إن غصة ريلكه في أشعاره، غصة ميتافيزيقية. لو كان الشاعر وجوديا لكانت له غصة أخرى. مشكلته الأساس الديني لإحساسه. شعره مكتظ بآه وآخ وتنهدات لا تنقطع. يأتي الموت لكي يدمغ بدمغته أية إمكانية للاستغراق في الوجود أو حتى لافتراض الحياة
ثمة شعراء وسطاء بين شعريات عالمية والشعر العربي، كان دورهم مميزاً في تعريف القارئ العربي، من خلال الترجمة، بأبرز رموز الشعر العالمي في مختلف اللغات الحية، وكان لهم دور في صنع الحداثة الشعرية العربية.
لقد أصبح من المألوف، في الأدبيات النقدية والمرجعية للشعر العربي الحديث والمعاصر، ذكر شعراء عالميين من أمثال إليوت وبوند وويتمان وبيرس وإيلوار وبودلير ورمبو وأبولينير وألن بو وميشو وبريفير وبريتون ولوركا ونيرودا وماتشادو، ونوفاليس وشيلر وريلكه… وسواهم عشرات بل مئات الشعراء البارزين في الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والروسية… وصولاً الى الشعر الصيني وشعر الهايكو الياباني، فكيف انقلبت الصورة بين النظرة النقدية والفلسفية القديمة لترجمة الشعر والنظرة الحديثة؟ وهل في الإمكان دراسة ورصد معالم الحداثة الشعرية العربية بخاصة، بمعزل عن دور الترجمات الشعرية المتنوعة التي نقلت للعربية الحديثة والمعاصرة، أبرز تجارب الحداثة الشعرية في العالم؟
يندر أن يذكر اسم شاعر عربي حديث، من جيل المؤسسين بخاصة، من دون أن يذكر خلفه أو معه، اسم شاعر من شعراء الفرنسية أو الإنكليزية أو الإسبانية، يجلس في خلفية المعنى المؤسس للشعر، أو النظرة للعالم، أو التقنية الأسلوبية، ويقرن به. فمن المألوف، نقديا ومعرفيا، على سبيل المثال، أن تذكر أديث ستويل عند ذكر السياب، وسان جون بيرس عند ذكر أدونيس، وعزرا بوند مقترنا بيوسف الخال، وأنتونان آرتو مقترنا بأنسي الحاج… ويانيس ريتسوس مع سعدي يوسف، ويفرد ت.س. إليوت جناحه على جملة شعراء عرب محدثين، ولغارسيا لوركا بصماته أيضا، وهو أمر جدير بالبحث والانتباه… أعني التدخل الأكيد لأبرز الشعريات العالمية الحديثة في صنع الحداثة الشعرية العربية… ما يستدعي دراسات نصية مقارنة لهذه الناحية، لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام حتى اليوم، سواء في الدراسات الأكاديمية المنهجية، أو في الدراسات النقدية والأسلوبية، خارج إطار الأبحاث الجامعية.
هنا تبرز ملاحظتان لا بد من ذكرهما: الأولى تتعلق بنظرة النقد العربي القديم والكلاسيكي لترجمة الشعر، والتي لخصها الجاحظ برأيه في صعوبة ترجمة الشعر من لغة لأخرى إلا بما يوازيه أو يعادله. من أجل ذلك، بقي الشعر العربي القديم والوسيط حتى مطالع القرون الحديثة، محصناً ضد تأثير الشعريات الأخرى، بأية لغة كتبت… ففي الوقت الذي ترجمت فيه الى العربية فلسفة اليونان، وحكايات الفرس، بقي الشعر اليوناني والمسرح اليوناني والشعر الفارسي، على العموم، في مكان بعيد عن التأثير في صيرورة الشعر العربي إلا من خلال بعض المعاني… لكن هذه البراءة للشعر العربي لم تستطع أن تصمد مع مطالع الحداثة الغربية… ثم تم اجتياحها اجتياحا قويا مع مطالع القرن العشرين، ولا يزال هذا الاجتياح مستمرا حتى اليوم. لا نستطيع أن نقول: لحسن الحظ أو لسوء الحظ حصل هذا الأمر، لكن نقول إنه التفاعل الضروري للحياة وللصيرورة، ولا بد له من أن يطال الشعر أيضاً.
والملاحظة الثانية هي أن الأثر المتبادل بين الشعر العربي والشعر الأجنبي بلغاته المتباينة، لم يكن متساويا أو متوازيا… صحيح أن الشعر العربي العذري للمجنون (قيس بن الملوح) ترك بصماته على أراغون الفرنسي في ديوانه <<مجنون إلسا>>، وأن ثمة بصمات مؤكدة للشعر العربي في الأندلس وللحضارة العربية على الشعر الإسباني الحديث وعلى شعر غارسيا لوركا بشكل خاص، إلا أن العولمة الشعرية لم تكن متوازنة بين الشعر العربي الحديث وكل من الشعر الفرنسي أو الإنكليزي أو الروسي. لقد أخذنا أكثر مما أعطينا بكثير، وقد تأثرنا أكثر مما أثرنا. وهذه مسألة، هي بدورها، بحاجة لدراسات مقارنة متأنية لم يوفها الدارسون حقها حتى اليوم.
فالترجمات، حتى لو كانت في الشعر من المسائل الإشكالية، تركت بصماتها على الشعر العربي الحديث. إننا لا نستطيع أن نمر بحياد، أمام ما قامت به مجلة <<شعر>> وشعراؤها القياديون في هذا الحقل… مثلها مجلة <<مواقف>> والملحق الثقافي لجريدة النهار، ومجلات ثقافية متخصصة في الترجمة، صدرت عن وزارة الثقافة في كل من مصر وسوريا والعراق… فضلاً عن الجهود الخاصة للشعراء والمترجمين العرب.
ثمة ترجمات جميلة قام بها شعراء عرب، لشعراء أجانب، تفضلها على بعض شعرهم بالذات. إن ترجمة الشاعر ميشال سليمان لقصائد <<سيف اللهب>> لبابلو نيرودا، أكثر رونقاً وحرية من الكثير من شعره الأصيل. إن ترجمات سعدي يوسف لإيماءات يانيس ريتسوس مائية ورائقة، وتكاد لا تفصلها عن شعره…؟
مراثي دوينو لريلكه: ترجمة فؤاد رفقة
هنا الآن، بين أيدينا، ما قام به الشاعر اللبناني فؤاد رفقة، من ترجمة لديوان <<مراثي دوينو>> للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، عن اللغة الألمانية مباشرة، وهي اللغة التي كتب بها الشاعر أشعاره.
فؤاد رفقة شاعر حداثي عربي، من رعيل مجلة شعر اللبنانية، أجرى دراساته العالية في ألمانيا، وأتقن الألمانية إتقاناً سمح له بترجمة عدد من الشعراء الألمان المعدودين الى العربية.. فبالإضافة لريلكه، فقد عرّفنا رفقة بكل من شعراء الرومانسية الصوفية الألمان: شيلر ونوفاليس وهلدرلن، كما عرّفنا بغيورغ تراكل.. وهو على كل حال، يكاد يكون متخصصا في نقل الشعر الألماني الى العربية… ما يضيف حساسية جديدة الى هذه اللغة، ويساعد في إغناء شعريتها.
ليس لدينا فكرة أو قدرة على الحكم على صنيع رفقة، لجهة المقارنة بين لغتين: الألمانية والعربية، لعدم معرفتنا باللغة الأولى.. كما أن الشاعر لم يذكر أسلوبه الذي اعتمده في ترجمة القصائد. هل تصرف بها؟ هل أضاف؟ هل أنقص؟ هل كتب شعراً على شعر آخر؟.. ثم، أخيرا، وعلى السنّة الجاحظية، هل جاء من خلال ترجمته لمراثي دوينو، بقصائد بالعربية لا تقل عن الأصل الألماني؟
إنها أسئلة إشكالية ليس في وسعنا الخوض فيها، وندعو من يتصدى لها لقراءة مقارنة باللغتين معاً، لا من جهة النص العربي وحده، كما نفعل نحن.
Pages: 1 2
“فساد الأمكنة”.. تصدعات الحكمة، واستفحال المأساة
“الحالة الحرجة للمدعو ك” – فخّ “اليوميات” بين الحيلة الشكلية والغاية البنيوية
“كتاب النوم”.. تأملات كثيفة كالحُلم / محمود حسني