.. نيميسيس هي إلهة الانتقام التّي تحرس بعين يقظة كلّ محاولة للبشر أن يكونوا متساوين مع الآلهة، وتذلّ كلّ من حصل على هبات و قدرات خارقة إلى حدّ التملق للآلهة، لكن هذا لا يشرح لماذا تهاجم هذه الإلهة الخارقة اوجين كانتور، المعروف ب” بوكي”،بطل رواية “نيميسيس ” في آخر روايات فيليب روث، هو لم يفتخر بشيء ولم يحصل على هبات أو قدرات خارقة، ما عدا ميزات رياضيّة جسديّة وقد اكتسبها بجهوده الخاصة ، الصّرامة والتّواضع ما يميّز العديد من أبطال روايات روث،في هذا المعنى،هو ليس بعيدا عن السّويدي،بطل رواية(الرّاعي الأمريكي) أو (ماركوس ميسنر) في رواية (سخط / Indignation ) ومثلهم سيواجه نفس المصير الغير العادل، نحن، الآن في نيوآرك،السنوات الأربعينات، تدور الحرب على مسافة بعيدة،على الجّبهة اليابانيّة وفي أوروبا،لم يقيّد اوجين كانتور في الخدمة العسكرية بسبب بصره الضّعيف،فيما بين نفسه، كان حزينا لانه لم يلتحق بصديقي الطفولة،جاك و دايف اللذين أرسلا للخدمة كمظليين في الجبهة الفرنسيّة،بعد تفكير فيما سيفعله يقرّر الالتحاق بمعسكر(Weequahic )الرّياضي، سيقوم بتعليم شباب المعسكر مختلف الألعاب الرّياضيّة وينظّم الفرق ويشرّف على الأنشطة، و مع ذلك وبسبب الحرارة وأجواء الرّطبة للمستنقعات القريبة من المعسكر،يتفشّى وباء شلل الأطفال، بدأت تظهر أعراضه الأولى في الحيّ الايطالي وانتشر في الحيّ اليهودي،فكان أوّل ردّ فعل هو عداء المجتمع اللاّتيني،و وجد بوكي نفسه مضطرا للتعامل بعنف مع مجموعة من المراهقين أصحاب النّوايا السّيّئة،يجب ان نقول انه تعلم هذا من جدّه عندما كان مراهقا، بقال من المدرسة القديمة،الذين صنعوا لنفسهم مكانا في بيئة معادية للأجانب والغرباء، لم يعلمه جده فقط الدفاع عن نفسه، بل، أيضا علمه كل ما يحتاجه شاب في الحياة وفي جميع الحالات،يتيم الأمّ، فتمتع بعاطفة جدّته التي اهتمت به إلى أقصى حدّ خاصة بعدما مات جدّه،تضرب الموت فجأة صبيين صغيرين وآخرون يطالهم الوباء فينتشر الذّعر بين النّاس،البعض يتفاعلون مع الوضع بهستيرية مبالغ فيها، آخرون يعزون الأمر للمواد الغذائيّة التّي تباع على الأرصفة،أمّا”هوراس”المجنون الذّي يعيش حياة التّشرّد فيتجول في المعسكر ويصافح جميع اللاّعبين،يحاول اوجين كانتور، المدعو ببوكي مقاومة الشّرّ، الإجابة على توقعات النّاس الخائفين والإجابة على أسئلتهم بعقلانيّة،حتى هو وجد نفسه محجوز في سيل الذّعر والفوبيا،سيثور في فورة غضب لم يعهدها في نفسه عند موت اعزّ صديقين له،(آلان)و(هيربي)،غضب متصّل بذكرى موت أمّه، موجه ضدّ الله، وسيكون هذا واضح بصفة خاصة في المشهد عند دفن آلان، مكرّرا عبارات طقوس القداس اليهودي، هذا السّخط لا يغادره إطلاقا خلال هذا الموسم،هنا شخصيّة أخرى مهمّة بعد بوكي وهو الصّوت،الرّاوي،( آرني) ، صبيّ صغير في ذلك الوقت،هو نفسه ضحيّة للوباء،وستبقى آثار هذه التّجربة المريرة لصيقة في ذاكرتهما حتى سنة 1971،في هذا العام وفي الواقع سيلتقيان ببعضهما وقد تحوّلا أيّما تحوّل، أصبحا شخصان مختلفين عّما كانا عليه في الماضي،”المتعة المأساويّة” تعتمد في المقام الأوّل على شخصيّة بوكي،هذا الشّاب المتطلب يريد حماية الأطفال،مواصلة ما يراه هو بالمهمّة القدريّة،يقاوم توسّلات خطيبته(مارسيا) وابنة الطبيب(شتاينبرغ) والذّي يحمل له كلّ الإعجاب والتّقدير، تريد منه مارسيا أن يترك عمله، المعسكر الذّي أصبح موبوءا وينضمّ اليها حيث تقيم على ضفاف بحيرة بنسلفانيا،حيث بإمكانه هناك أن يعمل منشطا في مخيّم،لا يقاوم فكرة خيانة طائفته التّي يعتبرها عائلته الكبيرة،التّخلي عن الأطفال وجدّته المسنّة،الوباء القاتل هو نيميسيس التّي تلاحقه إلى ما لانهاية وتقتل كلّ من يحبّهم،نيميسيس هي أيضا اللعنة، كغيرها من روايات فيليب روث،فهذه الرواية هي أيضا كغيرها مرتبطة بمكان ما و زمن،ما يعاب على روث هو اهتمامه الزّائد بالأفراد،يأخذون حيزا كبيرا في نصوصه الأخيرة والانعزال في الحميمي، في هذه الرّواية، الخلفيّة التّاريخيّة واضحة وبارزة، فالحرب ضدّ الوباء ليست اقلّ عنفا وعنفوانا، وبالأصح تدميرا ودمارا من الحرب الأخرى الدّائرة في أوروبا والباسيفيكي،كالرّدود العدائيّة ضدّ كائن ضعيف ومختل عقليّا مثل هوراس، ونفس الشّيء ينطبق عن العداء الظالم للطائفة،للآخر وللمختلف،وفي الوقت الذّي تعلّق الأمر بوضع(Weequahic) في الحجر الصّحي، يذكّر هذا بثقافة”الغيتوهات”، العزل،السّجن في أحياء خاصة بطائفة ما،غياب أي إشارة إلى النّازيّة هي في حدّ ذاته أعراض للطريقة التّي يعيش بها الأمريكيون أحداث الحرب، تجاهلهم التام للمجازر المرتكبة، محتشدات التّرحيل والإبادة،بالنسبة ل”اوجين كانتور”و رفاقه،تتلخّص الحرب في النضال البطولي لرفاقه وأفراد طائفته الدّينيّة، الخوف على هؤلاء الموجودين على الجّبهة من أن يحصل لهم مكروه ما، في المحصلة لا يمكن فهم حقيقة هذه الرّواية دون أن نستوعب قيمة المكان وهو( نيوآرك)، فضاء فيليب روث المفضّل والمحبّب،إضافة إلى ( نيوآرك)،حيّ(Weequahic )، منزل الطبيب شتانبيرغ،وفي احد المشاهد الجّميلة يسال بوكي الطّبيب عن الوباء،ثمّ يطلب يدّ ابنته مارسيا،فوجوده عند عائلة شتانبيرغ هو كونه انه يريد أن يكون واحدا منهم، أن تكون له عائلة، هذه الحالة المفقودة لديه منذ الصّغر، حتى لو كان حبّ جدّه وجدّته عوضاه ولو على مضض فقدان الوالدين، لقد عرف القارئ من قبل فيليب روث المتهكّم والماكر،السّاخر من العلاقات العائليّة،رواية(Némésis /نيميسيس) تختم دائرة ما يسمّيه روث بالرّوايات القصيرة،مع رواية(Un homme)،(Indignation )،( Le rabaissement )،تشترك جميعها في الألم،حكاية جنّة مفقودة وقصّة حبّ مستحيلة،حيث نقرا في الصّفحة 105 و106 المقطع التالي:<<بعد كلّ هذا الوقت،خاطر ما يشوّش ذهن كانتور على حين غرّة منه، لا يترك في سلام،بأنّ الله لم يكتف فقط بنشر الوباء ينتشر بشكل سريع في ضاحيّة (Weequahic)، لكن منذ ثلاثة وعشرون سنة فيما مضى،سمح الله أيضا سمح بموت أمّه، فقط،بعد عامين فقط من إكمال تعليمه،لم يفكّر إطلاقا في موتها من هذه الزّاوية،في السّابق و بسبب الرّعاية التّي أغدقها عليه جدّيه،بدا له وهذا كان دائما بان فقدانه لأمّه عند ولادته كان من قبيل القضاء و القدر، جزء من مصيره، بحكم انه تربّى على يدّ جديه المحبوبين كان نتيجة طبيعيّة لهذه الموت،بمعنى آخر، اعتناء جدّيه به نتيجته موت أمّه، أغلى ما لديه في الوجود،شيء مقابل شيء آخر،نفس الشّيء،وبحكم أن أباه كان مقامرا ومحتالا هذا أيضا جزء من مصيره وليس بمقدوره تغيير شيء في هذا، وان مهما حدث في حياته فالوضع سيبقى على حاله، في المحصّلة، الأمر يتعلّق بالقضاء والقدر،لا توجد قوّة في العالم ستغيّر شيئا في حياته،لكن،الآن وهو شاب،أصبح بمقدوره أن يفهم ويستوعب أو هذا ما خيّل له بعد تجربة لا باس بها في الحياة،استنتاج يراه يقينا وهو أنّ الأشياء لا يمكن أن تكون بخلاف ما كانت عليه،كلّ هذا بسبب الله،ولو لم يكن الله، أو طبيعة قدريّة،فستكون شيء آخر،لا يستطيع شرح هذا النّوع من الأفكار لجدّته ذات طبيعة محافظة والتّي بالطبع لم تكن مستعدة ولا سنّها يسمح بتقبّل هذا النّوع من التّفكير ونفس الشّيء ينطبق على جدّه >> ..
..لم تكن اليهودية شغل شاغل فيليب روث والذّي يرفض أن ينظر له على انه كاتب يهودي،في البيت فيتحدّثون بالانجليزيّة، ولا يذكر شيء عن النّزوح الجّماعي لليهود، ولم يكن لديه أيّ سبب ليتحدّث عن نفسه كيهودي بشكل خاص، رغم أن النّقد والنقاد والقرّاء ما فتئوا يذكّرونه في كلّ مرّة بجذوره، بدا النّقد أوّلا وبحدّة مع رواية شكوى بورتنوي،لامه الحاخامات على سلوكه هذا وانتقدوا الكلمات المذكورة المتعلّقة باليهود والتّي تضرّ بمجتمعهم، فمن المعروف أن المتديّنين ينظرون بعين اللارضا والسّخط كلّما تعلق الأمر بالجّنس أو ما شابه ذلك فما بالك باليهوديّة،الوضع بالنسبة لهم لا يطاق و خاصة إذا كان هذا المساس بهم يأتي من يهودي، من أبناء جلدتهم وهذا ما تجرّأ على فعله روث،وان كانت يهوديّة المؤلف ليست قضيّة مركزيّة في كتاباته،مع ذلك انها تظهر لماما في بعض من نصوصه ( في شكوى بوتنوي، الخروج عن العائلة هو الخروج عن الرّموز والثّوابت الدّينيّة لليهود)، أو بشكل أكثر وضوحا وخاصة في(عمليّة شيلوك) و(مؤامرة ضدّ أمريكا)،ففي الرواية الأولى، شبه سيرة ذاتيّة،حيث يسافر فيليب روث الى اسرائيل للبحث عن مثيله، نسخته الأخرى التّي تنشط في مجال إعادة اليهود إلى إسرائيل، أما في الثانيّة،فهي رواية “تاريخ بديل”،إعادة خلق أحداث تاريخيّة حقيقيّة لكن من زاوية المتخيّل،الكاتب يتخّل فوز الطيّار ليندبيرغ بالرّئاسة الأمريكيّة،ماذا سيحدث؟،سيقلده غورينغ أوسمة أو ما شابه ذلك،وسيقيم الرّئيس الأمريكي الجّديد حلفا مع ألمانيا النّازيّة ويضع مخططا جديدا لاستيعاب اليهود،بينما في أوروبا،غالبا ما ترتبط الهجرة بالاندماج، أما في الولايات المتحدة الأمريكيّة فالأمريكيون الولايات المتحدة فيستخدمون في بعض الأحيان مصطلح “الاستيعاب”، ما الفرق بينهما؟،في مؤامرة ضدّ أمريكا تنديد روث واضح ، بالنسبة له فالاستيعاب هو محو أيّ اختلاف ثقافي ، جعل من أخ الرّاوي أمريكي حقيقي على الطريقة الفرنسيّة (petanisation) نسبة للماريشال بيتان رئيس حكومة فيشي الفرنسيّة وسياسة استيعاب اليهود الفرنسيين ( إرسال اليهود بعيدا عن عائلاتهم لزراعة الذرّة)، فالاستيعاب يعتمد أساسا على محوّ الفوارق الثقافيّة، يقول فيليب روث في هذا السّياق:<<اليهود المستوعبون بنوا لأنفسهم نظاما من القيم الإنسانيّة ومن خلاله يحاولون شرح العالم، تأكّد لهم مما لا يدعو للشك بأنّهم لم يعودوا يهودا كما كانوا في السّابق،وما ينطبق على اليهود لا ينطبق عليهم، هذا الآمان الغريب والغير السّويّ جعل منهم ما يشبه مخلوقات عمياء،منذ الأبد، كنت أحبّ اليهود المستوعبين لأنه عندهم الطابع اليهودي وأيضا المصير اليهودي هو مركز اهتمامهم و تفكيرهم>>، في اللّعبة التّي تتطوّر بين روث و مثيله، ينأى روث بنفسه عن”الدياسبورا” أو” الشّتات”ويترك لمثيله تحمّل عبئها،لطمس أكثر تكهّنات القرّاء،للظهور بمظهر اليهودي الذّي استوعبته ثقافة الآخر،وبأنه أفضل حالا وهو في جسد اليهودي ألأمريكي، حيث يعطينا تعريفا خاصا به عن”الدياسبورا”: <<انه يهودي يرى السّبيل الوحيد لتكون يهوديته حقّة هو أن يعيش في الشّتات، من اجل هذا يصبح الشّتات القاعدة والصّهيونيّة الاستثناء، “إنسان الشّتات” هو يهودي يعتقد بأنّ اليهود المهمّين هم فقط يهود الشّتات، وبان في نظره اليهود الحقيقيين هم اليهود الذّين يعيشون في الشّتات>>،و لا يتحرّج فيليب روث عندما يشرح قائلا بان يهود(Upper East Side) سيكونون أكثر أصالة في يهوديتهم لأنّهم ناقلون لإرث الثقافة اليهوديّة بعكس يهود إسرائيل الذّين ينتجون تاريخا ولغة تعتبر اصطناعيّة، أخيرا يقدم لنا روث صورة جميلة لما حدث للصراع العربي الإسرائيلي:أخطبوط مصاب بجنون العظمة والبارانويا:<< على الرغم من حالة الذّعر التّي أصابته و قليل من اليقين الذي مازال متمسّكا به،فلم يعد ممكنا ، بل أصبح مستحيلا منع الكارثة إلى نهايتها الحتميّة،الاشمئزاز المتبادل والذّي يكنّه كلّ واحد منا للآخر تحوّل مع الوقت إلى كارثة حقيقيّة من طرف هذا الإخطبوط المصاب بجنون العظمة >> .
يتبع : العزلة سيئة السمعة
ترجمة الملف عن لوموند الفرنسية: عبد الغني بومعزة
عن الطفولة والكتب – مقابلة مع امبرتو إيكو
نتواصل مع العالم من خلال جذورنا
قصائد للشاعر المكسيكي خورخي كونطراريس هيريرا