب العصري.
فالصورة التي رسمها تورغنيف لروسيا الريفية في الستينات من القرن الماضي تظهرها ساحرة في بساطتها، وهادئة خالية من الأحداث الهامة : شبان ذوو أملاك يتوارثون عاداتهم الحياتية عن آبائهم، يتزوجون وينجبون، وتقدم الحياة على نحو أو آخر. وتبقى الحالة على هذا المنوال ألا ان يقتحم حياتهم فجأة شخص فوضوي لكنه مع ذلك يمتلك شخصية شديدة التركيز، هو بازاروف، وأول ما نلاحظه فيه أنه قطع روابطه بوالديه ويبدو كشخصية أنتجت نفسها بنفسها، تتحدى الروتين، وتهاجم التفاهة و الأفكار المكررة الى درجة الإبتذال، وتدافع عن قيم جديدة علمية غير عاطفية تبدو منطقية و تقدمية. يطرح بازاروف أفكار العلم المادي الألماني: أي ان الطبيعة في رأيه ليست معبدا، بل مشغلا. وعندما يعشق انا سيرغييفنا، تنجذب اليه ، لكنها تصاب بالذعر منه ، لأن طاقته الفكرية غير المقيدة ، والفوضوية غالبا ، توحي لها بعدم الانتظام ، و تقول في احدى المراحل ان معاشرته أشبه بالترنح على حافة هاوية.
وتتضح هذه الحالة بجلاء أكبر مع الشاب ستيفن ديدالوس في قصة جيمس جويس، الذي كان خطه المهني المبكر برمته متأرجحة بين التملق لمؤسسات مثل الكنيسة، وحرفة التدريس، والقومية الايرلندية ، وبين فرديته المنبثقة ببطء ، والمتسمة بالعناد كمثقف شعاره الرفض الشيطاني للخدمة. وثمة ملاحظة ممتازة على “صورة الفنان” لجوويس من شيموس دين ، يقول فيها “انها الرواية الأولى في الإنجليزية التي يعرض فيها الشغف بالتفكير على نحو تام”. فنحن لا نجد في روايات ديكنز، أو ثاكاري، أو أوستن ، أو هاردي . أو حتى جورج أليوت، شبانا وشابات اهتمامهم الرئيسي حياة العقل في المجتمع، في حين يرى ديدالوس الشاب ان “التفكير أسلوب لاختبار العالم”. وشيموس دين محق جدا في قوله ان المهنة الفكرية قبل ديدالوس لم تكن لها في الأدب القصصي الإنجليزي سوى “تجسيدات مشوهة”. وبرغم ذلك، يتحتم على ستيفن ديدالوس، لأنه جزئيا شاب ريفي ونتاج بيئة استعمارية، ان ينمي وعيا فكريا مقاوما قبل ان يكون في مقدوره ان يصبح فنانا.
عن صور المثقف، ادوارد سعيد، دار النهار ١٩٩٣
عندما يفكر الأدب / آلان باديو
مدارات ادونيس – الحقيقة طريق، سؤال متواصل
العنـــف الرمـــزي عند بيير بورديو